بينما أتصفح "الإنترنت" شاهدت فيديو لطفل يقف فوق المنضدة ويضع أمامه هاتفاً يلتقط به الفيديو ويغني بشكل سريع مع حركات مميزة، وفجأة دخلت والدته وسألته ماذا يصنع، فأجابها بأنه يغني "الراب"، فكان جواب الأم أسرع مما تخيَّل الولد، حيث باغتته بكف سريع وقوي على وجهه وهي تخبره: "ألم أنادِ عليك؟!"، ارتعد جسد الصغير وهو يردد: "كنت أنتظر أختي فقط كي تساعدني على النزول من فوق المنضدة!".
في الحقيقة لقد ارتعد جسدي أيضاً من رد فعل الأم المباغت وتلفت أعصابي وحاولت أن أهدأ، ولكني تفكرت في رد فعل الطفل وكيف كان يفكر وقتها؟ وإلى أي حال سيصل بعدها؟ قد يرى البعض أني أبالغ، ولكن الحقيقة أن تلك الأم وكل أبوين يفعلان مثلها هم المبالغون في ردود فعلهم تجاه أطفالهم، بل قد يكونون جناة معتدين على دمار مستقبل الطفل دون أن يدركوا، معتقدين أنهم كانوا "يؤدبونه" ويربونه على "الصح"!
فهل إهانة طفلك، وسحق كرامته، وتدمير ثقته بنفسه، وجعله ضعيف الشخصية، يكبر وهو يصارع في محاولة إثبات نفسه بعد ذلك وندخل في مشكلات معقدة في فترة المراهقة، هل كل ذلك هو التربية الصحيحة؟ وهل تدمير الموهبة والابتكار والقضاء على الإبداع لدى الطفل هو التربية الصحيحة؟
أجل.. إهانة الطفل وسحق كرامته يقضيان على الموهبة والابتكار لديه، وهذا ما سنتعرف عليه في مقالنا التالي، ونتعلم معاً ما هي الكرامة وعزة النفس وأخذ الحق، وكيف أغرس في طفلي الكرامة وأعززها به منذ الصغر، وما مدمرات الكرام، وما علاقة الكرامة بالموهبة والإبداع لدى الطفل، وكيف يحمي نفسه عندما يتعرض للإهانة.
الكرامة فطرة إنسانية واحتياج بشري يجب أن يشبع، فلقد خلق الله- سبحانه وتعالى- الإنسان مكرماً فقال: "ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً"، والكرامة تمثل احتياجات الإنسان البيولوجية والاجتماعية والفكرية أيضاً، ويجب تلبية تلك الاحتياجات بما يحفظ للمرء كرامته.
ما علاقة الكرامة بالإبداع والابتكار لدى الطفل؟
أثبتت الدراسات والبحوث أن إهانة الطفل وإهدار كرامته يؤثران بالسلب على الإبداع والابتكار لديه، والعكس صحيح، فعندما تحفظ لطفلك كرامته وتقدّره فذلك يؤثر بشكل فعال وإيجابي في مستوى الإبداع والابتكار لديه، حيث إن الطفل يولد لديه الإبداع في المرحلة الابتدائية، خاصةً الصف الثاني الابتدائي إذا كان موهوباً، أي إن نحو 3-5% فقط من الأطفال هم الذين يظلون مبدعين.
والإهانة هنا ليست فقط الضرب وإنما إهمال الطفل وتركه والتقليل من شأنه، وغير ذلك من الأساليب التربوية الخاطئة، كلها تؤثر في كرامة طفلك ومن ثم نسبة الإبداع لديه، فلا تهن طفلك وتنتظر منه أن يتفوق في دراسته وحياته بعد ذلك وتتهمه بالفشل والغباء إن لم ينجح، ولا تعلم أن السبب وراء ذلك هو "أنت" وأنت لا تدري!
ما مدمرات الكرامة لدى الأبناء؟
هناك العديد من الأساليب التربوية الخاطئة التي تدمر الكرامة لدى الأبناء مثل النقد، اللوم، الصراخ، العقاب، الضرب، السخرية، المقارنة، عدم الإنصات لهم، التسلط عليهم، القهر والشتائم وغيرها مما يدمر كرامة الطفل وتصبح شخصيته ضعيفة منهزمة لا يقوى على المواجهة أو حفظ كرامته بنفسه، وسنذكر بعضاً منها بالتفصيل ونبين مدى مخاطرها.
"اللي يضربك اضربه.."!
