كانت الحرب على البوسنة والهرسك في أوج نيرانها، بينما وفي بريجيدور كانت تدوي صرخات مولود جديد أسمته عائلته "جوزيب".
جوزيب لم يرَ والده أبداً، لقد رحل الأب حينما كان عمره سنة واحدة، ربما قبل أن يتعلم النطق، والمشكلة أنه رحل كما قيل مقتولاً.
جوزيب، الذي هو من أب وأم من أصول كرواتية، قررت أسرته أن تهاجر إلى البوسنة والهرسك، وهناك ظنوا أنها ستحميهم من ويلات الحياة، وهناك اكتشفوا أنهم كانوا مخطئين، لكن بالطريقة الصعبة.
بعد رحيل الأب، ترك وراء ظهره أسرة مكونة من ثلاثة أفراد: آنا، إيجور وجوزيب، وحينها لم يكن بيد آنا، وهي الأم بالمناسبة، إلا أن تُغادر بريجيدور قاصدة منطقة آمنة في أي مكان في هذه الدنيا.
المنطقة الآمنة كانت في سلوفينيا، تحديداً كرانج السلوفينية، يومها بدأ جوزيب إيليشيتش ينطق باسم كرة القدم ويتعلم المشي على منهجها، ودون الأب وبرفقة أخيه، كانت الحياة أصعب، لكنها الحياة في النهاية.
لماذا هو بالتحديد؟
عالم كرة القدم عالم غريب، يمكن لمباراة واحدة أن تُظهر اسماً وتُخفي آخر، وكان اسم جوزيب إيليشيتش غريباً على مسامعنا، إلى أن ظهر مدرباً يبدو وقوراً للغاية، شعره أبيض وبزة منمقة، تُعبر عن كل شيء بخصوصه.
هذا الرجل كان اسمه غاسبريني، مدرب الفريق الأزرق في إيطاليا، لمنطقة تُسمى "بيرجامو" والتي ستكون سبباً رئيسياً فيما بعد في نكسة كبيرة تُصيب جوزيب إيليشيتش نفسه.
الفكرة دائماً أن فريق أتالانتا ظهر بسرعة كبيرة، الفريق الذي يكتسح الجميع في إيطاليا أداءً ونتيجة، ولديه كم كبير من اللاعبين البارعين الذين تحسدهم أوروبا كلها عليهم.
من بينهم كان جوزيب إيليشيتش، رجل فارع القامة وشكله يوحي بكبر سن وخبرة كعادة الأشخاص الذين يتمتعون بطول القامة، وهو صاحب أحد أجمل الأهداف في تاريخ الدوري الإيطالي في مرمى تورينو بالتحديد من منتصف الملعب، في مباراة انتهت بفوز أتالانتا بسباعية نظيفة.
وهو نفس الرجل الذي، بعد مدة من هذه المباراة، أصبح أول لاعب في تاريخ دوري أبطال أوروبا يسجل أربعة أهداف كاملة خارج أرضه في أدوار خروج المغلوب، وهو نفسه صاحب الرقم القياسي كأكبر لاعب في تاريخ دوري أبطال أوروبا يسجل أربعة أهداف في مباراة لأدوار خروج المغلوب أمام فالنسيا.
إذن ماذا حدث؟
كل شيء بدأ في 19 فبراير من عام 2020، كان ملعب السان سيرو في إيطاليا شاهداً على ما حدث، إنها مباراة أتالانتا وفالنسيا في ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا، "القنبلة البيوجولية" كما أسماها عمدة مدينة بيرجامو فيما بعد.
لعدم تناسق ملعبهم في بيرجامو مع الأبعاد المنصوص عليها للاتحاد الأوروبي لكرة القدم، سافر أتالانتا إلى ميلانو للعب مبارياته في دوري أبطال أوروبا، يومها سافر معظم سكان المدينة خلفه ومعه إلى هناك.
ما لا يقل عن 44 ألف متفرج باللون الأزرق كانوا في سان سيرو لمساندة أتالانتا، وانتهت المباراة بفوز أتالانتا برباعية مقابل هدف وحيد لفالنسيا، وعاد الناس إلى منازلهم سعداء فرحين بما جلبوا معهم، ولم يعلموا أن ما جلبوه معهم حقاً هي كارثة بشرية حديثة المولد.
لقد عاد الجميع، وبعد ثلاثة أسابيع بدأت أجراس الكنائس تُضرب في كل مكان في المدينة، وعلى كل نعش يُوضع اسم جديد لوفاة جديدة، لقد عاد مشجعو أتالانتا حاملين في أنفاسهم وملابسهم فايروس "كورونا".
بعد ثلاثة أسابيع من نهاية المباراة مات أكثر من 3033 شخص في مدينة بيرجامو خلال أسبوع واحد، وتحولت المدينة لأكبر بؤرة للمرض في إيطاليا كلها، مدير أحد المستشفيات هناك، في بيرجامو، ووهان الإيطالية، التي سُميت بعاصمة الفيروس في إيطاليا، قال إن كرة القدم لا تتغلب على هذه الظروف، لكن بالنسبة للمدينة، مدينة كتلك فقط، كرة القدم تمنحها الأمل.
بيرجامو، التي ولد من رحمها أتالانتا، أغرقتها موجة الكورونا، في كل ساعة، وربما كل دقيقة، كانت الكنائس تؤشر على رحيل فرد، أو أسرة، وفريق أتالانتا عاش الوضع، اللاعبون كانوا يظنون أنفسهم في فيلم رعب، من تلك الأفلام التي يبالغ مخرجها.
