حائط الصد الأخير ضد “تبعيَّة الأزهر”! كيف تمثل شخصية الإمام أحمد الطيب علامة فارقة في تاريخ مصر؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/08/27 الساعة 17:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/14 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش
شيخ الأزهر أحمد الطيب - أرشيفية

يعتبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب المرجعية الدينية السنية الأكبر في العالم الإسلامي، وهو من أكثر الشخصيات المؤثرة محلياً ودولياً، في المسلمين وغير المسلمين، ونظراً لمواقفه واختياراته في مختلف القضايا والمواقف فإن الآراء فيه تعددت بين مؤيد ومعارض، وبين متعصب في الدفاع عنه أو الهجوم عليه، وذلك تبعاً لرأي كل شخص ومدرسته وفكره.

والحقيقة أن أفضل زاوية يمكن أن تطل بها على شخصية ما لتحسن فهمها هي زاوية الشخص نفسه، حيث لا مجال للتحيز أو الآراء المسبقة، وبهذه الطريقة لا نناقش القرارات والآراء بقدر ما نتتبع الأسباب والدوافع، في محاولة للفهم والحصول على تفسير واقعي بعيداً عن التضخيم أو التهوين.

لا يختلف أحد أن الإمام أحمد الطيب من الشخصيات المميزة التي تولت مشيخة الأزهر الشريف، ولقد حجز لنفسه مكاناً في تاريخ تلك المؤسسة الإسلامية العريقة وتاريخ مصر الحديث. فمن جانب تعد الفترة التي تولى فيها المشيخة حافلة بالأحداث السياسية والاجتماعية، ومن جانب آخر يعتبر أداؤه استثنائياً على الصعيد الداخلي نظراً لما قام به من تطوير لمؤسسة الأزهر أو الصعيد المحلي، حيث تموضع في مكان مميز أدار منه علاقاته بمختلف مكونات الدولة المصرية، أو الصعيد العالمي وعلاقاته مع الحكومات والمؤسسات الدينية العالمية.

كل هذه الأمور تؤكد لنا أنه من الضروري قراءة شيخ الأزهر بطريقة هادئة متأنية بعيداً عن الاختزال في موقف ما أو تصريح ما، وهذا ما يسعى الكاتب للوصول إليه عبر السطور التالية..

النشأة الصعيدية الأزهرية

ولد أحمد محمد أحمد الطيب الحساني في قرية القرنة التابعة لمحافظة الأقصر في عام 1946م، وهو ينتمي إلى أسرة صوفية تحب العلم وتنتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما. نشأ في قريته وتعلم في الكتاتيب على الطريقة القديمة التي تعنى بحفظ المتون المعتمدة للتدريس في الأزهر، والتحق بالمعاهد الأزهرية في إسنا وقنا، حتى تخرج في قسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالقاهرة عام 1969م.

من المهم الالتفات إلى أمرين مهمين أثناء النظر في نشأته:

أولهما التزامه بالطريقة الخلوتية الحسانية التي كان أسس مشيختها جده الأكبر الشيخ الطيب وتولى مشيختها أبناؤه من بعده جيلاً بعد جيل، والآن يرأس مشيختها الشيخ محمد الطيب الأخ الأكبر للإمام أحمد الطيب، وهي من الطرق الصوفية المعتدلة التي تركز على تزكية النفس عبر الالتزام بالأوراد والزهد، وهو ما كان له بالغ الأثر في شخصية الشيخ الطيب وتعامله مع القضايا في مختلف مراحل حياته.

الأمر الثاني طبيعة البيت الذي نشأ فيه، حيث توجد في قرية القرنة ساحة اسمها "ساحة الطيب" أسسها جده الأكبر وما زالت تقوم بدورها الاجتماعي المحوري في المجتمع المحلي، حيث تنعقد فيها الجلسات العرفية ومجالس التحكيم، كما تعقد فيها حلقات علمية، ويستضاف فيها العديد من الضيوف والنزلاء، وهو ما جعل دورها يتعدى مجتمع القرية ليمتد إلى مختلف أرجاء الصعيد، حيث يفد الناس إلى تلك الساحة ليفصل مشايخها فيما بينهم من نزاعات ويصلحوا بين المتخاصمين وينزعوا فتيل الثارات المشتهرة في صعيد مصر.

