كلمة الزعيم الصدري التي قالها، الثلاثاء، تبدو انقلاباً كاملاً على ما عُرِفت بـ"ثورة عاشوراء" الصدرية في العراق؛ التي بشَّر بها التيار الصدري وزعيمه، لتكسير عقارب العملية السياسية الصغيرة، مُمثَّلةً بـ"المليشيات الوقحة"، وأميالِها الكبيرة الشرقية والغربية.. طهران وواشنطن. الانقلاب هذا، لم يكن درجة360، بل 361 درجة. الدرجة الزائِدة هي ثورة "عاشوراء".
حذر الصدر في كلمته المتلفزة أتباعه وأنذرهم، بترك الاعتصام في البرلمان، وتطليق ثورة "عاشوراء" ثلاثاً، خلال 60 دقيقة. وصل به الأمر إلى أن يعلن: القاتل والمقتول كلاهما في النار.
الصدر أغسطس سياسي
أخذ هذا التفسير، كدليلٍ جديد على المزاج السياسي المُتقلِّب للصدر، مناسب جداً، لكنه يبقى ذا نكهة آذاريَّة؛ فهذا الشهرُ المعروفُ عالمياً بتقلُّباته الطقسية، غيرُ صالحٍ لتفسيراتٍ عراقية.
المزاج السياسي للزعيم الصدري، يشبه شهر وِلادتِه؛ أغسطس/آب، في العراق؛ مُتقلِّب كثيراً. ذاكرة الطقس العراقية، تصِفُ العشرة الأوائل من هذا الشهر مثلاً، بأنها قادرة على تذويب المسامير في البيبان. لكن عشرتها الأخيرة تفتح للشتاء باباً. هكذا كانت بيانات رجل الدين العراقي، مقتدى الصدر، طيلة الفترة الماضيَّة، غير معروفٍ صيفها من شتائها.
العملية السياسية في العراق، بعد دخول أنصار هذا الزعيم، إلى قبة البرلمان العراقي، قلمٌ لتأريخ القادم السياسي بطريقةٍ مُغايرة. البعض قد يعتبر هذا التفكير نوعاً من تخزين القات العاطفي، والذي لا يتناسبُ مع برودة مناخ التعقيدات السياسية في العراق؛ التي تعتاشُ على إقليمٍ ومجتمعٍ دولي، يُعيد تفصيل البدلة الاستراتيجية من جديد، ولا مجال فيه للأزرار المحلّية، لفرضِ اشتراطاتٍ لونيّة مختلِفة، ذات طبيعةٍ عَقَديَّة، بل وحتّى وطنية.
كلام رجال الدين في العِراق، عموماً، لغةٌ دبلوماسية، ليست مُخصصة للنُخب السياسية والثقافية، لذا فهي غالباً ما تقعُ في الفخِّ؛ الذي حذر منه برتران بادي، في كتابه "الدولة المستوردة". الكُل في فضاء الدول المستوردة، يلجأ إلى القراءة، التفسير، ومخاطبة الشعب، حسب الأدبيات الغربيّة، وكلما تغربنت صحَّت!
لغة كثير من رجال الدين في السياسة؛ ومنهم الصدر، مُكعَّبة، لأنها تفتح باباً لا نهائياً للتفسير، ما دمت تُحمِّضُها في وعي الآخر، لا بتقنياتِه العلميَّة. لغة رجال الدين، في المذهب الجعفري الإسلامي -النسخة "العربية"- تعتمد على مزاج الشارع، وليس كما هو الحال، في النُسخة الصفوية، حيث يختبئ مزاج البلاط القومي؛ تحت عباءة الولي الفقيه. هذا المزاج القومي؛ السوبر فارسي، من الممكن لمسه في كتب محمود عبد الله، وهو كاتب عربي من الأحواز.
الصدر في كلمةِ الثلاثاء، اقترب من المزاج الشعبي العراقي الحالي. المزاج الحالي للشارع، لا يخاف من التغيير، لكنهُ يخاف من الراكبين للموجات التغييرية. هو يعتقِدُ بأنَّ من سرقوا المليارات وأسسوا المليشيات، سيلبسون طاقية الإخفاء بوجوهٍ جديدة، ويرون الصدر كصاحبِ أكبرِ طاقية.. جزؤها البارز عِمامتُه السوداء!
الصدر لهذا كان وما زال حريصاً جدّاً، على استخدام كلماته وخطاباته المتلفزة، كذلك بياناته السوشيالية، على أن تُقدِّم تفسيراً، يعمل كممحاة للأخطاء السابقة. هو لا يَتَنَصَّلُ من الخطأ.. هو يرمي حجارة التفسير الخطأ، على رؤوس فهم الآخرين لمواقفه. كلمته اليوم، كانت دليلاً على ما ذهبت إليه.
