في لبنان انفجر السجال مجدداً على جبهة تشكيل حكومة إدارة الفراغ الرئاسي، ولكن هذا السجال مرده الأساسي الأيادي الخفية لرئيس التيار العوني جبران باسيل، والذي يصر على عرقلة مسار التأليف الحكومي ربطاً بعقد صفقة مع الأطراف التي تتحسس الفراغ والانفجار المعيشي، وتبدو ضغوط باسيل مقامرة غير محسوبة النتائج انطلاقاً من أنه يدرك مكامن ضعف باقي الأطراف، وفيما كان ميقاتي ينتظر من عون أن يسمّي الوزيرين البديلين لوزارتي الاقتصاد والمهجرين حسبما انتهى اللقاء الرابع بينهما، ليصير إلى اجتماع خامس لعله يستولد الحكومة، فوجئ ميقاتي بما ينقله زوار عن عدم شعوره بجدية ميقاتي بالتشكيل.
وهذا السجال الإعلامي المتجدد بين بعبدا والسراي الحكومي، زاد من المخاوف على مصير تشكيل حكومة العهد الأخيرة، وهناك من يشعر أن الحكومة لن تولد، وأنّ البلاد ذاهبة إلى البقاء في عهد حكومة تصريف الأعمال، سواء انتخب رئيس جمهورية جديد في المهلة الدستورية أو لم ينتخب، فيما الآخرون يشيرون، وفق ما يتسرب لهم من دوائر دبلوماسية عاملة على خط تفكيك الأزمات التشكيلية، أنها ستولد، ولكن ستتأخر إلى الأيام الأخيرة من موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وأمام مطالب عون بتوسيع الحكومة وتوزير صهره جبران باسيل ومستشاره سليم جريصاتي، أصبح ميقاتي أمام معادلة واضحة: إما التنازل لعون والقبول بكل شروطه، أو البقاء في حال تصريف أعمال لحين الوصول إلى لحظة انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون. وحينذاك تكون كل السيناريوهات مفتوحة وغير متوقعة من قبل عون وفريقه اللذيْن لن يسلّما البلاد دون أزمة مفتوحة أو تغيير في المعادلة الداخلية، لذلك بدا ميقاتي اليوم أحرص على تشكيل حكومة في ظل تنسيقه المفتوح مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي وحزب الله ووليد جنبلاط. لا سيما في ضوء تكرار أمين عام الحزب عينه مواقفه الداعية إلى تشكيل حكومة.
فحزب الله يريد تجنّب سيناريوهات غير محسوبة، تنعكس توتراً في الشارع، أو تعيد خلط الأوراق، وخاصة أن الحزب في الوقت عينه لم يعد يفضل الضغط على عون وباسيل لكسبهما في أي اتفاق على اسم للرئيس في حال وقع الاتفاق النووي وتقدمت الحوارات الإقليمية.
بالتوازي فإن ملف ترسيم الحدود لا يزال الشغل الشاغل لمجموعة أطراف محلية وإقليمية، فالمواقف في الداخل والخارج تشير إلى أن الاتفاق سيحصل وينتظر التوقيت المناسب ربطاً بتحولات المنطقة وحواراتها المفتوحة في أكثر من اتجاه، لكن في الكواليس يبدو الجانب الإسرائيلي الأكثر ارتباكاً، انطلاقاً من الانتخابات المرتقبة والحديث عن تأثير أي اتفاق بحري مع لبنان ينعكس سلباً على أهل السلطة والأحزاب في إسرائيل، وما تعنيه الانتخابات الإسرائيلية هي حاجة الأطراف المتصارعة على استخدام هذا الملف للمزايدة السياسية، وهذا ما يدفع إلى إطلاق معلومات وتسريبات إسرائيلية متناقضة ومتضاربة، بعضها يقول إن الاتفاق سيحصل، وبعضها الآخر يعتبر ألا بديل عن الحرب مع حزب الله وحلفائه في غزة، ولا بد من الجهوزية للمواجهة.
والانطباع الحالي يشير بداية إلى أنّ اسرائيل غير جاهزة في المرحلة الحالية للذهاب إلى حسم ملفات حساسة مثل هذا الملف، قبل الانتهاء من الانتخابات التي تتكرر للمرة الخامسة في غضون سنوات قليلة، ومن بعد إنجاز الانتخابات يقرر الطرف الرابح الاستثمار بالملفات الحيوية أهمها تزويد أوروبا بالغاز، والاستمرار بسياسة التطبيع المفتوح مع دول عربية.