جملة شهيرة يرددها بعض الآباء عندما يشكو لهم الطفل من اعتداء طفل آخر عليه سواء بالضرب أو الشتائم، فهل هذا الحل هو الأمثل؟ بالتأكيد لا، خاصةً أن الطفل يعمم القاعدة، فقد يكون مَن ضربه أو شتمه هو أخته فكيف سيفرّق الطفل ويميز بين طفل وآخر؟ هناك حلول أخرى غير رد العنف بالعنف، ولكن أولاً يجب أن تسأل نفسك: لماذا طفلي ضعيف الشخصية وتمتهن كرامته من قبل الآخرين؟
بالعودة إلى البيئة الأسرية قد تجد الجواب، فالحماية الزائدة للطفل والخوف عليه من كل شيء ومن تعرض الآخرين له وقيام الأبوين بحمايته طوال الوقت يجعل شخصيته ضعيفة ولا يكتسب الكفاءة التي تمكنه من حماية نفسه وكرامته والحفاظ على حدوده الشخصية، بل حينما يتعرض للأذى يبكي ويسارع بطلب النجدة من الأبوين.
وهناك بعض الأسر تستخدم الضرب كأسلوب تربوي وعلاج لكل المشكلات، خاصة إن كان الضرب عنيفاً، مما يجعل الطفل أيضاً منهزماً ضعيفاً يخشى المواجهة ويخاف أن يضربه الناس مثل والديه، وبالتالي تُمتهن كرامته من جديد!
سيقول البعض: حسناً، سأدلل طفلي ولن أحرمه شيئاً، وأقول إن التدليل الزائد للطفل أيضاً أسلوب تربوي خاطئ ويضعف شخصية طفلك، ويجعله لا يستطيع الرفض أو التعبير عن مشاعره ورأيه، مما يجعل الناس تفرض سلطتها عليه وبالتالي تمتهن كرامته أيضاً من جديد.
ذكر لي أحد الآباء أن المشكلات و"الخناقات" المنزلية هي التي ستربي الطفل وتجعله قوي الشخصية، يعرف كيف يسترد حقه ويحفظ كرامته، ولكن هذا من أساليب التربية الخاطئة أيضاً، حيث إن المشكلات الأسرية التي يتعرض لها الطفل "باستمرار" تخرج منه إما شخصاً منطوياً جباناً، أو عدوانياً معتدياً، وفي كلتا الحالتين لم تصن كرامته!
حسناً "آلاء" لقد أَغلقت بوجهنا الأبواب واكتشفنا أن معظم أساليبنا التربوية خاطئة، ما الحل الآن؟
في الحقيقة لم أغلق الأبواب، إنما نود فتح باب أمل وتربية جديد يحفظ كرامة أبنائنا، ولكي نفعل ذلك كان لا بد من معرفة الأبواب الخاطئة التي تطرقتم إليها في التربية وإغلاقها بإحكام، ومن ثم ندرك أن الكرامة تأتي من القوة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، والقوة هنا ليست القوة العضلية فحسب، وإنما قوة الفكر والشخصية.
فكيف أقوّي شخصية ابني بما يعزز ويحفظ كرامته؟
دورك كمربٍّ حفظ الكرامة لا خلقها: أنت كمربٍّ غير مسؤول عن خلق الكرامة في نفس طفلك لأنها موجودة بالفعل بالفطرة كما اتفقنا، وإنما دورك فقط أن تحافظ عليها، فلا تهنه أو تضعف كرامته، بل تقويها وتعززها وتحفظها له، وتذكر أنك حين تضعف كرامة طفلك فقد ضيّعته.
إياك والضرب: من أخطر ما يضعف الكرامة عند الطفل هو الضرب، والأصل في التربية هو الرحمة والرأفة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب قط، واعتبر الذي لا يرحم الطفل ليس من المسلمين، حيث قال: "من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا فليس منا"، كما غضب النبي حين عرف أن أحد الصحابة لم يقبّل أبناءه قط.
لا تنسَ هدفك من التربية: الأصل في التربية تنمية وتوجيه الطفل، وتقويم سلوكه وحفظ كرامته، فكيف تريده أن يستجيب لك وأنت تهينه، فماذا تعلّمه عندما تضربه وتهين كرامته؟ وهل سيقوّم سلوكه أم ستكسبه سلوكيات أخرى سلبية! لذا فعندما يقوم الطفل بسلوك سيئ يجب الرجوع للوالدين والتأكد من قيامهما بدورهما معه منذ الصغر على الوجه المطلوب، وإلا فإن التعذير يكون للوالدين وتقويم الطفل.
احترم طفلك وقدِّر كرامته منذ الصغر، ولنا في السيرة العبرة والمثل، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حينما كان يجلس وعلى يمينه طفل وعلى يساره الشيوخ والكبار، وأراد أن يسقيهم اللبن، فبدأ بالطفل واستأذنه أن يشرب الكبار أولاً، رفض الطفل وآثر الاحتفاظ بحقه في الشرب أولاً، واحترم النبي اختيار الطفل ورغبته ولم يحقّره أو يعب عليه.
