بين كل حين وآخر يهل علينا "تريند" جديد، وتبدأ المعركة بالاحتدام، خاصة إن كان الوضع شائكاً، ومحور الاهتمام يمثل محوري الكون "الرجل والمرأة"، ووصلت الخلافات إلى الرضاعة، حيث يدّعي أنصار التريند أن "الأم مش ملزمة ترضع الطفل"، وفي الحقيقة فإنني أرى هدفاً واحداً يربط بين كل هذه "التريندات" التي تطل على الساحة العربية، ألا وهو "انسلاخ المرأة" شيئاً فشيئاً من كل ما يميز فطرتها وطبيعتها الأنثوية، لتصبح في نهاية الأمر لا فرق بينها وبين الرجل!
ولكن دعونا الآن نستطرد الأمر معاً ونرى رؤية الإسلام في هذا الأمر، وهل الرضاعة الطبيعية حق للطفل، أم غير واجب على الأم القيام بها؟ وما فوائد الرضاعة الطبيعية للطفل؟ وهل هناك فوائد تعود منها على الأم؟ وهل الرضاعة الصناعية بديل مناسب حقاً؟ ومتى يمكن اللجوء إليه؟
الرضاعة حق للطفل أقرته الشريعة الإسلامية
إن ما قررته الشريعة الإسلامية من حقوق للطفل تتفوق بها على كل النظم والتشريعات والقوانين، وإذا أردنا رعاية أطفالنا وتوفير حياة كريمة لهم، فلسنا مطالبين سوى بالالتزام بتلك الحقوق والحرص عليها.
ومن أهم وأول حقوق الطفل بعد مولده وهو حقه في الرضاعة، والمتفكر فيها يرى قدرة الله وعظمته في تلك العملية وإعجازه، فقد أجرى الله في ثدي الأم اللبن الجامع لكل أنواع الغذاء المناسبة لتكوين الطفل سليما معافى جسمانياً ونفسياً، بل هدى الله الطفل وعلمه كيف يقبل على ثدي الأم ويمتص غذاءه بقدرته وحكمته، ولم يتوقف الإعجاز الإلهي حتى هذا الحد، بل إن هذا اللبن كان دماً، فجعله الله بقدرته وعظمته لبناً سائغاً خالصاً لا شائبة فيه، يجمع كل عناصر الغذاء لبناء الطفل، ونظم بعنايته مدة الرضاعة فجعلها حولين كاملين لمن أراد التمام حين قال تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ".
متى يجب على الأم أن تُرضع طفلها؟
وفق لما ذكرته الدكتورة آمنة نصير، الأستاذة بجامعة الأزهر، فيجب على الأم أن تؤدي حق إرضاع الطفل ما دامت قادرة على أدائه، ولا يوجد لديها عذر مرضي يمنعها، والأم التي تمتنع عن أداء الرضاعة مع قدرتها على الأداء فهي آثمة، فهو حق الطفل أجراه الله على صدرها، وليس تكرماً من الأم، بل هو واجب تفرضه الغريزة البشرية والدين الذي يحمي حقوق الصغير قبل الكبير، ولا يمنع الإسلام الفطام قبل الحولين بشرط أن يكون عن تراضٍ وتشاور بين الأب والأم، وبحيث لا تلحق بالطفل أي أضرار نتيجة فطامه.
ولا ينبغي إطلاقاً أن يكون خلاف الوالدين على الرضاعة ونفقاتها على حساب مصلحة الطفل، وإذا حدث خلاف انتهى بالانفصال بين الزوجين، فحق الطفل في الرضاعة محفوظ، إما من أمه وإما من مرضعة أخرى يقدم لها من العناية والأجر ما يدفعها إلى رعاية الطفل والحفاظ عليه وتقديم التغذية اللازمة له، وذلك وفق ما ذكره الدكتور "صبري عبد الرؤوف "، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر.
فوائد الرضاعة الطبيعية للطفل
لبن الأم هو أنسب غذاء متكامل للطفل ولنموه بشكل سليم من جميع الجوانب، خاصة خلال الأشهر الستة الأولى من عمره، فمن الناحية الصحية أقر أطباء التغذية وكل المعنيين بصحة الطفل أن الله أعد سائلاً في لبن الأم خلال الأيام الثلاثة الأولى، هذا السائل قادر على إشباع حاجة الطفل للغذاء وإصلاح الجهاز الهضمي لديه، كما أن مكونات حليب الأم لا يضاهيها أي حليب صناعي آخر مهما استحدثوا فيه، حيث يحتوي على الكالسيوم المتوازن والفوسفات، وفيتامين (د)، ويقي الطفل من العدوى البكتيرية أو الفيروسية التي تأتي من لبن البقر. كما تقيه الرضاعة الطبيعية من الأمراض التنفسية والهضمية، ولا يسبب أي تهيج عنده في جهازي البول والإخراج، ويعطي الطفل مناعة قوية تعينه على مقاومة الأمراض.
