منذ عامين تقريباً، وتحديداً مع الزيارة التي قام بها قيس سعيد للجزائر في شهر فبراير/شباط 2020، بدأت تظهر مؤشرات في تحول الموقف التونسي تجاه المغرب، فقد تعهد بأن تكون الجزائر قبلته الأولى منذ انتخابه للرئاسة، وانتظر هدوء الحراك الشعبي في الجزائر وانتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، ليجري هذه الزيارة، وليعلن فيها توافقاته مع الجزائر في قضايا أمنية إقليمية (الشراكة لمكافحة الإرهاب، الملف الليبي) وأخرى اقتصادية (شراكة اقتصادية مع الجزائر في مجالات عدة) وتوافق على مستوى الموقف من (صفقة القرن).
الرئيس التونسي قيس سعيّد كان يدرك أن مشروعه للإجهاز على التجربة الديمقراطية لن يترك له حليفاً في المنطقة، فحدد وجهته منذ البداية، فاختار الجزائر التي يهمها البحث عن حليف في دول المغرب العربي، يدعمها اقتصادياً وأمنياً، ويساندها في أطروحتها في دعم أطروحة "حق تقرير المصير للشعب الصحراوي".
بدايات التحول، أو علاماته الظاهرة، تأكدت مع الموقف الذي اتخذته تونس من قرار مجلس الأمن 2602 في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، الذي امتنعت فيه عن التصويت لصالح تجديد بعثة المينورسو سنة إضافية، وهو الموقف الذي رسم فيه قصر قرطاج خط القطيعة مع العقيدة التونسية في إدارة في التعاطي مع نزاع الصحراء، والتي كانت قائمة على الحياد، واعتبار قضية الصحراء مشكلة داخلية لا تجيز بأي الأحوال تدخل تونس فيها.
الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي تعيش بلده في الآونة الأخيرة ذروة الأزمة الاقتصادية، ونفاد المخزون من المحروقات وازدحام الطوابير حول محطات البنزين، وبعد اللطمة التي تلقها من الجانب الأمريكي (تصريح وزير الدفاع الأمريكي)، وبعد أن صرّح الرئيس تبون بأن الجزائر ستساعد، إلى جانب إيطاليا، تونس للعودة إلى التجربة الديمقراطية، أدرك أن الجزائر لن تستثمر معه كثيراً إن لم يبدِ انحيازاً كاملاً لمقاربتها في موضوع الصحراء، فعقد 20 اتفاقية في مجالات عدة، مع تقديم قرض 300 مليون دولار، لا يساوي شيئاً أمام حاجات الاقتصاد التونسي، والتي تتطلب في هذه الفترة حوالي 7 مليارات دولار للخروج من الأزمة (حسب تقديرات المؤسسات المالية الدولية).
ولذلك، اختار التوقيت الملتبس الذي يمكن أن يبعده عن الشبهات، أي استقبال زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية أثناء احتضان تونس لمؤتمر القمة اليابانية الإفريقية (تيكاد) في السابع والعشرين والثامن والعشرين من الشهر الجاري.
بلاغ وزارة الخارجية المغربية، على الرغم من تقديره بخطورة تحول الموقف التونسي، بدا هادئاً، إذ بدأ بالخطوات الأولى التقليدية، والتي تتعلق بسحب السفير من أجل التشاور، والانسحاب من المؤتمر، مع إعطاء توضيحات، ترفع الالتباس، وتبين أن قرار المغرب، لا يستهدف اليابان، ولا الاتحاد الإفريقي ولا مصالح القارة الإفريقية، وإنما يهم تونس وحدها، التي اتخذ رئيسها بشكل انفرادي قرار دعوة جبهة البوليساريو واستقبل زعيمها بشكل رسمي ومنحه صفة رئيس الجمهورية الصحراوية في صفحة رئاسة الجمهورية.