أعطِه حرية الاختيار: اترك لطفلك الحرية في اختيار ما يشاء وتدخَّل فقط عندما يختار شيئاً محرماً، وهنا يأتي دور الحماية الأبوية وتوجيهه نحو الصواب بطريقة تلائم شخصيته.
درِّب طفلك وعلِّمه كيف يدافع عن نفسه: اطلب منه الدفاع عن نفسه حين يتعرض للأذى والإهانة، ودربه على ذلك بأن يمسك يد المعتدي عليه أو يبعده، أو يطلب منه التوقف، وتدرب معه على ذلك في البيت مراراً وتكراراً حتى تترسخ في العقل اللاواعي لديه ويصبح رد فعله الطبيعي التلقائي حين يتعرض للأذى، وأخبره بأن المعتدي ضعيف وعليه ألا يخشاه، واجعله يدرك الفرق بين الدفاع عن النفس والاعتداء على الآخرين، وعلِّمه أيضاً أن المؤمن القوي هو الأحب إلى الله ونحن نحفظ كرامتنا ابتغاء مرضاة الله أولاً، ولا نثأر لأنفسنا وتمجيدها بما يخرج عن الهدف المطلوب ويدخلنا في مشكلة الكبر.
انتبه لطريقة طفلك في المشي والحديث: فلا تكن مشيته باستمالة أو انحناء أو تجبر ولتكن معتدلة مستقيمة تعكس ثقته بذاته، وكذلك نبرته في الكلام، فلا تستجب لطفلك حين يتكلم بصوت خجول وحروف غير واضحة واطلب منه أن يتحدث بصوت مسموع وحروف واضحة وكلمات حازمة تعكس ثقته وتؤكد ذاته، ولا تقل إنه لا يزال طفلاً صغيراً، فمن شب على شيء شاب عليه.
شجِّع طفلك على ممارسة الرياضة وتعلُّم لعبة دفاعية، فالرياضة تجدد نشاط الطفل وتجعله يشعر بذاته ويثق بنفسه وتُكسبه أخلاقاً حميدة وتُعلمه أهمية الحفاظ على حدوده الشخصية، واحترام حدود الآخرين أيضاً.
علِّمه بالقصة: قراءة القصص لطفلك، خاصة قبل النوم وتوصيل الرسائل المطلوب إيصالها له والهدف المراد من القصة مثل تعليمه الحفاظ على كرامته وكيف نتعامل مع الآخرين وكيف نعبر عن أفكارنا بأدب، من أهم الأساليب التربوية التي ترسخ في عقلية الطفل وتنمّيه.
علِّمه بالفنون: كذلك يمكن محاكاة تلك القصص وتجسيدها في أعمال مسرحية وأدوار فنية يقوم بها الطفل أمام أفراد العائلة ونشجعه عليها، وبذلك لن ينسى ما تعلمه بالمحاكاة.
علِّمه باللعب: أهم وقت يمكن أن يستجيب الطفل لك فيه هو حين تلعب معه، فهو يحب أن تقضي وقتك معه، لا سيما حين يكون وقتاً ممتعاً؛ فخطط للعبة ذات هدف تود تعليمها لطفلك، وفي أثناء اللعب انتبه لسلوكياته وعزِّز الحميد منها؛ وساعده على تعديل السلبي منها من خلال المحاكاة لك وتدريبه على الالتزام بقواعد اللعبة والانتباه لإشارات توكيد ذاته من عدمها وطرق تعامله مع الآخرين، ومن خلال اللعب ستعرف ما النقاط التي تحتاج للدعم والتوكيد في شخصية طفلك وتعمل عليه معه بعد ذلك.
كن قدوة حيّة لطفلك: يجب أن لا تطلب من طفلك أن يكون قوي الشخصية ذا كرامة وهو يراك منهزماً ضعيفاً يعتدي عليك الآخرون بالقول أو الفعل، أو ترسل لنفسك إشارات وطاقات سلبية طوال الوقت وتطلب منه أن يتحلى بتوكيد ذاته، فيجب أن تكون قدوة لطفلك أولاً ومن ثم تطلب منه ما تريد، وتذكّر أن الوقت لم يفُت بعد.ختاماً.. نحن في زمن يحتاج إلى نفوس قوية تواجه العالم، قديماً كنا نخشى على أطفالنا من المخدرات أو السجائر، واليوم صرنا نخشى عليهم من الإلحاد، والفساد الأخلاقي والديني والمجتمعي والمثلية وكل شيء، فانتبه لطريقة تربيتك لطفلك، وكن قدوة له رحيماً عطوفاً ومعتدلاً في كل شيء، ولا تنسَ مسؤوليتك فقط حفظ كرامته، فكن على قدرها وكن له رفيق اليوم، يكن لك سند الغد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.