لا تختلف الديانات السماوية في توكيدها على قداسة الإنسان وجسده الذي يعد مسكناً للروح وكياناً له مكانة خاصة، إضافة إلى كون الحفاظ عليه وحمايته من كل شر قد يمسه يعتبر مسؤولية الفرد الحر والعاقل. وإذا كان الدين قد رفع من مقام الجسد ومنحه قدسية لا نظير لها، فإن النضال النسوي والحركة الإنسية (humanism) وغيرها من التوجهات الفكرية والفلسفية قد أكدت على أهمية حماية الجسد من كل أشكال الاستغلال سواء تعلق الأمر باستغلال جنسي أو اقتصادي.
يزعم البعض أن في تكريس أهمية استقلالية الجسد وحرية المرء في بدنه تشجيعاً على الاستغلال وفتحاً لباب الامتهان، ولكن النشطاء والمفكرين الذين يسعون لشرح وتكريس مفهوم استقلالية الجسد هم في حقيقة الأمر يسعون لإدماج هذه الفكرة في الوعي الجماعي لمجتمعاتنا لكي يتمكنوا في نهاية المطاف من مطالبة الدولة والمشرع القانوني والدستوري بإصدار قوانين تحمي جسد الإنسان من الاستغلال.
تمارس على أجساد النساء في معظم دول العالم مظاهر من العنف الجسدي الدائم الأثر، ويقفن عاجزات عن حماية أجسادهن من الانتهاكات اللاأخلاقية أمام غياب مساطر قانونية تجذر هذه الممارسات المنحطة والبطريركية.
ولأن المجتمع يفضل التعاطف مع النساء كضحايا لا كناجيات ويشيطن كل محاولات النساء لنيل حرية حقه كاملة دون نقصان، فإن النضال النسوي التقاطعي وسعيه لانتزاع استقلالية الجسد من كل ما قد يمسه من امتهان تتم عرقلته من طرف أنظمة رجعية متطرفة، هي نفسها تلك الأنظمة التي تقدم التعازي للنساء في فقدهن كلما حدثت في أوطاننا جريمة "شرف" تهز أركان نضالنا وتقضي على شيء من الأمل الذي نعيش على ضوئه ونتنفس الصعداء من خلاله.
إلى جانب الامتهان الذي يتعرض له جسد المرأة من تجنيس وتسليع، فإن جسد العامل والفلاح يخضع لاستغلال نظامي مقنن في غياب وعي بروليتاري وسيادة ثقافة رأسمالية تقنع المرء بأن الاستغلال المفرط لا بد أن يساعده على جني ثروة تعوضه التعب والتفقير المتعمد.
يقدم لنا الفيلسوف الألماني كارل ماركس من خلال نظرية استغلال العمل (exploitation of labor) رؤية جديدة للامتهان الذي يتعرض له الجهد الجسدي للعامل، فهذا الأخير يخصص وقتاً وجهداً جسدياً وقدراً سخياً من التفكير لإنتاج هذا المنتوج الذي يشترى بثمن بخس لا يتوافق مع إجمالي العمل الذي قُدِّم لإنتاج السلعة. ينسى المستهلك أحياناً أو يتناسى أن العملية المعقدة التي تنتج عنها تلك السلعة ليست بالبساطة التي يصورها له فائض الإنتاج وتنوع المنتوجات والشركات في السوق العالمية، ذلك لأن ثقافة الاستهلاك تغيب الوعي وتقطع حبل التعاطف مع العامل والفلاح والفنان، الأمر الذي يؤدي إلى اغتراب العامل عن عمله والخدمات التي ينتجها ويقدمها.
ثم إن الاتجار بالبشر لا يزال معضلة حقوقية عجز العديد من المنظمات الدولية عن مكافحتها بشكل فعال في غياب تنسيق أمني بين دول تعيش أزمات فيما بينها، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نزعم أننا قد حققنا استقلالية الجسد في عالم لا يزال فيه الإنسان خاضعاً لعبودية واستغلال يجرده من إنسانيته ويحرمه من الفردانية التي تجعل الإنسان إنساناً.
الغريب في الأمر أن كل أشكال امتهان جسد الإنسان تمارس عليه من طرف أخيه الإنسان، تنتهك حرمة الجسد وقدسيته باسم الحرية وتصور وسائل الإعلام في أفلام يفترض أنها تخاطب الإنسان فينا مشاهد عنيفة لنساء يتعرضن لعنف جسدي وجنسي، وهي بذلك تساهم بشكل أو بآخر في التطبيع مع امتهان جسد المرأة بوتيرة يومية. لا يسعنا أمام هذا الخلل القيمي الذي يشهده عالمنا سوى الالتزام بنضال تقاطعي لأجل الحفاظ على كرامة الإنسان وقدسية جسده من خطر الامتهان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.