كل شيء بدأ من كرزيستوف
الضربة التي سدد بها ليفاندوفسكي هدفه الأول ضد بلد الوليد في الكامب نو، هي نسخة مكررة من أغلبية أهدافه الرائعة التي سجلها مع بايرن ميونخ وبروسيا دورتموند.
اللاعب البولندي الأفضل في تاريخ بلده. كان وراء كل هذا قصة خاصة جداً.
من أسرة رياضية بالكامل نشأ، ومع الصرخة الأولى في أرجاء المنزل، كان والده بطلاً بولندياً في رياضة الجودو، كرزيستوف ليفاندوفسكي، وأمه لاعبة كرة طائرة بولندية، إيفونا ليفاندوفسكي، وأخته لاعبة كرة طائرة بولندية محترفة هي الأخرى، ميلينا ليفاندوفسكي.
لذا، كبر ليفي، كما أسماه الأصدقاء، لاعباً ورياضياً في آن واحد، وكان لوالده، كرزيستوف شأن كبير فيما آلت إليه أمور ليفا.
إن كرزيستوف لم يكن مجرد بطل في رياضة الجودو فحسب، بل كان لاعباً في الدرجات الأدنى لكرة القدم البولندية، هو الذي مثل نادي هانتك فرزسوفا، والرجل الذي رأى في نجله ملامح أسطورة قادمة.
يوم أن بدأ ليفا في مداعبة الكرة، فكر كرزيستوف في جعله يحترفها، وفي الجوار كانت الأندية الشبابية تفتح أبوابها لمواهب المنطقة.
في التاسعة من عمره، كان ليفا قد حجز مقعداً في أحد الأندية المحلية، اسمه "فارزوفيا" النادي الذي لا يمنحك الهالة الحقيقية لتظهر إبداعاتك فيه، الأراضي متسخة دائماً، المباني عفا عليها الزمن، وحتى النوافذ المحطمة في ليالي الشتاء الباردة.
ظل ليفا تائهاً لسنوات، حتى وجد ضالته في دلتا وارسو، الفريق الذي قد يكون نقطة التلاقي التي يحلم بها، أو الجسر الفاصل بين ماضيه السيئ ومستقبله المفعم باللمعان.
لم يكن دلتا مجرد نادٍ عادي، بل كان مزاراً سياحياً للفرق الكبرى في بولندا، وعلى رأسهم كشافة ليجيا وارسو، أعرق أندية بولندا وأكبرها.
ليفاندوفسكي كان يعرف هذا الأمر جيداً، ويدرك حقيقة أن فرصة واحدة تسمح لك بأن تقفز عدة قفزات في ليلة واحدة ربما، واستغلها على أفضل حال، وخطف أنظار وعقول كشافة ليجيا، الذين لم يترددوا أبداً في التوقيع معه.
لكل قصة بداية
بعض اللحظات السعيدة في الحياة والتي تنتظرها بشغف، لا تحسب أنها شر لك، وفي الحقيقة، هذا بالتحديد ما حدث في ليجيا لليفا.
لقد كان ليفاندوفسكي سعيداً بما حققه، وسعيداً بالوصول إلى ليجيا بالتحديد، لكن الظروف لم تكن سعيدة بذلك، إصابة قاسية هي ما تسببت في تركه بعيداً عن ليجيا وكرة القدم.
حاول ليفا الشفاء من الإصابة لكن ليجيا لم يستطع تحمله أكثر من ذلك، وعند مرحلة تجديد العقد لم يفضل النادي اللجوء إلى خيار التجديد، وتركوه بلا نادٍ وبلا حلم، وكان عليه أن يبحث عن نادٍ آخر وفرصة أسعد.
لسبب -سأحكيه لك قبيل النهاية- كان على ليفاندوفسكي أن يتعافى، وأن يمنح أسرته الحلم الذي تحول إلى كابوس لسبب لم يكن على البال أو الخاطر.
من إصابته نهض، وبمهاراته تعافى، وزينشز وليش بوزنان، كانا الناديين اللذين تنقل خلالهما ليفا قبل رحلته الألمانية العظيمة، وأحدهما كان على مقربة من التراجع عن التعاقد معه، خاصة مع التقارير التي أشارت بأنه كثير الإصابات، وأن الإصابة التي جعلت ليجيا يصرف النظر عنه؛ هي نفسها ما قد تجعلهم يفكرون مئات المرات قبل ضمه.
