روسيا من البلاد التي أخذت إرثاً تاريخياً ثرياً من الأحداث العسكرية والاجتماعية والثقافية، فهي تحمل إرث الإمبراطورية الروسية العظيمة، كما أنها تحمل إرث الاتحاد السوفييتي، إنهما نظامان مختلفان ولكن لطالما كان لكل منهما تأثير كبير في المنطقة والعالم. لا يخفى على أحدٍ أن مع كل نظام جديد يأتي على روسيا يحمل في خلفيته علماء وفلاسفة استطاعوا أن يكونوا المرشد والعقل لحكام روسيا على مر التاريخ، ابتداءً من الكاهن غريغوري راسبوتين في فترة حكم القيصر الروسي نيقولا الثاني، بعدها أتى الاتحاد السوفييتي الذي نشأ على أسس الفيلسوف كارل ماركس. وإلى يومنا هذا ما زال الفلاسفة لهم دور كبير في الحياة السياسية الروسية ومن بينهم ألكسندر دوغين الذي لقب بعقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
راسبوتين والقيصر الروسي نيقولا الثاني
بين عامي 1903 و1905 وصل إلى العاصمة سانت بطرسبرغ، الفلاح القادم من أرياف سيبيريا، الكاهن غريغوري راسبوتين، الذي سيصبح بعد ذلك من الشخصيات المؤثرة لدى القيصر الروسي والنخبة الحاكمة. استطاع راسبوتين بشخصيته المميزة لفت أنظار النخبة الحاكم إليه، حيث إنه كان كاهناً مثيراً للجدل. إذا قرأت عن راسبوتين فستجد أنه كان محنكاً سياسياً ويمتلك قدرة اجتماعية متميزة حتى قال البعض إنه يمتلك قدرات روحية. استطاع راسبوتين دخول البلاط الملكي وأن يصبح مقرباً من العائلة المالكة بروسيا بعد نجاحه في علاج ابن القيصر الروسي ألكسي رومانوف.
أدى نجاح راسبوتين إلى اكتساب ثقة كبيرة من قِبل القيصر وزوجته، إذ اعتبروه كاهناً وأبقوا عليه في البلاط الملكي ليكون ناصحاً لهم. أدت سمعة راسبوتين السيئة مع النساء وتأثيره على القيصر إلى الإطاحة بكثير من رجال الدولة عند محاولة بعضهم لعدة مرات، القيام بمحاولة اغتيال له.
كان راسبوتين معارضاً للحرب مع العثمانيين في البلقان سنة 1913، فقد حذّر قيصر روسيا من الدخول فيها. أما الوطنيون المتعصّبون فقد ظلّوا يلحّون على قيام روسيا بالحرب بمساعدة الأرثوذكس. راسبوتين حذّر القيصر من أن الدخول في الحرب سوف يعني نهاية حكم أسرة رومانوف وأن روسيا سوف تعاني، ولكن بالطبع الضغوط الداخلية لم تترك للقيصر أي خيار سوى الحرب.
بعد ذهاب القيصر إلى الحرب استطاع راسبوتين السيطرة بشكل أكبر على الحكم، بسبب الثقة الكبيرة التي تحملها له زوجة القيصر الإمبراطورة ألكسندرا فيوديوروفونا، وهذا ما سبب إزعاجاً كبيراً لرجال الدولة، الذين تآمروا على قتل راسبوتين حتى استطاعوا قتله عام 1916.
كان راسبوتين يؤثر بشكل كبير على قرارات القيصر الروسي، لكن تلك كانت المرة الأولى التي لم ينصت القيصر فيها إلى راسبوتين، فحصلت هزيمة الروس وكانت من أهم أسباب سقوط القيصرية الروسية وصعود البلشفيين إلى الحكم.
بوتين وألكسندر دوغين "صاحب الأفكار المتطرفة"
ألكسندر دوغين باحث سياسي اشتهر بـ"راسبوتين بوتين" و"عقل بوتين"، هو مؤرخ وأستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو سابقاً، والمستشار السياسي والعسكري للكرملين وفيلسوف القومية الروسية المتطرفة والذي يعتبره البعض في الغرب "أخطر فيلسوف في العالم". ورد اسمه في قائمة العقوبات الأمريكية عقب احتلال الروس لشبه جزيرة القرم. صاحب الهدف الذي يضعه الرئيس بوتين نصب عينيه وهو استعادة الأمجاد التاريخية لروسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي واستعادة أراضيه باعتبارها أراضي روسيا. يُعتقد أنه يجيد 10 لغات غير الروسية وله العديد من الآراء المثيرة للجدل، كما أنه ضد الإنترنت وسيطرة التكنولوجيا الحديثة، ولديه آراء متحفظة بشأن اللاهوت والأديان.
تحدث دوغين عن أن هناك ثلاث نظريات أثرت على العالم وهي: الليبرالية والشيوعية والفاشية، والتي استطاعت الليبرالية الانتصار عليها في النهاية، حيث إنه يعتبر أن الليبرالية استطاعت الانتصار على الفاشية في عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991، ولكن يرى دوغين أن الليبرالية ستموت لا محالة، لأن الليبرالية تحاول تحرير أعضاء الجسد من سيطرة العقل، وبما أن النظريات الثلاث أموات من وجهة نظر دوغين، فقد أعطى دوغين نظريته الرابعة التي لا تتحدث عن الفرد أو العرق أو القومية وإنما تركز على الوعي الذاتي الإنساني الذي همشته التكنولوجيا.
