يصدر مركز أبحاث الكونغرس دراسات دورية تتناول الملفات والقضايا المهمة لواشنطن، بحيث يستطيع أعضاء الكونغرس فهم تلك القضايا واستيعاب أبرز محاورها، وتُحدَّث العديد من تلك الدراسات سنوياً، ومن بينها تقرير سنوي يتناول (العلاقات الأمريكية المصرية) بدأ توافره إلكترونياً في عام 2005، وصدر آخر تحديث له في يوليو 2022.
تنبع أهمية مصر لمصالح الأمن القومي الأمريكي وفق التقرير المشار له من عدة أمور، في مقدمتها موقع مصر الجغرافي وديموغرافيتها وثقلها التاريخي، فقناة السويس يمر بها ما يقدر بنحو 10% من التجارة العالمية، بما في ذلك 7% من تجارة النفط العالمي، كما يبلغ عدد سكان مصر أكثر من 103 ملايين نسمة، ما يجعلها الدولة العربية الأكبر من حيث حجم السكان، فضلاً عن استضافة مصر لمقر جامعة الدول العربية، ودور الأزهر الديني، ودور الجيش المصري في العمل كحصن منيع ضد ما تصفها واشنطن بالجماعات المتطرفة، بحسب شهادة وزير الخارجية السابق جون كيري في 18 أبريل 2013 أمام اللجنة الفرعية للعمليات الخارجية التابعة للجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي، وأخيراً ضمان أمن "إسرائيل" في ظل معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية المعقودة في عام 1979.
وفي ظل تلك الأهمية الاستراتيجية لمصر في المنظور الأمريكي، قدمت واشنطن لمصر أكثر من 85 مليار دولار من المساعدات الخارجية منذ عام 1946، وهي المساعدات التي زادت بشكل ملحوظ وبالأخص في شقها العسكري منذ عام 1979 حيث بررت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تلك المساعدات بأنها استثمار في الاستقرار الإقليمي مبنية بشكل أساسي على تعاون طويل الأمد مع الجيش المصري، وللحفاظ على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تُعتبر واحدة من أهم الإنجازات الدبلوماسية الأمريكية، حتى أن نواب الكونغرس أدرجوا شرطاً منذ عام 2012 يوجب قبل تقديم أموال المساعدات الأمريكية إلى مصر، أن يشهد وزير الخارجية الأمريكي بأن مصر تفي بالتزاماتها الخاصة بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
هل التبعية تعني تنفيذ الطلبات؟
في ظل العلاقات المصرية الأمريكية التي يتناولها تقرير مركز أبحاث الكونغرس بدقة، يصف الكثيرون تلك العلاقات بأنها علاقات تبعية، حيث تستفيد الأنظمة المصرية المتعاقبة من المساعدات الأمريكية السنوية والدعم السياسي مقابل رعاية المصالح الأمريكية، وهي وجهة نظر لها وجاهة، لكن البعض يقفزون قفزةً أخرى للأمام ويصورون الأمر على أن القاهرة تنفذ طلبات واشنطن بحذافيرها، ولا تملك أن تناور أو أن تمانع في تنفيذ العديد من الطلبات الأمريكية، وهذا تصور غير صحيح من المهم مناقشته لفهم طبيعة العلاقات المصرية الأمريكية بشكل صحيح، ولا أجد شيئاً يوضح ذلك مثل مذكرات وزير الخارجية الأسبق وأمين عام الجامعة العربية الحالي أحمد أبو الغيط، والتي نشرها قبل انقلاب 2013، وبالتالي تحدث فيها بأريحية في ظل أجواء الحرية السياسية الواسعة آنذاك.
فقد خصص أبو الغيط الفصل الرابع من مذكراته للحديث عن العلاقات المصرية الأمريكية التي خوله مبارك بالإشراف عليها رفقة مدير المخابرات العامة عمر سليمان، وقد تناول فيما يزيد على 10 صفحات كواليس الضغوط الأمريكية للإفراج عن النائب السابق المعارض أيمن نور عقب القبض عليه عام 2005.
فقُبيل زيارة أبو الغيط رفقة مدير المخابرات العامة عمر سليمان لواشنطن في 13 فبراير 2005، أدانت الإدارة الأمريكية بشكل حاد القبض على أيمن نور في 28 يناير 2005 بتهمة تزوير توقيعات في الأوراق الرسمية الخاصة برخصة تأسيس حزب الغد، وهو ما دفع أبو الغيط وسليمان لمناقشة مبارك في الإفراج عنه قبل سفرهما إلى واشنطن لإنجاح الزيارة.