الرجل الذي تعلم فنون القتال، والوثب العالي من أسرته، قرر أن يصارع مثلما صارع والده، وأن يقفز في الهواء مثلما فعلت أمه وشقيقته، إلى أن وجد بروسيا دورتموند يلتقطه في الهواء.
حينها فهم ليفاندوفسكي أن الحياة فرص، والفرص لابد أن تُستغل، ومثلما تأخذ منك الحياة فإنها بكل تأكيد ستعطيك يوماً ما.
كما لم تعرفه من قبل
لقد تعرفت على ليفاندوفسكي ليلة 24 أبريل/نيسان عام 2013، الليلة التي تحولت فيها مسيرته نفسها إلى قبل وبعد، وهي الليلة التالية لليلة تسجيل البايرن 4 أهداف في شباك برشلونة.
ليلتها، كما قال يورجن كلوب، كان ليفاندوفسكي يشبه إلى حد كبير روبن هود، الذي منح الفريق الأصفر بطاقة التأهل من ألمانيا، بتسجيله سوبر هاتريك، أمام ريال مدريد، وفي نصف النهائي.
بعدها، أصبح اسمه -صعب النطق- دارجاً في العالم كله، ويده المرفوعة بالرباعية لحظة مجيدة لكل من شاهد المباراة.
في سبتمبر/أيلول عام 2015، أتى من بنك الاحتياط، هذه المرة بقميص بايرن، الهدف الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس.. ماذا يحدث؟ لا أحد يصدق ما يحدث!
بيناجاليو، حارس فولفسبورج يومها، قال إنه، ولأول مرة في حياته، يرى ما يراه الآن، 5 أهداف في 9 دقائق فقط! هذا ما جعله عاجزاً عن إبداء أية ردة فعل.
على الخط، كان واقفاً بيب جوارديولا، الرجل الذي كان في بداية السنة نفسها حاضراً في الكامب نو، من مدرجاته، يشاهد ميسي يضع الكرة بين قدمي جيمس ميلنر، ويتفاعل مع اللقطة بشدة، أصبح الآن عاجزاً عن فهم ما يراه؛ لقد توقف العالم لحظات أمام ليفاندوفسكي ليلتها حتى وإن لم يتوقف هو نفسه.
أظن أن وصول ليفاندوفسكي لأي فريق في العالم يستدعي الاحتفال والفرح، مهما كان عمره، أفضل لاعب في العالم طبقاً للفيفا آخر عامين، والرجل الذي كان بديلاً للوكاس باريوس في دورتموند؛ الآن سيفرض سيطرته على مقاطعة كتالونيا بالكامل.
أكثر من مجرد لاعب
لم يكن تعاقد برشلونة معه مجرد تعاقد مع اللاعب الأفضل في العالم، بل لأنه قائد وهداف وعدة أمور أخرى. لقد ظهرت ملامح شخصيته وأسلوبه داخل الميدان أكثر من أي وقت مضى، أمام رايو فاييكانو في افتتاحية الليجا على ملعب الكامب نو، عند كل توقف يذهب لزملائه ويوجههم أين يتحركون ومتى يتمركزون وكيف.
الرجل الذي ينظر في كل مكان، ويخرج ويدخل منطقة الجزاء كما لو كان يريد الكرة بأية وسيلة تصلح للحصول عليها. وحينما وجد جمهور الكامب نو غافياً، ظل يحفزهم على الهتاف والتشجيع، وهي لقطة قد تكون عادية بالنسبة للبعض، ومألوفة لنجوم كرة القدم، لكن الأمر خاص في برشلونة بعد نكسة فرانكفورت وتخاذل الكتلان عن دعم فريقهم.
وتكرر الأمر مجدداً في مباراة بلد الوليد، في كل فترة توقف يقف ويوجه زملاءه ويتشاور ويتحدث معهم عن أمور تخص المباراة وما يحدث فيها، لهذه الأسباب هو ليس مجرد تعاقد ضخم أتمه برشلونة، بل هو قائد وهداف وعدة أمور أخرى كان برشلونة في أمس الحاجة إليها.