يعتبر دوغين العقلَ المدبر للحروب التي قادها بوتين، والعقل المدبر وراء ضم الرئيس الروسي لشبه جزيرة القرم. حتى وإن بدا ذلك من قبيل المبالغة فإن الرجل يبقى مهماً لأفكار بوتين. وقد أعلن أن الخطوة التالية هي التدخل العسكري في شرق أوكرانيا، الذي يسميه نوفوروسيا (روسيا الجديدة). وهو تعبير استخدمه بوتين أيضاً. وكان دوغين يعتقد أن "الروح الروسية" قد أيقظها الكفاح الانفصالي هناك، والذي أطلق عليه اسم "الربيع الروسي".
تحدث دوغين عن أن أوكرانيا وروسيا تجمعهما علاقة تاريخية، فهما شعبان شقيقان من "روس الكيفية"، "كانت دولةً اتحاديةً واسعةً ضمت في عهد أسرة روبيك الفارانجية السلاف الشرقيين والفنلنديين في أوروبا منذ أواخر من القرن التاسع وحتى منتصف القرن الثالث عشر"، حيث إنه ذكر أنه تاريخيّاً لم يكن هناك بلاد تدعى أوكرانيا، بل هي فقط عبارة عن تقسيمات إدارية من زمن الاتحاد السوفييتي وهذا ما ذكره الرئيس الروسي في أحد خطاباته، ويقول دوغين إن الشعبين الروسي والأوكراني من سلالة السلاف الشرقيين مع نسبة كبيرة من السكان الفنلنديين الأوغوريين في الشمال والشمال الشرقي والترك في الجنوب والجنوب الشرقي. وسرعان ما تم تقسيم تلك الدولة الموحدة إلى مناطق شبه مستقلة (إمارات).
يرى دوغين أن العالم لا يمكن أن يحكمه نظام أحادي القطب، وأن العالم مجموعة من الأقطاب، ومع تغير النظام العالمي والسعي للعودة إلى نظام متعدد الأقطاب، تسعى الإدارة الأمريكية بعد وصول الرئيس جو بايدن، إلى العمل على حماية النظام العالمي أحادي القطب بأي طريقة؛ مما دفعها إلى الإسراع بضم أوكرانيا للدخول ضمن حلف الناتو الذي يعتبره دوغين العدوَ الأول لروسيا وليس الولايات المتحدة.
أفكار دوغين ونظرياته هي التي شجعت الرئيس الروسي على الدخول في صراعات عدة؛ من الحرب السورية وجزيرة القرم والحرب الروسية الأوكرانية. ومن الواضح أن أفكار دوغين وقومية بوتين أتتا بثمار استراتيجية أن روسيا قد استطاعت المحافظة على استقرار الروبل على الرغم من تعرضها لأكبر عقوبات في التاريخ واستعمال ملف الغاز كورقة ضغط على الغرب، ومحاولة فرض سياستها وتأثيرها على أي منطقة جغرافية من المحتمل مرور إمدادات غاز بديل عن الروسي فيها، هذا كله ليس وليد الصدفة، إنها فلسفة دوغين وقومية بوتين. فهل أدى هذا إلى انزعاج الغرب من هذه الشراكة وبات يحاول فكها؟ الأكيد أن روسيا استعادت دورها عندما استعادت ثقافتها و فلاسفتها، والغرب بات يعلم ذلك.
هل سيرى دوغين مصير راسبوتين؟
استطاع الكاهن والفيلسوف التأثير على نظام الحكم في روسيا القيصرية والجمهورية بشكل كبير وتوجيه الحكام إلى صراعات داخلية وخارجية كثيرة، ولكن بعد أن سئمت طبقة الحكم في روسيا القيصرية من راسبوتين استطاعت القضاء عليه وبعدها أدت الأحداث المتتالية إلى سقوط روسيا القيصرية.
واليوم يلعب دوغين الدور نفسه بتأثيره الكبير على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهل سئم الغرب من وجود دوغين وتأثيره على الرئيس الروسي وحاولت التخلص منه عبر محاولة اغتيال أدت إلى وفاة ابنته داريا دوغين، التي اتهمت روسيا أوكرانيا بالضلوع في اغتيالها حين كانت تستهدف والدها؟
السلطات الروسية أكدت أنها كشفت ملابسات الحادث وأن امرأة أوكرانية هي من نفذت العملية. بينما صرح العضو السابق في الدوما (البرلمان الروسي) إيليا بونوماريف والمعارض لبوتين، بأن مجموعة روسية غير معروفة يطلق عليها "الجيش الوطني الجمهوري" قد تبنَّت الهجوم على دار دوغين، فإن بونوماريف صرح بأن هذه المجموعة مناهضة للرئيس فلاديمير بوتين ولغزو أوكرانيا.
لهذا هناك عدة احتمالات تطرح نفسها: هل بدأت الحرب الأوكرانية الروسية تأخذ منحى جديداً عبر تصفية من هم حول الرئيس الروسي ونقل الحرب إلى الداخل الروسي أم أن معارضي الرئيس الروسي في الداخل سئموا من سياسته الداخلية والخارجية وبدأوا العمل على تصفية من حوله تحضيراً لعزله، أو هل سيكون الرئيس الروسي هدفاً لأوكرانيا أم المعارضين له داخل روسيا؟
هناك نتيجة حتمية لكلا الخيارين، وهي أن روسيا اليوم بدأت مرحلة جديدة من الصراع على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وأن أي نتيجة لأحد الخيارين إما أنه سيشكل خطراً على الرئيس الروسي أو سيضعه في موقف محرج لا يُحسد عليه أمام الرأي العام الروسي والدولي. وقد يكون نقطة دعم لسياسته إذا استطاعت الحكومة الروسية إثبات تورط الغرب في محاولة الاغتيال، التي إن دلت على شيء فإنها تدل على تخوُّف الغرب من الخطوات المستقبلية المبنيَّة على العلاقة بين الرئيس الروسي والمفكرين حوله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.