هـل يستطيع عـالم اليوم المتطور والمدنية الراقية الحديثة أو حضارة الغد الوليدة أن تقـدم مثـالاً في تاريخ الحب الصـادق يشبه أو يكاد يشبه بـذلك الحب الأصيل والألفة الرصينة والولوع الغزير والاستماتة النادرة، الـذي شهـده العالم والتاريخ البشري في القـرن السابع الميـلادي على ظهر الجزيـرة العـربيـة وتحت سمائها على حد سواء.
إن العـالم بجميع ما يحتـويـه من قصص الحب وروايات التفاني، سـواء في تاريخ العشّـاق المتيمين، وفي قصص الوله والهيام والغرام لـدى الأقـوام المطبوعين عـلى غـريزة الشـوق والعشق، أو فيما سجّله أدب الغزل والنسيب من روائع الهـائمين المتيمين المتفانين في متاهات الحب واللوعة والجوى، والسعي وراء المحبوب في الـدروب والطرقات، وفي سكك المدينة التي يمـرّ بها أو يعيش قريبا منها، بجميع ما يشتمل عـليه هـذا التاريخ، لا يستطيع أن يصل إلى أدنى درجة من ذلك الحب الأصيل المثالي الفريد، الـذي أكرم به صحابة الرسـول –صـلى الله عليه وسـلم– مع حبيبهم وأثيرهم ومركـز آمالـهم وأمانيهم –صلى الله عـليه وسـلم–، فقـد حفظت دواوين التاريخ وسجلات الوقائع بكل دقـة وبراعـة وصدق وأمانة من نوادر المحبة وبوادر المودة العـديمـة النظيـر في دنيا الحب والشـوق ما لا مثيـل لـه ولا نظير من قبـل ومن بعـد.
نخبة من جماعة المحبين الصـادقين تتنافس في تقـديم نفوسها ونفائسها في سبيل الحب لـرسول الله –صـلى الله عـليه وسـلم–، وتتهافت تهافت الجراد على النور في التضحيـة بالمُهج والأموال والأهـل والأولاد، لتـرسيخ جـذور العلاقة والإعجاب بشخصيته –صلى الله عـليه وسـلم– والإيمان به والطاعـة له في الـدين الجديد الـذي أنزله الله –سبحانه وتعالى– عن طريقـه إلى الناس جميعاً، حينما سمعـوه يقـول: "يا أيهـاالناس إني رسـول الله إليكم جميعاً"، ومن ثَـمَّ أصبح رمزاً وضّاءً للنبـوة الصادقـة، فأخرج الناس من الدياجير إلى النور السافر، ومن شقاء الحيـاة إلى سعادتها، حتى أحبه الناس من جلجلان الأفئدة، امتزج هـذا الحب باللحم والـدم، وحلّ النبي -صـلى الله عـليه وسـلم- منهم محـلَّ الروح والمهجة والصديق الأثير والأليف المولَع، وشهـدت الكرة الأرضية خوارق من الحب والطاعـة والوفاء، وعجائب التفاني ما ليس له مثال في التاريخ في الحاضر والغابر ولا يوجد له نظيرٌ في الأزمان القادمة.
وهـذا أبوبكر الصديق كان يفدي حبيبه وخليله -صـلى الله عـليه وسـلم- بالروح والقـلب، فلما ضربه عتبة بن ربيعـة ضرباً عنيفاً موجعاً، بنعلين مخصوفين كان يحـرفهما عـلى وجهـه حتى لم يعرف وجهـه من أنفه، ونزل على بطنه، فأغمي عـليه من شـدة ما لقيه من ضـرب ونزوة عـلى البطن، فحُـمـل في ثـوب وأدخـل بيته وظل رهينَ الفراش ومغمى عـليه إلى آخـر النهار، فتكلم قـليـلاً وقال: "ما فعـل رسول الله -صـلى الله عـليه وسـلم-؟" وكلما قـربوا إليه شيئاً من الطعـام أو الشراب قـال: "ما فعـل رسـول الله -صـلى الله عـليه وسـلم-؟" وما زال يكرر هذا السـؤال، ويسأل عن رسـول الله -صـلى الله عليه وسـلم- دون أن يشكو شيئاً من الألم والوجد وما أصيب به من جروح، ولم يصبـر عـلى حاله دون لقاء مع حبيبه -صـلى الله عـليه وسـلم- وطلب من أمه وأم جميل أن تحمـلاه إلى رسول الله -صـلى الله عـليه وسـلم- فاتكأ عـليهما حتى دخل عـلى رسـول الله فلما رآه بناظريه سـالماً معافى هـدأت نفسـه، واطمأن قلبه.
ورفع المشـركون خبيباً -رضى الله عنه- عـلى الخشبـة ونادوه يناشـدونـه: "أتحب أن محـمـداً -صـلى الله عـليه وسـلم- مكانك؟" قـال: "لا والله العظيم ما أحب أن يفـديني بشـوكـة يشاكها في قـدمـه".
هـذان مثالان، والتاريخ الإسـلامي يـزخـر بكثير من هذه الأمثلة المفعمة بعجـائب الحب الأقحاح وخـوارق الفـداء والولاء لرسـول الله -صـلى الله عـليه وسـلم-، ولـولاه مبعـوثاً من الله تعـالى رحمة للعـالمين لما كانت لـه هـذه المكانـة السـاميـة المرموقة في قـلوب الناس.
ولن تنتهي قصـة هـذا الحب الصادق، بل تستوحي منها الأمـة المسـلمـة روح الأخـوة الدينية والمحبـة والشوق والإيمان بخـلود الرسـالـة التي جاء بها الرسول العظيم محمـد -صـلى الله عـليه وسـلم- للإنسانيـة جمعاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.