قوة الصدر دينية أم سياسية
هنا يجب أيضاً أن "أتغربن" قليلاً بما ذهب إليه كرين برينتن، في كتابهِ "تشريح الثورة". يرى برينتن ما مفاده: "إنَّ الناس لا تستطيع أن تُمارِس العمل الثوري طويلاً". إذاً الصدرُ يعلم أنَّ ما جرى للشعب العراقي طيلة عقدين، بعد عام 2003، يجعله يشك بإمكانية تغييرٍ حقيقي، خاصَّةً بعد قراءتِه للجواب القمعي، من قبل الشلل الطائفية، العشائرية، والمليشياوية؛ الذي استلمهُ من مكتب بريد ثورة تشرين 2019.
الجواب كان قتلاً ومُطاردة، وبأرخصِ حبرٍ في التاريخ العراقي.. الدم.
الكثيرُ من المراقبين؛ محليين، عرب، وأجانب، يذهبون إلى إكساء كلماتِهم بمفردات العجب، والدهشة، عندما يرون تقلُّب مواقف الزعيم الصدري، السياسية، والثبات الوجداني لأتباعِه، على الالتزام بكلِّ ما يبدر من مواقِف آذارية للزعيم!
العجب والدهشة قليلاً ما تكونان تعبيراً عن عدم الفهم، هما يلتصقان دائماً بالذكاء الحاد والحكمة العميقة! لكنها هنا قِناعٌ للحيَّرة، والتي عُلِّبت في توصيف "الظاهرة الصدرية" لتفسير العلاقةِ بين الصدر وأتباعه.
الكاتب العربي، محمد حسنين هيكل، يجترِحُ تفسيراً ممتازاً، جوهره: "عدد اللاعبين في السياسة قليل". هذا التفسير لأحدِ سمات بيئة السياسة المصرية لن يفقد الكثير في البيئة العراقية. الجمهور العراقي الصدري لا يرى عن الصدر بديلاً آخر، بحسب فهمه للشروط التي تؤهِّلُ رجل الدين ليلعب دوراً سياسياً.
الصدر يمتلك بدورهِ، نقطتين كبيرتين، على اللوح السياسي. الأولى إرثهُ الجيني من عمّه وأبيه -دائماً ما يُنظر إليه بأنه سليل الصدرين- وجذور هذه الشجرة العائلية، المغروسة في آل بيت الرسول العربي.
النقطة الثانيّة، هي عدمُ أعجميَّتِه. الشيخ جواد الخالصي، فسَّر الأعجميَّة، المُصابة بها الكثير من المراجع الدينية "الشيعية" في العراق، وفي حوارٍ لي معه: "غربتهم عن الناس وعدم القرب الكافي منهم بسببِ حواشيهم". لم يتفق معي كثيراً، عندما ركَّزتُ على اللِّسان.
الصدر، تصيبه الدهشة كثيراً من قوَّتِه السياسية.. بل ربّما يخاف منها كثيراً. الدكتور المصري، أسامة الغزالي حرب، وهو يتحدثُ في كتابه "الأحزاب السياسية في العالم الثالث"، يتطرق إلى الأحزاب السياسية التي تنشأ بفعل قوَّةٍ خارجيَّة، كالاحتلال، ومنها الأحزاب الدينية، بأنها أحزابُ "ردِّ فعلٍ" على تلك القوَّة.
التيار الصدري كحزبٍ ديني، اكتشف نفسه سياسياً، من خلال التجربة، الأخطاء الكارثية، انسحابات الزعيم الصدري السياسية ثم رجوعه عنها.. تلك التي لها عدٌ، والتي لن يكون لها حصرٌ في المستقبل القريب، المتوسط.. بل وحتّى البعيد.
كنعان مكية؛ العرّاب الثقافي لفكرة احتلال العراق، لهُ رأيٌ سيئ بالسيد (كلمة السيد هنا ذات طابع مدني وبحسب ما هو مُتعارف عليه في الخِطابات القانونية والاجتماعية) مقتدى الصدر. مكية في كتابه "الفتنة" والكُتيب الذي أصدرهُ بعد ذلك، لتفسيرِ كتابِه، ذهب إلى أن الصدر "هو من ارتكزت عليه أحزاب الإسلام السياسي في العراق بعد 2003"!
ما هو مستقبل الصدر وتيّاره السياسي في المستقبل القريب؟
المرجع الديني الإيراني، كاظم الحائري، والذي يتبعه الزعيم الصدري، كان قد وجَّه خنجراً شرعياً، للصدرين الشابين، مقتدى الصدر وابن عمّه جعفر محمد باقر الصدر، في بيان اعتزاله.
