مقدمة
بدأت قبل أربعة أعوام تقريباً دراسة العلوم الإسلامية والعربية بمعهد الدراسات الشرقية بجامعة لايبزيج، كنت متحمساً جداً لقراءة كتب التراث، بعد أن قرأت أجزاء من مشاريع فكرية حداثية، مثل مشروع طه حسين وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد. وبالفعل بدأت أقرأ في أمهات كتب أصول الفقه، بما أني درست مادة الفقه وأصوله في الفصل الدراسي الأول؛ فتحسنت لغتي وتوسع أفقي وازداد وعيي بقصد علماء الأصول ومناهجهم.
وحين بدأت الكتابة لم تكن هموم واقعي منفصلة عن نية كتابتي؛ فقررت الكتابة عن نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي عند نجم الدين الطوفي الحنبلي (657-716 هـ/1259-1316م)، الذي يتميز بتحرره من سلطة النصوص وبمنهجه المرن، فأثنى على البحث أستاذي المستشرق الكبير هانس جورج-إيبرت (1953-) وأصدقائي. وفي الفصل الدراسي الثاني اخترت مادة الحديث الشريف كي أزيد من معرفتي به، فقرأت شيئاً من أمهات الكتب وقررت الكتابة في موضوع شائك "جمع الحديث وتدوينه"، فجاء بحثاً صغيراً أثنى عليه الأساتذة والأصدقاء أيضاً.
وفي الفصل الثالث السابق لاختيار موضوع الرسالة فكرت في توسيع بحث المصلحة عند الطوفي، إلى رسالة أكبر أجمع فيها خلاصة الدراسات السابقة، وأحاول أن أضيف رأيي بناءً على قراءتي له، ولما كتب عنه، لكني تراجعت عن ذلك بعدما فكرت في الأمر وراجعت ما مر في العام السابق من أحداث، وكنت على وشك ترك الدراسة والبدء في دراسة أخرى، حتى التقيتُ بصديقي السيد سعيد الرحماني، الذي شجعني على مواصلة الدراسة، كما نصحني باختيار مثال تطبيقي على النظرية الطوفية لكيلا يكون العمل نظرياً مملاً. استجبت لنصيحته، وأكملت الكتابة التي كنت قد أنجزت شيئاً منها، وخرجت الرسالة في النهاية في شكل مقبول. (1)
حوار بين التلميذ المسلم وأستاذه المستشرق
كنت أحاور أستاذي المستشرق طيلة الوقت، فلم أستطع أن تمر المحاضرة وكأنها حلقة استماع إلى الأستاذ، دون مساءلة فيما يقول. فكنت أتفق معه حيناً وأختلف حيناً آخر. أعجبني تناوله السلس لأصول الفقه، ومعرفته القوية بالخطابات الفقهية في العالم العربي، فبدا لي وكأنه معجم أو مرجع يمكن الإفاده منه، كذلك كان أسلوبه في الشرح سهلاً بسيطاً، كما كان يراعي ظروف الطالب إلى أبعد الحدود، وهذه أمور شهد له بها كل من درس على يديه من العرب وغيرهم.
لكني كنت ألمح فيه، في الوقت ذاته، ميلاً أصولياً لا يستطيع الانفكاك منه، ميل بدا لي أنه ميل إلى نزع الأصالة عن الفقه، وكذلك التاريخ الإسلامي؛ فأسماء الشمال أفارقة التي تبدأ بـ"بن" تحتاج في نظره إلى دراسة، لأنها بالأحرى تعود إلى أصول يهودية -قياساً على بن غوريون مثلاً- وظني أنه يعني بذلك لجوء كثير من اليهود من الأندلس إلى شمال إفريقيا بعد سقوط غرناطة ومحاكم التفتيش، وتأثيرهم اللغوي والثقافي على سكان المغرب العربي، وهي نقطة لم أملك من المعرفة ما يؤهلني للحكم عليها، لكني استعنت فيها بأستاذ للتاريخ المغاربي، فلم يناقشني فيها واكتفى بالإشارة إلى أنها ليست واقعية.
أما عن مصر فيرى أن مسيحيي الإسكندرية أكثرهم يونانيون، تمصّروا حين ذابوا في البيئة المصرية، وهم عنده متأسلمون أكثر مما يظنون، وعليهم أن ينتفضوا للدفاع عن حقوقهم المسيحية بوصفهم سكاناً أصليين، وهي نظرة تتفق مع رؤيته للوفود العربية على مصر والشام، الذين ينعتهم بالأسلمة، قولاً واحداً دون نقاش، ولا مكان لكلمة "فتح" في قاموسه! فهو يرجع الكثير- صراحةً أو ضمناً- إلى أصول يونانية أو يهودية، وهي سمة استشراقية معروفة، والحال أن الرجل لا يستطيع أن ينفك في تناوله للإسلام تاريخاً وشريعةً من تلك النظرة الأوروبية البروتستانتية الضيقة.