وقد شارك الشيخ في أعمال الساحة في أواسط عقده الثالث، وهو ما كان له بالغ الأثر في صقل شخصيته وتوسع نظرته للمجتمع ومكوناته وطريقة اكتساب القيادة المجتمعية التي لا تقوم على سلطة ممنوحة من الدولة، ولكن بناء على احترام أفراد المجتمع واستعدادهم لقبول قيادته وتنفيذ أحكامه حتى وإن لم تكتسب صفة الإلزام القانوني الذي تكتسبه أحكام القضاء الرسمي.

د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف / GettyImages

التعليم في الأزهر

حصل الطيب على قسط وافر من التعليم الأزهري، حيث حضر مرحلة الكتاتيب، حيث كان يتم تحفيظ القرآن الكريم والمتون، وهي مرحلة تأسيسية أهلته للالتحاق بالمعاهد الأزهرية وصولاً إلى التخرج في كلية أصول الدين عام 1969 بترتيب الأول على قسم العقيدة والفلسفة وعين معيداً بالقسم في نفس العام، وحصل على الماجستير عام 1971 والدكتوراه عام 1977 من جامعة الأزهر واعتلى درجة الأستاذية بها عام 1988.

عقب تخرجه في الكلية التحق بالمركز الثقافي الفرنسي وقضى خمس سنوات في دراسة اللغة الفرنسية؛ وهو ما أهّله للابتعاث إلى جامعة باريس في فرنسا لمدة ستة أشهر عام 1977، كما ترجم عدداً من المؤلفات من الفرنسية إلى العربية، ويعتبر إتقانه للفرنسية وإلمامه بالإنجليزية إحدى الأدوات التي ساعدت في صياغة شخصيته العلمية والسياسية على حد السواء.

التدرج في المناصب

بدأ الطيب تدرجه في تولي المناصب الأكاديمية، حيث تولى رئاسة قسم العقيدة والفلسفة ثم عميداً لكلية الدراسات الإسلامية والعربية بقنا، ثم أسوان، ثم عميداً لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية بباكستان، وهي مناصب أتاحت له الفرصة لإنتاج العديد من المؤلفات العلمية الرصينة والمتخصصة.

بدأ خروجه من الإطار الأكاديمي إلى إطار مسئوليات الدولة في بداية القرن الحادي والعشرين، حيث تولى وظيفة مفتي مصر لفترة قصيرة امتدت من 10 مارس/آذار 2002 وحتى 27 سبتمبر/أيلول 2003، ثم عين رئيساً لجامعة الأزهر في اليوم التالي لمغادرته دار الإفتاء وبقي رئيساً لها حتى تولي المشيخة 19 مارس/آذار 2010 باعتباره الإمام الثامن والأربعين للجامع الأزهر الشريف.

فتاوى الأزهر لضمان حقوق المرأة شيخ الأزهر حق الكد والسعاية
شيخ الأزهر أحمد الطيب – رويترز

الطيب.. الرؤية والمنطلقات

أثناء قراءتنا لشخصية الإمام الطيب يمكن أن نحدد عدداً من المنطلقات والمحددات الرئيسية التي تحكم رؤيته للأحداث ويبني من خلالها مواقفه، تلك المنطلقات التي إذا نجحنا في استخلاصها وأحسنّا تحديدها فسنجد أن مواقف الشيخ متسقة وليست مفاجئة أو جديدة بحال أو بآخر.

تعتبر مصلحة الأزهر الشريف من أكبر المحددات التي ينطلق منها الإمام، فهو يرى أن الأزهر مؤسسة إسلامية جامعة، تحتضن الإسلام السني وتعتبر مرجعية للمسلمين، لذا فإن كل ما يؤدي إلى تقوية وضع مؤسسة الأزهر وتحديثها فهو من أهم مسؤوليات الشيخ ومهامه.

يأتي احترام الدولة المصرية باعتبارها المظلة التي يندرج الأزهر تحتها، حيث يعتبر الأزهر أحد مكونات "الدولة المصرية" لذا فلا بد من الموازنة بين كون الشيخ إماماً للمسلمين السنة في العالم، وبين صفته داخل الدولة وما يحتم عليه ذلك من موازنات سياسية ضرورية واستخدام الأدوات المتاحة في إدارة العلاقة مع الدولة ومكوناتها.

ينطلق الإمام من احترام المذاهب والاجتهادات الفقهية مع التمسك بثوابت الدين واعتبار الحفاظ على الثوابت الدينية من صميم دور الأزهر مهما كان ثمن ذلك، ومهما كان الطرف الآخر في هذا الصراع.

يؤمن الشيخ بأن الأزهر الشريف ليس مجرد مؤسسة تعليمية، ويرى أن للأزهر دوراً كبيراً في المجتمع المصري وأيضاً دوراً كبيراً ينبغي أن يضطلع فيه في القضايا العالمية.