الحائري؛ حاول إفراغ الاثنين، خاصَّةً مقتدى الصدر، من قيمة الأثر الجيني الذي يمتلكه، ثمَّ وجَّه طعنة ثانية، بتحويل شرعية مرجعيته، والتي قد جفَّت تقريباً مع الصدر، إلى مجرى المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، وأعطى شرعيةً لبقاء المليشيات الإيرانية وسلاحِها، والمنضوية أغلبها فيما يُعرف بـ"الإطار التنسيقي"، خارج الدولة العراقية. باختصار؛ الإطار أصبح النسخة العراقية المعتمدة، من الحرس الثوري الإيراني. رد الصدر الأبرز، كان بأنهما يعتاشان في شرعيَّتِهما على "فيوضات والده".
الهدف الحقيقي للحائري بحسب تصوَّري، كان كشف الجذر العميق لفكرة ولاية الفقيه، في المرجعية الصدرية. أيضاً بأنَّ الصدر الذي يملِكُ لقب حجة الإسلام والمسلمين، كدرجةٍ فقهية، وهي إحدى المراتب؛ التي تستخدمها المؤسسات الدينية "الشيعية"، ما زال لم يصل حتى إلى مرتبة مجتهد، وهذه المرتبة تتيح له حق الإفتاء، وهي تأتي قبل المرتبة العُليا "آية الله".
الصدر، امتلك بدعوته إلى "ثورة عاشوراء"، فتح حساب توفير عقائدي، للعراقيين العرب "الشيعة"، في مصرف مرجعية عربية، يمثِّلُها مقتدى الصدر.. ذكرتُ ذلك في لقاءٍ تلفازي، مع إحدى الفضائيات العربية.
هذا هو الخطر الأساسي؛ الذي دفع الحائري إلى بدعة الاعتزال، والتي لم تجرؤ عليها مرجعية دينية "شيعية" سابقة، ولكن السوبر قومية في الفكر السياسي الفارسي، سواء إن كانت علمانية أم دينية، هي من دبَّجت هذه البدعة، وكُل بدعة تفيد إيران!
أيضاً الفراغ المرجعي الديني لقوى "الإطار التنسيقي"، كانت تحتاج إلى جُرعة شرعية صدرية، وفّرها الحائري لهم، بل وجعل انتماءهم لمرجعية علي خامنئي تبدو صدريةً جدّاً!
الأمر الأخير والذي لم يلتقطه رادار المُراقبين، أنَّ توقيت بيان الحائري، كان إنقاذاً عبقرياً للسيد نوري المالكي، الذي كشفت تسريبات صوتية له، فلسفته هو وحلفاؤه السياسيون، بأنه يحتاج إلى فتوى دينية من قُم، للصِدام مع الذين هم أقل "شيعيّة".. الصدر أبرزُهُم.
الصدر بحسبِ كُلِّ تلك المعطيات، لم يتراجع مُطلقاً عن حِراكه السياسي الذي اتخذ اسم "ثورة عاشوراء". لقد كسب الصدر وأمام الملأ نقطتين كبيرتين إضافيتين: الأولى؛ أكَّد عدم وجود طرف ثالث يقوم بالفتنة، كما دأبت أدبيات "الإطار التنسيقي"، على ترديدها منذُ 2019، لتحليل دِماء العراقيين؛ الذين سقطوا في ثورة تشرين، وإنّما "مليشيات وقِحة"، ولم يستثنِ حتّى أتباعه الذين يُشكِّلون مليشيات "سرايا السلام"، وبذلك أقام الحجة على نوايا الانتهازيين في هكذا نوعٍ من الفواعِل اللاحكوميين، والذين من الممكن انشقاقُهم الآن، أو في الأيام القادمة، كما حصل مع عصائب أهل الحق وأمينها العام، قيس الخزعلي في الماضي القريب. الأهم أنهُ وعبر كلمته الأخيرة؛ التي بيَّنت إنهاء الاعتصام في مجلس النواب و"ثورة عاشوراء"، قد كسبَ تعاطفاً شعبياً واستسلاماً مُبرَّراً، قد يُغري "الإطار التنسيقي"، بالمُضي مختالاً في "إيرَنة" العراق.
النقطة الثانية والأهم؛ أنهُ سيكون على مرجعية النجف العُليا، والتي هي متعددة الجنسيات الآسيوية (إيران، أفغانستان، باكستان)، أن تعوّض فقدانها لضلعٍ هامشي كوزنٍ عربي، السيد محمد سعيد الحكيم، بمرجعيةٍ عراقيةٍ عربية حقيقية لا شكلية؛ كالراحل الحكيم.
الأرجح؛ أنَّ مقتدى الصدر، سيرتقي خلال فترة لا تزيد عن 5 سنوات، وربّما أقل من ذلك إلى مصاف مرتبة "آية الله"؛ لأن ذلك يُلبي طموحاً عراقيّاً نفسيّاً، بل وحتى عربياً. عكسُ ذلك، فقد أثبت بيان الحائري أنَّ مرجعية السيستاني، لا تهِشُّ عراقيّاً ولا عربيّاً، وبأنها مُجرَّد واجِهة كبيرة، لتأثيث البيت العراقي، ببلالٍ إيرانيّ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.