كما ثبت أن لبن الأم يحمي من أمراض الدم والشرايين التاجية، ويقيه خطر التعرض للسمنة والإمساك والإسهال والمغص، ويقيه من الإصابة بسرطان الدم. وعلاوة على ذلك، فهو لا يحتاج إلى إعداد وتعقيم أو تدفئة مسبقة قبل تناول الطفل له، كما تقلل الرضاعة الطبيعية للطفل من تعرضه لمتلازمة موت الرضع المفاجئ، وتساعد على تطوير العينين والدماغ والفك لدى الطفل وأنظمة الجسم الأخرى، وترفع معدلات ذكاء الطفل، إضافة لتغير تركيبة الحليب عبر فترات الرضاعة، وبالتالي توفر الغذاء المناسب للطفل في مراحله المختلفة.
ومن الناحية النفسية-السلوكية، فإن الرضاعة الطبيعية بديناميكيتها التي تجعل الطفل يستلقي علي صدر الأم، واحتوائها له بين يديها بما يشعر الطفل بالأمن النفسي، والاستقرار العاطفي، وتساعد الطفل على النوم بهدوء، وتقوي روابط التواصل بين الطفل وأمه.
وقد بلغ من كمال عناية الإسلام بالأطفال أن أباح للمرضعة أن تفطر في رمضان كي لا يؤثر الصيام بأي شكل كان على رضاعة الطفل، فهو يعتني بصحة الأم أو المرضعة البدنية والنفسية بما يؤثر على نمو المولود وهدوئه، حيث إنها تتواصل مع الطفل ويتعلم تلقائياً منها منذ الرضاعة بالمحاكاة، مما يؤثر على طباع الطفل وسلوكياته لاحقا، ولذلك ورد النهي عن أن تسترضع الحمقى.
هل هناك فوائد تعود على الأم من إرضاع الطفل طبيعياً؟
بالطبع هناك العديد من الفوائد التي تعود على الأم، فمن الناحية النفسية تستشعر طعم الأمومة، وتقوى وجدانياً ونفسياً، وكم من أمهات لم يجدن للسعادة طعماً إلا في احتواء وليدها وإرضاعه، وكانت أقدر على مواجهة الحياة بتحدياتها، فلقد كان وليدها سبب قوتها ودعمها، ويقلل من تعرضها للاكتئاب، ويمنحها الشعور بالثقة إضافة لتقوية روابط الأمومة والتواصل بينها وبين الطفل.
كما تساعد الرضاعة الطبيعية على تحسين الصحة العاطفية للأم وتقلل من مشاعر القلق لديها، وتعمل أيضاً على فرز هرمون "البولاكتين" الذي يزيد إحساسها بالسلام والاسترخاء والتركيز على رضيعها.
وأما من الناحية الصحية، فالرضاعة الطبيعية تساعد رحم الأم على أن يعود لحجمه الطبيعي سريعاً، وتقلل النزيف المباشر بعد الولادة، ويقي من أمراض القلب، والأوعية الدموية، والبدانة، وهشاشة العظام، كما يقلل من فرص تعرضها للإصابة بالسرطان وخاصة سرطان الثدي وسرطان المبيض، والنمط الثاني لمرض السكري، كما يقلل من استعدادها للحمل مرة أخرى حتى تستعيد صحتها وتختزن في جسمها المواد اللازمة للحمل الجديد.
وتساعد الرضاعة الطبيعية على تقليل خطر إصابة الأم بالتهاب المفاصل" الروماتويدي"، ويساعد على تقليل وزنها بعد استمرار الرضاعة لأكثر من ستة أشهر على الأقل، حيث تحرق سعرات بمعدل ٥٠٠ سعرة حرارية يومياً، أي ما يعادل ركوب الدراجة لمدة ساعة يومياً.