الخارجية التونسية تأخرت لساعات قبل أن تصدر بلاغها في الرد على المغرب، وذلك بعد أن سحب موقع الرئاسة مقطع استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد لزعيم الجبهة الانفصالية إبراهيم غالي، ثم أعاد نشره وتم حذف صفة رئيس الجمهورية الصحراوية، دون تقديم توضيحات عن سبب هذا الارتباك، وهل كان بسبب ضغوط قامت بها اليابان، أم ضغوط داخلية مصدرها جهات أمنية أو عسكرية؟
بلاغ الخارجية التونسية، جاء عقب ذلك ليدافع عن موقف الرئيس قيس سعيد، فيما يخص شرعية حضور جبهة البوليساريو إلى القمة اليابانية الإفريقية التي تحتضنها تونس، وأن الدعوة لم توجه له من قبل تونس، وإنما وجهت له بشكل قانوني من الاتحاد الإفريقي، مستندة في ذلك إلى سوابق مؤتمرات القمة اليابانية الإفريقية، بينما بلاغ الخارجية المغربية، يؤكد بأن الدعوة جاءت بشكل انفرادي من قبل الرئيس التونسي قيس سعيد، وضدا على رغبة اليابان، أي دون تشاور معها.
لندع هذا النقاش القانوني جانباً، فحيثيات بلاغ الخارجية التونسية، يبدو مستنداً إلى جهة الحقيقة التاريخية، لواقعة واحدة، حصلت في القمة التي استضافتها الموزمبيق، التي استضافت البوليساريو ضدا على موقف اليابان، التي أعلن وزير خارجيتها (كونو طارو) رفضه حضور البوليساريو في القمة، وأن هذا هو موقفها الثابت الذي لم يتغير منذ سنة 1993، وأن طوكيو لا تعترف بجبهة البوليساريو.
على أن ما يعزز ارتباك بلاغ وزارة الخارجية التونسية، هو مواقف المشاركين الأفارقة في القمة، والذين أعلنوا (غالبية) خفض تمثيليتهم الدبلوماسية في القمة، احتجاجاً على موقف تونس دعوة ممثل البوليساريو، مما يهدد بأن تكون هذه القمة أفشل قمة يابانية إفريقية منذ حوالي 3 عقود.
النخب التونسية، السياسية منها والمدنية، استغربت تحول الموقف التونسي، واعتبرت أن قيس سعيد لم يكتفِ فقط بإجهاض التجربة الديمقراطية، وإنما ذهب بعيداً في ضرب استقلالية القرار السيادي التونسي، وتخريب علاقاتها التقليدية مع أشقائها في المغرب العربي.
والمفارقة أن النخب المغربية، كما التونسية، تستغرب هذا التحول وحيثياته، وتتساءل عن السبب الذي دعا قيس سعيد إلى اتخاذ هذا الموقف العدائي من المغرب، لا سيما أن المغرب قدم كل ما يمكن تقديمه من أجل دعم استقرار تونس في مواجهة التحديات الأمنية التي واجهها ودعم تجربتها الديمقراطية الناشئة، وحرص الملك محمد السادس على زيارة لتونس (2014)، أطال مدتها، حتى يبعث برسالة واضحة بأن تونس مستقرة، وأن تجربتها الديمقراطية واعدة، أنها لا تستحق هجرة الاستثمارات الأجنبية منها.
بل أبانت المؤشرات التجارية بين البلدين، أن المغرب كان حريصاً كل الحرص على أن تتجاوز هذه المبادلات العقبة النفسية المسماة بمليار دينار تونسي (أكثر من 10 مليارات درهم مغربي)، إذ أظهرت أرقام رسمية تونسية تجاوز هذه العقبة سنة 2021 و2022، على الرغم من الموقف الذي اتخذه قيس سعيد ضد المصالح الحيوية للمغرب (الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن 2602).
لا أحد من النخبة السياسية التونسية يفهم سبب التحول التونسي في قضية لم تغير تونس فيها عقيدتها السياسية منذ نشوبها (نزاع الصحراء)، لكن ثمة تخوف كبير لدى هذه النخب من أن تكون الأزمة الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ورط فيها قيس سعيد البلاد، والعزلة القاتلة التي أدخل تونس إليها وحرمها بشكل كامل في محيطها الدولي والإقليمي، وضيق الخيارات إن لم يكن انعدامها، لم يبق للرئيس أي وجهة، سوى تسليم سيادة تونس واستقلال قرارها السيادي للجزائر، اعتقاداً منه، أنها أصبحت تمثل بالنسبة إليه المنفذ الوحيد للخروج من الأزمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.