لكنني لست سعيداً يا أبي
سأحكي لك بالتفصيل ما أخفاه ليفاندوفسكي عن العالم بأسره، رغم كل النجاحات التي يحققها، فإنه لم يكن سعيداً أبداً خلال مسيرته للدرجة التي تجعله سعيداً بصدق، بل كان ينقصه شيء مهم عند كل إنجاز، يد تربت على كتفه، أو شخص يحتضنه، أو مواساة يسمعها عند الفشل، أو مدح يدفعه للمواصلة مع كل نجاح.
إن روبرت ليفاندوفسكي كان في أمس الحاجة، طوال مسيرته إلى كرزيستوف ليفاندوفسكي، الأب، الذي رحل عن دنيانا في عام 2005، قبل عام واحد من بداية مسيرة روبرت الاحترافية.
الرجل الذي بدأت القصة من عنده وانتهت به، إن كرزيستوف لم يكن مجرد أب لنجله، ولا بطل الجودو الذي صارع أطرافاً أقوى وأضعف باختلاف المنافسات، بل كان محارباً في ميدان آخر، وبطلاً في صراع أشد، وهذا الصراع كان صراعه مع السرطان.
يوم أن حدثت له السكتة الدماغية، فهم الأطباء أن كل شيء قد انتهى، وأن البطل البولندي لن يكمل رحلته الطويلة مع نجله كما تمنى، وأن السرطان قد انتصر بالفعل، وأن على روبرت أن يكون رب الأسرة من الآن فصاعداً.
ولم يكن كرزيستوف عادياً، لأن روبرت لم يكن قد فهم الدنيا بعد، ولأن كرزيستوف بالتحديد كان القطعة التي تنقص هيكل ليفاندوفسكي، وهو ما بدأنا به قصتنا: الضربة الرائعة التي سجل بها في مرمى بلد الوليد تعود قصتها إلى قصة مؤلمة ورائعة في آن واحد.
ربما لعائلته التي تمتعت بالرياضة من الأب وحتى الأخت، ربما من زوجته "آنا ليفاندوفسكي" التي تقف خلف نجاحاته الكبيرة وجسده الممشوق وصحته الطيبة، آنا هي اختصاصية تغذية بولندية ولاعبة كاراتيه أيضاً، لهذه الأسباب كانت ضربته تلك هي مجرد خطة طويلة الأمد بدأت من أسرته واكتملت بزوجته.
لكن روبرت، أسماه والده بذلك الاسم، لأنه كان مؤمناً بأن نجله سيخرج خارج بولندا في يوم من الأيام، وسيصل إلى أوروبا، وسيصبح مسار حديث العالم بأكمله، وأن اسم روبرت هو اسم سهل النطق والتوارد بين الناس عكس الأسماء البولندية الضخمة التي تحتاج إلى دراسة كاملة عنها.
روبرت ينقصه كرزيستوف دائماً، خطوات الأب في البيت مثل الحرس الملكي، أو هي أكثر أمناً، فالحرس قد يثور و ينقلب، في رؤيته مُتكئاً على الأريكة نصف راحة الدنيا، ونصفها الآخر حين ينتفض عنها من أجل حل مشكلة طالت ذويه، غضبه يُقوي، ابتسامته تُرسل في النفس رضا، وكما قيل، الابن سر أبيه، وأصعب ما يمر على رجل أن يموت سره في حياته، بدلاً من أن يحمله في وداعه الأخير، يجد نفسه يُشيعه بأعين تفيض بالألم لا الدمع وحده.
لذا، حين مات كرزيستوف، تحول ليفاندوفسكي، وهو يعرف تماماً أن كرزيستوف يراقبه ويسعد بكل إنجاز يحققه، ويفرح له كما لو كان معه، ويتذكره مهما غاب عنه؛ لهذه الأسباب وأكثر، ورغم كل ما حققه وسيحققه في مسيرته، لم يكن روبرت ليفاندوفسكي ابن كرزيستوف ليفاندوفسكي سعيداً بمفرده أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.