تعتبر هذه المنطلقات خلاصة مسبقة يمكننا في ضوئها قراءة مواقف شيخ الأزهر الإمام الطيب في العديد من القضايا والمواقف لنجد كافة مواقفه متسقة مع مبادئه ومنطلقاته، فلنستعرض معاً بعض القضايا في محاولة لإعادة قراءة الإمام الطيب دونما تحيز أو اختزال.

أحمد الطيب والسيسي
الرئيس المصري عبد الفتاج السيسي مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب/رويترز

الشيخ والأزهر

لا ينسى الطيب أبداً أنه شيخ الأزهر، وأن أكبر واجباته يتمثل في الحفاظ على مؤسسة الأزهر وتعظيم دورها ومكانتها، وقد نجح الطيب في ذلك مرات عديدة، حيث أخرج الأزهر من حالة الجمود الذي مر به خلال فترة مشيخة المرحوم الشيخ محمد سيد طنطاوي، فأطلق الطيب في بداية فترة مشيخته عام 2010 مشروعاً تجريبيّاً في عشر محافظات، باستحداث شعبة جديدة بالمرحلة الثانوية تحت اسم "الشعبة الإسلامية" بجانب شعبتي الأدبي والعلمي، ويتم اختيار طلاب الشعبة عقب اجتياز اختيارات تربوية وعلمية متخصصة، مع توفير مميزات خاصة لهم من حيث الإقامة ووسائل التعليم والترفيه والاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية، ليكونوا نواة لجيل أزهري على مستوى عالٍ من الكفاءة، مؤهلين للالتحاق بالكليات الشرعية، وقادرين على حمل رسالة الأزهر الشريف مع التمكن من وسائل وأدوات العصر الحديث.

أطلق الطيب مشروعاً كبيراً لتطوير الأروقة الأزهرية، وهو ما مكّن الآلاف من الاستفادة من علماء الأزهر دون اشتراط دراستهم في جامعة الأزهر، وهو ما منح الأزهر تأثيراً مجتمعياً مضاعفاً، خاصة مع الاهتمام الكبير بالتغطية الإعلامية للدروس والمحاضرات والفعاليات التي تقام بشكل دوري في الجامع الأزهر وفروع الأروقة الممتدة في عدد من المحافظات.

وفي خضم الجدل الدائر في مصر حول الانتخابات والتحول الديمقراطي عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011 استطاع الشيخ أن يقتنص مكتسباً تاريخياً للأزهر، وذلك عبر القرار الذي استصدره من المجلس العسكري الحاكم في مصر آنذاك في يوليو/تموز 2012، ويقضي بإحياء هيئة كبار العلماء، تلك الهيئة التي أدارت شؤون الأزهر منذ تأسيسها على يد الإمام سليم البشري عام 1911 وتم حلها بالقانون سيئ السمعة الذي أصدره عبد الناصر عام 1961 تحت اسم "قانون تطوير الأزهر"، وقد حرص الطيب على أن تضم ثلة من كبار العلماء والمفكرين بغض النظر عن الانتماء الوظيفي للمؤسسة، فضمت في عضويتها المفكر الإسلامي الراحل الدكتور محمد عمارة والدكتور حسن الشافعي الأستاذ بكلية دار العلوم، والدكتور يوسف القرضاوي الأستاذ بجامعة قطر، وقد بقيت الهيئة محتفظة بصلاحياتها حتى سحب الكثير من تلك الصلاحيات منها عقب انقلاب 2013.

حرص الطيب على أن يترجم اصطفاف الأزهر كمؤسسة يمثلها الشيخ إلى المجتمعين في بيان يوليو/تموز 2013 إلى مكتسبات للمؤسسة، حيث حصل الأزهر على وضع استثنائي في دستور 2014 الذي نص في مادته السابعة على:

(إن الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية ويتولى مسؤولوه الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء)، حيث احتفظ للمؤسسة باستقلالها، وانتزع إقرار الدستور بالدور العالمي للأزهر، وكذلك اعتباره المرجع الأساسي في العلوم الدينية في مصر، وهو ما يمنحه اليد العليا على مؤسسات الأوقاف والإفتاء، كما حصل على العديد من الوعود بإعادة دار الإفتاء والأوقاف إلى إدارة الأزهر، وهو ما لم يتحقق بالطبع!