وإسرائيل تريد الاستفادة القصوى من حالة الجمود الحاصل في العديد من الملفات الإقليمية، وعلى رأسها ترسيم الحدود لتحقيق النقاط على إيران وحزب الله وحركة حماس، بالمقابل فإن الرغبة الأوروبية في مكان آخر، وخاصة أن الأوروبيين لا يزالون يفوضون باريس عبر باتريك دوريل أو آن غريو في بيروت بالتواصل مع حزب الله، وباريس هي جهة التواصل الغربية الأخيرة مع الحزب.
والتشنج الأوروبي معطوف على أزمة الغاز التي تعاني منها أوروبا، والتي تضعها أمام فصل شتاء قاسٍ، بالمقابل فإن الجهات الغربية حريصة أيضاً على الاستفادة من الحزب انطلاقاً من أن الحزب عينه يقول إنه ملتزم بخط الدولة، أي معادلة كاريش مقابل قانا، وإلا فالتصعيد البحري والذي قد يتطور برياً وجوياً، وهذا الشق من الأزمة والتصعيد تسعى كل الأطراف لتبريده وعدم الانزلاق نحوه.
والأسلوب الإسرائيلي بتأخير الاتفاق حول الحدود والترسيم، يحكم أيضاً مسار التفاوض الإيراني – الأمريكي على أبواب الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، التي يريد جو بايدن تعزيز وضعه فيها من خلال الاتفاق مع إيران، وانعكاسه إيجاباً على سوق الطاقة. لكن في المقابل يريد بايدن إظهار نفسه بأنه يواجه إيران وأذرعها، لذا أقدم على توجيه ضربات لها في شرق سوريا، ويرفض رفع الحرس الثوري عن لوائح العقوبات التي تقرها الخزينة الأمريكية.
في هذا الإطار تبرز مساعٍ واضحة لأطراف إقليمية لتبريد أي نزاع ساخن في المنطقة، وهذا الأمر تقوده بقوة قطر عبر استضافتها لحوارات ومصالحات إقليمية ودولية أبرزها جمعها لمسؤولين أمريكيين وإيرانيين، وتسهيل إعادة ربط الحوار في فيينا، بالمقابل فإن الجانب القطري يتحرك لبنانياً بالتنسيق مع السعودية وإيران لتجنيب اختيار رئيس "طرف"، وعدم تكرار تجربة ميشال عون، وإعادة التوازن الداخلي عبر مساعدة الجيش مالياً، وهذه المساعدة قد تتكرر أول العام المقبل مع انتخاب رئيس جديد عبر دعم للجيش وباقي الأجهزة، انطلاقاً من رغبة الدوحة في إرساء استقرار أمني يتلازم مع مرحلة تعافٍ داخلي.
وفي الإطار ذاته هناك من يتحدث عن اجتماع ستستضيفه قطر لقادة دبلوماسيين وأمنيين من المنطقة لتدارس التحديات الإقليمية مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي زعزعت اقتصادات دول عربية وإفريقية، بالمقابل فإن اللقاء لن يقتصر على الشق الاقتصادي، بل سيتدارس الأزمات انطلاقاً من الاتفاق النووي وأزمة الطاقة واستمرار إسرائيل في سياسة ضرب مصالح الدول العربية، لذا فإن الدور المرتقب إقليمياً يبدو أنه في هذه المرحلة "دور قطري" متقدم ومتناغم مع تحديات العالم.
وعليه فإن حسابات الشرق الأوسط ذاهبة إلى مسار جديد، وبالتالي فإنّ الاتفاق النووي مع إيران أصبح حاصلاً، ولم يعد ينقصه سوى إعلان موعد احتفالية التوقيع، وهذا يعني أخذ الشرق الأوسط في نطاق النزاع الجديد مع الصين، وهذا يؤشر إلى أن المفاهيم الصراعية انتقلت من إطارها التقليدي وتبدلت لحروب على الطاقة والصناعة والأسواق المفتوحة، وهذا يفسر أيضاً العرض التركي للتنقيب في الساحل اللبناني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.