ثم اعتذر سليمان عن السفر بحجة كثرة الانشغالات في العمل، بينما زار السفير الأمريكي بمصر أبو الغيط قبل سفره بثلاثة أيام، وأخبره بأن الأجواء في واشنطن متحفزة، وهو ما أدركه جيداً أبو الغيط حين شارك قبل وصوله واشنطن في مؤتمر ميونيخ للأمن، وشاهد السيناتور جون ماكين خلال جلوسه على منصة المؤتمر رفقة الوزير المصري يتهم مبارك بالديكتاتورية والعمل على توريث الحكم لنجله جمال، وفهم أبو الغيط أن القبض على نور يهدف لمنع ترشحه للرئاسة الذي قد يشوش على وصول جمال مبارك للحكم.
عقب وصول أبو الغيط لواشنطن، أخبره أعضاء لجنة الاعتمادات بمجلس النواب الأمريكي بأنه سيضغطون لتقليص المساعدات الأمريكية المقدمة لمصر، وحينما اجتمع أبو الغيط مع وزيرة الخارجية كوندليزا رايس أثارت معه قضية أيمن نور قائلة: "الرئيس بوش يضع قضية الحريات السياسية على رأس أولوياته، والإدارة الأمريكية لا تتفهم دوافع القبض على نور، وطالبت بالإفراج الفوري عنه"، ثم عندما اجتمع أبو الغيط مع نائب الرئيس الأمريكي تشيني أثار الأخير قضية أيمن نور أيضاً، وقال إنها تضع الإدارة الأمريكية في حرج شديد أمام الكونغرس، ويوضح أبو الغيط أنه صُدم من حجم الاهتمام الأمريكي بقضية أيمن نور، واعتبر أن واشنطن تستخدم القضية لتطويع الموقف المصري في ملفات أخرى إقليمية مثل الدفع باتجاه مشاركة مصرية في حربي العراق وأفغانستان، وهو ما كان يرفضه مبارك بشدة.
حين رجع أبو الغيط إلى مصر اجتمع مع مبارك في اليوم التالي لعودته، وتحدث معه عن ضرورة تسوية قضية أيمن نور كي لا تتأثر العلاقات المصرية الأمريكية، لكن مبارك رفض وقال له إن القضية أمام القضاء ولن أتدخل فيها، ولكن أُفرج عن أيمن نور بكفالة في مارس 2005، وخاض في ذات العام انتخابات الرئاسة ضد مبارك، ثم حُكم عليه في عام 2006 بالسجن خمس سنوات ما أثار ثائرة واشنطن، فاتصل نائب وزير الخارجية ومدير الاستخبارات الوطنية السابق جون نيجروبونتي بأبو الغيط، وأبلغه بتوجه واشنطن نحو تخفيض مساعداتها الاقتصادية لمصر لتبلغ 200 مليون دولار هبوطاً للنصف، بعد أن بلغت 815 مليون دولار في عام 1980.
إفراج متأخر
ظلت قضية أيمن نور تطفو على سطح العلاقات المصرية الأمريكية، حتى إن مبارك امتنع منذ عام 2005 عن زيارة واشنطن، ورفض مناشدات أبو الغيط المتكررة بالإفراج عن نور ولو عبر إفراج صحي. كما ناشد كل من عمر سليمان مدير المخابرات العامة ورئيس ديوان الرئاسة زكريا عزمي وسكرتير الرئيس للمعلومات الرئيس مبارك بالإفراج عن نور دون جدوى، ثم عادوا لمفاتحة مبارك مجدداً في الإفراج عن نور قبيل زيارة أوباما لمصر لإلقاء خطابه الشهير في جامعة القاهرة في يونيو 2009، ونصحوا مبارك بأن تلك الخطوة ستخفف الضغوط الأمريكية على نظامه، وبالفعل صدر قرار في فبراير 2009 بالإفراج عن أيمن نور لأسباب صحية بعد قضائه 3 سنوات في السجن.
تلك الواقعة تبين أن مبارك رغم علاقته الجيدة مع واشنطن، لم يستجب للضغوط الأمريكية في قضية اعتبرها داخلية تمسّ نظامه، بل ورفض الاستجابة لعدة سنوات لمناشدات أقرب مستشاريه مثل مدير المخابرات العامة ووزير الخارجية، وهو ما يوضح أنه توجد مساحة للمناورة، بل ومخالفة مطالب واشنطن طالما أن ذلك لا يمس الملفات الاستراتيجية مثل قناة السويس وأمن إسرائيل.
الخلاصة أنه لا يوجد زر تحكم يضغط عليه الجالس في البيت الأبيض فيستجيب له الجالس في الرئاسة المصرية، إنما توجد ديناميكات متشابكة لآلية صنع القرار تسمح بمساحات من الاتفاق والاختلاف بين الرئيسين المصري والأمريكي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.