شيخ الأزهر أحمد الطيب/ رويترز

ومن أجل ضمان قيام الأزهر بدوره أسس الطيب مركزاً للفتوى يقدم الفتاوى للجمهور مباشرة وعبر الهاتف وعبر البريد الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، ويضم عدداً كبيراً من المتخصصين والباحثين، وتنتشر فروعه في مختلف محافظات مصر، وهو عمل موازٍ لعمل دار الإفتاء، وحدث أكثر من مرة أن تتعارض توجهات مركز الأزهر للفتوى مع توجهات دار الإفتاء، وهو ما يكشف جانباً من دوافع الاهتمام بإطلاق واستدامة العمل في مركز فتوى خاص بالأزهر بعيداً عن دار الإفتاء الخاضعة لإدارة وزارة العدل.

كما قام الطيب بتأسيس بيت الزكاة والصدقات المصري عام 2014، وهي مؤسسة معنية بجمع الأموال الموجهة إلى التبرعات بمختلف صورها وصرفها في أوجهها واستثمارها حتى تعود بالنفع لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من أموال الزكوات، وهو ما استعان فيه بعدد من الكفاءات بينهم رئيس وزراء سابق ومدراء بنوك، جنباً إلى جنب مع علماء متخصصين في المجال المالي، ويعتبر بيت الزكاة والصدقات من أكثر المؤسسات الخيرية مصداقية في مصر، وبهذه المؤسسة تمكن الطيب من امتلاك أداة مالية تعوض بعض الخلل الناتج عن فصل وزارة الأوقاف عن الأزهر.

الشيخ والدولة

استطاع الطيب المحافظة على مسافة جيدة في تعامله مع الدولة المصرية في خضم الأحداث العاصفة التي مرت بها مصر منذ أواخر 2010 وحتى وقتنا الحالي. ففي عهد مبارك كان عضواً في لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، تلك اللجنة التي كان يحرص قيادات الحزب على ضم وجهاء المجتمع إليها خصوصاً أو إلى أحد أجهزة الحزب عموماً باعتبارها أبرز وسائل اكتساب ثقة النظام الحاكم آنذاك. ومع اندلاع ثورة 2011 اصطف الطيب مع الدولة ورأى أن الفوضى لا تقود إلى خير، ولكن مع نجاح الثورة انحاز إليها وتواصل مع قادة المجلس العسكري وانتزع منهم العديد من المكاسب للأزهر.

وفي فترة حكم الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي لم يصطف مع أحد الأطراف المتطاحنة سياسياً حتى جاء بيان 3 يوليو/تموز 2013 الذي اصطفت فيه كل مكونات الدولة وغالب المعارضة في مواجهة حكومة الرئيس مرسي، وهو ما يتسق مع منهجه في الانحياز للدولة ومؤسساتها باعتبار أن تماسك كيان الدولة هو الأهم.

ورغم موقفه في بيان يوليو/تموز 2013 فإنه رفض بكل وضوح أعمال العنف التي حدثت تجاه المتظاهرين المؤيدين للرئيس الراحل محمد مرسي، وأعلن اعتزاله في بلدته بالأقصر عقب مذبحة رابعة العدوية وذلك في مداخلة على الهواء مباشرة، في حين أن مشايخ آخرين مثل الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء له تسجيل مشهور يشجع على قتل المتظاهرين! وهو ما يؤكد على أن انحيازه للدولة ليس مطلقاً، ولكنه مرتبط بألا تتعارض مع الأسس الأخلاقية والدينية الثابتة.

قاوم الطيب- وما زال يقاوم بشدة- التعديلات التي يرغب الرئيس عبد الفتاح السيسي إدخالها على قوانين الأحوال الشخصية، حيث سلك كل السبل الممكنة لعرقلة مسودة قانون الأحوال الشخصية المدعومة من طرف العديد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، وشكل لجنة شرعية وقانونية عالية المستوى ونقض التعديلات المقترحة وقدم مقترحاً متكاملاً للقانون بحيث لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية ولا يخل بالتوازن المجتمعي، ولعل أبرز مؤشرات الاختلاف بينه وبين رأس الدولة ما قاله الرئيس في أحد الخطابات موجهاً كلامه للإمام الطيب "تعبتني يا فضيلة الإمام" مشيراً إلى رفض الإمام الطيب إلغاء اعتبار الطلاق الشفوي في أحكام الأسرة.

وهناك الكثير من المواقف التي تكشف عمق هذا الخلاف، وهو ما يؤكد على أن الطيب ليس موظفاً تابعاً وإنما هو قائد لمؤسسة ضخمة هي مؤسسة الأزهر، يجتهد في تحقيق مصلحتها بالأدوات الممكنة بما لا يتعارض مع ثوابت الدين ومبادئ الأخلاق.