ومسألة نزع الأصالة عن الفقه الإسلامي بإرجاع أجزاء منه إلى القانون الروماني أو القانون الفارسي الساساني، إنما هي مسألة استشراقية مشهورة. الرجل مفتون بتاريخ اليونان، ويعتبر نفسه وارثاً له. وهذه أيضاً فكرة لوثرية بروتستانتية أوروبية أنانية؛ ذلك أن إرجاع الأوروبيين المعاصرين إلى موروث اليونان فكرة شائكة جداً، وليس هناك اتفاق عليها، فمعروف أن اليونان القديمة تفاعلت مع الشرق أكثر من غيره، ويشهد لهذاً الحضارة الهيلانستيكية التي كانت مزيجاً من اليوناني والمصري والشامي (بالتعبير المعاصر)، وعليه من الصعب أن يكون وسط أوروبا وغربها هما الوريث الشرعي الوحيد للحضارة اليونانية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض علماء المصريات يرى أن البطالمة أسرة يجب اعتبارها مصرية؛ لأنها عاشت على أرض مصر حياةً مصرية (قارن في ذلك عكاشة الدالي).
كذلك لم أكن أقنع بقدرة كثير من مصطلحات الفقه الإسلامي الألمانية على الإيفاء بمضمون ما وضعت من المصطلحات العربية، فمصطلحات Islamisches Recht الألمانية أو Islamic Law الإنجليزية أو Loi Islamique الفرنسية لها أبعاد قانونية بحتة، تختزل الفقه الإسلامي في الجانب القانوني، فيما هو- الفقه- يحمل جانباً أخلاقياً أيضاً يتجاوز الحياة الدنيا إلى ما بعد الموت، وهي سمة الإسلام الثنائية المتكاملة.
ومن أمثلة المصطلحات في الألمانية أيضاً Gottesverhrende Handlungen، التي تقابل "العبادات"، وZwischenmenschliche Handlungen التي تقابل "المعاملات"، وغيرها هي مصطلحات مسيحية تفهم الإسلام من منظور مسيحي في روحه الدنيوية- الأخروية المزدوجة، كما فهمها علماء الأصول، الذين يتفق معهم السياسي والفيلسوف المسلم علي عزت بيجوفيتش (1925-2003)، في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" (2)
تكرار الظواهر في بيئات مختلفة
وأود هنا في عجالة أن أقارن بين هذا المنهج ومنهج عالم المصريات سليم حسن (1886-1961)، المجيد للغات، العالم القديم والحديث على حد سواء، والقادر بالتالي على ربط الماضي بالحاضر، في نظرته لنشأة الظواهر وتكرارها في بيئات مختلفة، إذا يقول عن المسرح المصري القديم ونظيره الإغريقي:
"… فإذا عرفنا أن الدراما المصرية قد ظهرت في عالم الوجود قبل الدراما اليونانية بنحو ثلاثة آلاف سنة، وأنها بدت أكثر منها نضجاً، كان جديراً بنا أن نفخر بأن الدراما هي وليدة الفكر المصري، وأنها شبّت وترعرعت في التربة المصرية. ولسنا بذلك نغمط الفكر اليوناني حقه؛ فقد تكون الدراما المصرية قد ظهرت في بيئتها، ثم ظهرت بعدها الدراما اليونانية على ساقيها، من غير أن تأخذ عن المصرية شيئاً، بل نبتت في بيئتها بمجهودها، للأسباب التي هيّأت لها الظهور، وجعلتها فيما بعد النواة التي نبتت منها الدراما الحديثة". (3)
يكتشف سليم حسن أن الدراما كانت موجودة في مصر قبل اليونان بحوالي ثلاثة آلاف عام، فلا يتعجل بالحكم على اليونان بالنقل عن مصر، وإنما يفترض نشأة الدراما هناك نشأة جديدة، وفقاً لظروف بيئية محددة.
لكن على الجانب الآخر، للأسف نجد بعض المستشرقين يتعجل بالحكم على المسلمين، بنقل الكثير من موروث اليونان والرومان، الذي كان متأثراً بنظيره المصري القديم والشرقي عموماً، بالغ التأثر، وتلك نقطة جديرة بالبحث؛ فليس من الحياد أن يدور الحوار فقط بين الإسلام والموروث اليوناني الروماني السابق عليه في منطقة الشرق القديم، رغم قيام الحضارة اليونانية الرومانية على أساسٍ من حضارات الشرق القديمة في العراق وسوريا الكبرى، ومصر وليبيا وتونس.