لكل شيء بديل.. فهل الرضاعة الصناعية بديل مناسب؟
الرضاعة الصناعية هي إمداد الطفل باللبن الذي يحتوي على العناصر الغذائية اللازمة لنموه عبر زجاجة الرضاعة الصناعية سواء كان مصدر الحليب ثدي الأم، أو الحليب الصناعي الخاص بالرضع والذي لا يتطابق في قيمته مع حليب الأم. وكما ذكرنا، ففي الرضاعة الطبيعية يولد الطفل متعلماً بالفطرة كيفية الرضاعة من ثدي الأم، أما في الرضاعة الصناعية فنحتاج لتدريب الطفل على كيفية الرضاعة من الزجاجة الصناعية إلى أن يعتاد عليها.
وتتميز الرضاعة الصناعية بسهولة إطعام الطفل من خلال أيٍّ من أفراد الأسرة بخلاف الرضاعة الطبيعية التي تستوجب الأم فقط، إضافة لإمكانية تحديد كمية الحليب التي يتناولها الطفل كل رضعة، وقلة عدد الرضعات التي يحتاج إليها الطفل، بخلاف الرضاعة الطبيعية والتي تهضم أسرع من الصناعية وبالتالي يشعر الطفل بالجوع سريعا، كما يمكن للأم اتباع الأنظمة الغذائية مع الرضاعة الصناعية دون الخوف من التأثير الذي سيقع على الرضيع بخلاف الرضاعة الطبيعية.
ورغم ذلك فهناك عيوب متعددة للرضاعة الصناعية، أبرزها: عدم إمكانية حماية الطفل من العدوى والأمراض مثل حليب الأم، وجوب تعقيم أدوات الرضاعة وإعدادها والحفاظ عليها في درجة حرارة معينة في كل رضعة، إضافة للنفقات والتكلفة العالية لشراء الحليب الصناعي للطفل وأدوات الرضاعة، حيث تمثل عبئاً على كثير من الأسر، كما أن الرضاعة الصناعية تسبب مشاكل في الهضم وتؤدي للإمساك ووجود الغازات لدى الطفل، كما أنها تضعف جهاز المناعة لديه، ولا يكون مستوى ذكائه كالطفل الذي تلقى رضاعة طبيعية، كما أن التواصل والترابط بين الطفل وأمه لا يكون قوياً مثل الذي تلقى رضاعة طبيعية، وغيرها الكثير من مميزات الرضاعة الطبيعية لا يحصل عليها الطفل الذي تلقى رضاعة صناعية.
وليس الجانب الصحي والغذائي فقط، فإن الجانب النفسي والسلوكي أيضاً يتأثر لدى كل من الطفل والأم، وأهمها أن الأم تحرم من ممارسة واستشعار أمومتها بما يمثل تمرداً على مشاعر الأمومة الحانية وعدم إشباعها بما يؤدي لمشكلات نفسيه لاحقا، ويمكنكم الرجوع لكل ما ذكرنا من ميزات سابقا عن الرضاعة الطبيعية وتتوقع حدوث العكس تماماً مع الرضاعة الصناعية.
وحديثنا نخص به الأمهات اللاتي تمتنع عمداً عن أداء الرضاعة الطبيعية للطفل، مع مقدرتها على ذلك وخلوها من جميع الأمراض أو المشكلات التي قد تحول بينها وبين أداء واجبها تجاه طفلها وأمومتها، ولكن هناك بعض الحالات التي يمكن اللجوء فيها للرضاعة الصناعية، مثل رفض الطفل الرضاعة من ثدي الأم، أو إصابة الأم بمرض ما في ثديها وما إلى ذلك من أمور صحية وطبية تستلزم اللجوء للرضاعة الصناعية تحت إشراف طبي متخصص.
ختاماً، الأمومة شعور جميل، والقيام بواجباتها على أتم وجه، ما دامت تستطيع، أمر تقدره جميع الأديان وأولها الإسلام الذي جعل الجنة تحت أقدام الأمهات تقديراً لما يقدمونه لأبنائهم، ولنتذكر كم من امرأة حرمت الإنجاب، ولم تستطع تذوق طعم الأمومة، وكل أمنياتها في الحياة ممارسة واستشعار تلك المهام الجميلة التي ينفر منها البعض، ويتخذ منها ساحة للعراك والجدال مع الزوج في الحقوق والواجبات، ومهما كلف الأمر لا يجب أن تكون حقوق الطفل محل خلاف أو مساومة، ولا تحرمي نفسك أيضاً أيتها الأم الجميلة والأنثى الرقيقة من استشعار كافة الأدوار التي خلقها الله بفطرتك، فقيامك بها فيه إشباع لغريزتك، واستمتاع بأمومتك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.