الشيخ الذي هاجمه الجميع!

تعرض الإمام الطيب إلى هجوم قوي من الجماعات الإسلامية، فالإخوان المسلمون لم ينسوا أحداث ميليشيات الأزهر التي استغلها نظام مبارك بإقامة طلاب الإخوان لمحاكاة تمثيلية للمقاومة الفلسطينية فعقدوا المحاكمات للطلاب ولعدد من قادة الإخوان، وكان ذلك في عهد رئاسة الطيب للجامعة. كما أن السلفيين معروفون بعدائهم للمنهج الأزهري الأشعري الصوفي، والحق أن صراع الإخوان كان مع نظام مبارك وقضيتهم كانت مع أجهزة أمنه وليست مع رئيس الجامعة، كما أن مشكلة الوهابية هي مع غالب المكونات العلمية للأمة وليس مع الطيب بصفة شخصية، ورغم هذا لم يسلم الطيب من هجوم الجماعات خاصة مع موقفه القديم المعروف برفضه للجماعات السياسية الإسلامية.

وعلى صعيد آخر هاجمه عموم الشباب عقب ثورة 2011 باعتباره أحد رموز "النظام البائد"، وعلى صعيد آخر صراعه مع مختلف أجهزة الدولة واضح، خاصة صراعه مع المؤسسات الدينية التي تتبع النظام بصورة كاملة وتختار الاصطفاف مع النظام بغض النظر عن الرأي العلمي أو دراسة المآلات، مثل معركته مع دار الإفتاء التي جعل رأس حربته فيها مؤسسة الأزهر للإفتاء التي تتمتع بمصداقية أكبر من دار الإفتاء ذاتها، وكذلك صراعه مع وزير الأوقاف الذي أراد أن يفرض الخطابة من ورقة، وفشل في ذلك بعدما وقف له شيخ الأزهر بكل ثقله.

تعرض الإمام الطيب كذلك لهجوم "التنويريين" والمفكرين العلمانيين والحداثيين، ولا يخلو حدث دون أن يظهر مهاجم له سواء بسبب انحيازه لثوابت الدين أو احترامه للتراث الإسلامي، ولعل مناظرته القوية لرئيس جامعة القاهرة أكبر دليل على استعداده على خوض المعارك من أجل قناعاته ومعتقداته مهما كان الثمن.

والعجيب أن الجماعات التي هاجمته سارعت إلى إبداء الإعجاب به عند مواجهته لتغول الدولة في المساحات الدينية، ومواجهته تيارات العلمانية والتغريب. والشباب الذين هاجموه عقب 2011 وجدوا في المحاضن الإسلامية التي وفرها في الأروقة ملاذاً لتعلم أحكام الدين بعدما أفرغت وزارة الأوقاف المساجد من مضمونها وأوقف غالب أنشطتها. والدولة التي هاجمته تعلم تماماً قدره ومكانته وكيف أوجد أداة من أدوات القوة للدولة المصرية بعدما كان الأزهر صوتاً خافتاً لسنوات طويلة. ودعاة التنوير الذين هاجموه وجدوا في إعادة قراءته للعديد من أحكام الأسرة- مع اختلافي في كثير منها- مقاربة جديرة بالثناء.

هل حقاأتى قانون الإفتاء الجديد ليدفع شيخ الأزهر للإستقالة من منصبه؟
شيخ الأزهر أحمد الطيب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي

إن مشكلة تناول شخصية الإمام الطيب في غالب المقالات والدراسات هي أنها صادرة عن أحكام مسبقة، ينظر الكاتب من خلال نظارته الشخصية وزاويته الخاصة، فيرى أن الطيب الذي حقق أهدافه أو دافع عن قضاياه هو أفضل إمام، ويرى أن الطيب الذي نحى منحى آخر بعيداً عن رؤية هذا الشخص مستحقاً للهجوم والهجاء! وهو تناول سقيم سواء صدر عن محب أو مبغض، والحقيقة أن الإمام الطيب رجل عالم جليل، له عقل راجح وأقر له العلماء بعلمه وقدره، وله أولويات ومحددات تضبط قراراته، والمتتبع لها يكتشف أنه- من وجهة نظري- الأكثر اتساقاً مع مبادئه خلال تلك الفترة الصعبة من تاريخ مصر الحديث.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إسلام هلال
باحث أكاديمي مهتم بالشريعة والقانون وعلم الاجتماع
باحث أكاديمي مهتم بالشريعة والقانون وعلم الاجتماع
تحميل المزيد