ونجد هذه المشكلة أيضاً عند واحد من أكثر أساتذة الدراسات الإسلامية والعربية حياداً، وهو الأستاذ الألماني توماس باور، صاحب المؤلَّفين اللذين ذاع صيتهما في العالم العربي، بعد أن ترجم الدكتور رضا قطب أولهما "ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام"، والدكتور عبد السلام حيدر ثانيهما "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ الشرق وتراث العصور العتيقة".
العلمانية والإسلام بين التأثر والتأثير
من ناحية أخرى، يرى السيد الشاهد (1945)، أستاذ الاستشراق والأديان المقارنة، أن البروتستانتية تأثرت بالإسلام، في قضايا منها (التثليث والمغفرة وتفسير بنوة عيسى)، ثم يسوق من الأدلة ما قد يُفهم منه أن العلمانية تأثرت بالفكر الإسلامي الذي كان سائداً في أوروبا وقت نشأتها، وذلك في فصل كامل يحاول الإجابة عن سؤال: لقد كان اضطهاد الكنيسة قائماً في أوروبا قبل أن ينفذ الفكر الإسلامي إليها بقرون، فلمَ إذن لم يقاومها المفكرون إلا بعد قرون لاحقة، توازت مع ظهور الفكر الإسلامي هناك؟ ثم يسوق أدلته التي لها من الواقع ما يؤيدها. (4) ولشبيه بهذا الرأي ذهب أيضاً الأستاذ أمين الخولي في كتابه "صلة الإسلام بإصلاح المسيحية". في المقابل نجد أن بعض المفكرين الحداثيين يعكسون الأمر، فيرون شبهاً بين العلمانية والإسلام، ويصبح الإسلام عندهم ديناً علمانياً، قارن في ذلك إن شئت نصر حامد أبوزيد (1943-2010)، في كتابه الجدلي الشهير "مفهوم النص".
الخلاصة: يبدأ كثير من المؤرخين وأساتذة الإسلاميات في أوروبا من الحضارة اليونانية، في سياق التأثر والتأثير بينها وبين الحضارة الإسلامية، متناسين أو متغافلين عن الحضارات السابقة على اليونانية-الرومانية، والتي لها أثر كبير فيما لحقها من حضارات، كما لحضارة اليونان تأثير على الحضارة الإسلامية، وكما لهذه على الحضارة الغربية الحديثة، وكما سيكون لهذه على ما بعدها، سنة الله التي فطر الناس عليها.
وكون الحضارة الغربية في موقف قوة حالياً لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى التسرع في النقل عنها، والواقع أن البلاد الإسلامية تحتاج إلى اهتمام أكثر بالتعليم والبناء الثقافي بشكل عام، كي تستطيع أن تنهض وتجد نموذجها الإصلاحي الخاص، الذي يتناسب وتاريخها وروحها، فأولى أن نعطي المجتمع فرصته أولاً، قبل أن نستورد نماذج غريبة لا ندري هل هي ناجعة أم لا.
المصادر:
1- نُشرت الرسالة "مفهوم تخصيص النص بالمصلحة عند نجم الدين الطوفي: محاولة للتطبيق على ميراث البنات في فقه المواريث" بالألمانية، تحت عنوان: Das Maṣlaḥa-Konzept bei aṭ-Ṭūfi. Versuch der Anwendung auf die Erbberechtigung der Töchter im Islamischen Erbrecht ثم بالإنجليزية تحت عنوان: Al-Tufi's Concept of Maslahah. An Attempt to Apply on the Woman's Inheritance in the Islamic Inheritance Jurisprudence.
2- علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، دار الشروق، القاهرة، الطبعة العاشرة 2017، صـ312 وما بعدها.
3- سليم حسن: موسوعة مصر القديمة، المجلد الثامن عشر: الأدب المصري القديم: في الشعر وفنونه والمسرح، مؤسسة هنداوي سي آي سي، القاهرة 2017، صـ10.
4- قارن: السيد محمد الشاهد: الخطاب الفلسفي المعاصر من العام إلى الأعم، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 2000، صـ187 وما بعدها.
– جميع الآراء المنسوبة إلى الأستاذ هانس جورج-إيبرت، مقتبسة من نقاشات مباشرة دارت بينه وبين كاتب المقال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.