من هذه المدينة، وفي هذه الظروف، وضعت آمالها على الفريق، ربما فاز لأنه وصل إلى تلك المرحلة، لكنهم كما وصفهم مشجعهم، فرانز بارسيلا: "لقد عايشوا الموت، يلعبون وكأن في أعينهم غضب، وفي قلوبهم ألم".
وما علاقة ذلك بإيليشيتش؟
يوم أن سافر أتالانتا للعب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا في لشبونة، لم يكن جوزيب إيليشيتش معهم، بعد أن أصيب بفيروس كورونا في سنة 2020 كل شيء تغير.
ولم تكن لشبونة هي الوحيدة التي افتقدت إيليشيتش، بل كل مكان وصله أتالانتا ولم يكن إيليشيتش معهم؛ حتى ظهر في عام 2022 مودعاً فريقه وسط تصفيقات وهتافات الجماهير، ولم يفهم الناس أين كان؟ ولماذا يرحل؟
حينما لا يتحدث إيليشيتش علناً، فهذا يعني أن كل شيء سيحمل رواية مختلفة، لكن الأكيد بخصوصه أنه أصيب باكتئاب حاد أبعده تماماً عن كرة القدم إلى يومنا هذا، وزاد وزنه وتأثرت صحته وحالته النفسية بشكل واضح.
قالوا إن الكورونا والعزل الذي حدث في العالم كله كلفه ما كلفه، وأدى إلى ما نراه حالياً، والقصة الأخرى التي قالوها، والتي تُرجح سوء حالته النفسية؛ هي زوجته.
الاكتئاب
يوم أن تعافى إيليشيتش من الكورونا، قرر أن ينال إجازة قصيرة، يسافر خلالها إلى بلده، سلوفينيا؛ لرؤيته أسرته وزوجته هناك.
وفي لحظة وصوله، اكتشف أن تينا بولوفينا رفقة رجل آخر، ولم تكن تتوقع قدومه، ومن يومها لم تعد الحياة بعد كما كانت قبل، على الأقل بالنسبة لإيليشيتش.
الرجل الذي دخل في دوامات حزن كبيرة أبعدته عن مهنته الأساسية، وأفقدته شكله الطبيعي كرياضي، والقصة تعود إلى عام 2009 تحديداً، حينما قابلها، كانت لاعبة ألعاب قوى سلوفينية حاضرة هناك، وتمتاز في سباقات الـ400 متر.
لما كان يتمرن ورآها، حدث ما حدث، وأصبحا زوجين، ومنذ ذلك الوقت كانت رفيقته في رحلته الطويلة تلك، إلى أن توقفت عند أقدامها ورؤيتها كما رأى.
في سلوفينيا، قالوا إن تينا بولوفينا لم تفعل أي شيء مما ذكرت الصحافة وتناقله الناس، ولما وصلت الإهانات إلى شخصها حتى على حسابات جوزيب إليسيتش الشخصية، أراد ربما أن يرد على الناس بطريقته، فوضع صورتهما معاً كنوع من تبرئتها من جريمة لم ترتكبها.
وفي كل مكان يقولون إن إيليشيتش رجل متسامح، حاول نسيان ما فعلته لكن كل شيء يُذكره بما فعلته، وما زال يضع صورهما رفقة ابنتيهما على كل مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة به كنوع من تبرئة تينا.
وإيليشيتش ليس الأول في عالم كرة القدم، ولن يكون الأخير، لقد حدث ما حدث له للظاهرة رونالدو البرازيلي، في أزمنة مضت، وفي كأس العالم 1998 في أرض فرنسا، وقبل ليالٍ من نهائي كأس العالم.
كان الفريق هناك يصطف حوله، وهو لا يعرف ما حدث، يعرف فقط أنه رآهم يبكون، يعرف أن بعضهم حمد الله كثيراً على عودته للحياة، يعرف أن الأطباء كانوا قلقين بشأنه.
وبيليه نفسه لم يعرف ماذا حدث، والصحافة البرازيلية لم تعرف ماذا حدث، لكنها خمنت أنها سوزانة فيرنر، الفتاة التي كان يواعدها في ذلك الوقت، والتي عملت كصحفية برازيلية، ووصلته أخبار تقول إنها تخونه مع صحفي برازيلي يعرفه، ولما رآها حاول الانتحار للتخلص من عذاب ما رأى.
والصحافة البرازيلية قالت إنها لم تكن سوزانة، بل كان التوتر والقلق قُبيل أهم مباراة في مسيرته، وحدث له هبوط حاد في الدورة الدموية كاد أن يفقده حياته؛ ولعب رونالدو المباراة النهائية بلا حراك، كان يجري لكنه لا يصل إلى أية نقطة، ويتواجد ضمن الفريق لكنه غائباً عنه، وقدم واحدة من أسوأ مبارياته على الإطلاق إن لم تكن الأسوأ.
وسواء كانت سوزانة، أم تينا، فإن الرجل يتأثر لمشاكله العاطفية بشدة، وقد يغيب عن الدنيا إذا فاقت تلك المشكلة قدرته على المواجهة، وقد يكون التوتر والقلق أو ربما الكورونا، وهذا كله يُوضح أنهم ليسوا آلالات، بل هم بشر يمكنهم أن يفقدوا شغفهم نحو مهنتهم الرئيسية إذا طرأت على حياتهم قضية تخصها، وإذا كانت شخصية وتمس رجولتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.