انتشر في الأيام القليلة الماضية، مقطع مصوَّر لعاملٍ مصري يدندن مطلع أغنية وردة الشهيرة "بكرة يا حبيبي"، ولاقى هذا المقطع رواجاً شديداً، وأصبح "تريند" في كل مواقع التواصل الاجتماعي؛ لدرجة أن كثيراً من الشخصيات العامة، من مغنين وملحنين وشخصيات سياسية عفا عليها الزمن -نعم، أقصد علاء مبارك تحديداً-، غرّدوا عبر حساباتهم الشخصية عن مدى إعجابهم بجودة صوت هذا الرجل البسيط، بل إن بعض هؤلاء الفنانين طلب التواصل مع هذا الشابّ لِعمل أغنية مشتركة "دويتو" معه، أو لما أهو أبعد من ذلك: لإنتاج ألبوم غنائي كامل!
هذا الموقف يذكرني بقصة من صميم التراث الشعبي المصري، والتي ذكرها الكاتب الكبير يوسف إدريس في مجموعته "خلوّ البال"، والقصة تكاد تكون نسخة بالكربون من هذا الموقف، أو هكذا رأيتها.
تحكي القصة عن رجلٍ مرّ بأحد النجارين الماهرين، الذي كان يعمل على "تشطيب" نوافذ وأبواب شقة في الدور العاشر في إحدى العمارات الجديدة. كان يغني و"يلعلع" بصوت جهوري جميل، في غاية الاندماج والسلطنة والطرب، تماماً كصاحبنا هذا، فسأله الرجل: هي شغلة ولا خلوّ البال؟ يعني هل السبب في هذا الروقان والسلطنة والشدو الجميل، الصنعةُ نفسها، أم خلوّ بال صاحبها، وصفاء روحه؟
فأجاب النجار: "شغلة طبعاً، أنا صنايعي قدّ الدنيا"، فتركه السائل ونزل إلى السوق واشترى سبَتاً عبّأه باللحوم والخضراوات والفاكهة، وأرسل به إلى بيت النجار وطلب من الصبي الذي أوصله، أن يخبر أهل البيت أن أباهم، النجار، هو مَن أرسل هذا السَبَت.
وعندما عاد النجار إلى بيته بالليل، شكرته الزوجة على ما أرسل من خيرات ودعت له بدوام الصحة والعافية وسعة الرزق، ولكن الزوج أنكر أن يكون أرسل شيئاً، ولا يعرف أي شيء عن السَبَت ولا الصبي الذي أوصله، وبدأ يستجوب ويهدد ويتوعد.
أصبحَ النجار، وعاد إلى عمله، وقد غادره هدوؤه المعهود وغاب صوته الجميل وضاع منه روقانه، فلم يكن يُحسن حتى ضرب المسمار بالشاكوش، وبينما هو كذلك مرّ عليه الرجل نفسه الذي مرّ عليه البارحة، فكاد النجار يمسك بتلابيبه، وقال له: ابعد عني. فما زال النجار بالرجل، حتى أخبره أنه هو من أرسل السَبَت إلى بيته، وكرر عليه السؤال مرة أخرى: هي شغلة ولا خلوّ البال؟ ولا أتركك حتى تجيبني.
فتأكد النجار أنها راحة البال، فزوجته لا تكذب عليه ولا تخونه، وقد عرف من أرسل السَبَت، وهنا فقط عاد له هدوؤه وروقانه وعاد يشدو بطرب.
وأنا آسف لك إن كنتُ قد جشمتك عناء قراءة تلك القصة الطويلة، دون أن تجد رابطاً بينها وبين قصة النقّاش الذي يتصدر "التريند" هذه الأيام؛ غير أني أكاد أجزم أنه "خلو البال" وليست "شغلة"، والوسط الفني الذي يدعونه إليه ويلحّون عليه أن يلِجَه تحت مظلّاتهم، هو أبعد ما يكون عن تلك القصة.
فتخيل معي، لو أن الأمور تطورت، ونزل هذا الرجل إلى هذا المستنقع الفني، -لا أعرف إن كانت تلك إرادته أم لا، ولا أفرض عليه أي الأمرين- الذي يُشتم فيه أكبرهم ويوبّخُ كل يوم، والذي تتزوج فيه مطربة مشهورة جداً من مطرب مشهور جداً، ثم ينفصلان، ثم تبدأ بينهما وصلات الردح والسباب وتبادل الاتهامات، وهي من هي في تاريخ الغناء المصري المعاصر!
الوسط نفسه الذي نحّى مطرباً جميلاً اسمه بهاء سلطان لمدة تزيد على ست سنوات، لِخلافٍ بينه وبين منتجه الفني، الذي رفض أن يخرج من عباءته، فجلس على إثرها في بيته دون ألبومات أو حفلات أو حتى "سِنجلاية" بلغة الكار، وبالفعل لم يتمكن من العودة إلّا تحت مظلته، محفوفاً بأجنحته. الوسط الذي أكلت القطة لسانه، عندما أثيرت قضية آمال ماهر المطربة الشهيرة، وعلاقتها بتركي آل شيخ، أكثر من مرة، ولم يرتفع لهم صوت واحد يسأل فيمَ اختفت وفيمَ ظهرت، إلا بعدما ثارت ثائرة القوم؟
والقصص المنتشرة كثيرة جداً عن العفن الذي يضرب في جذور هذا الوسط من قديمٍ جداً، وكيف ينقلب فيه المطربون على الملحنين الذين صنعوا تاريخهم، وكيف يتنكّر المنتجون للشباب الصاعد بعدما منحوهم خيطاً من نجوميّة وبريقاً من أمل، وكيف يأفل نجم مطربٍ أو ممثلٍ بعدما كان ملء السمع والبصر، كيف؟ وأين؟ ومتى؟ ومن المسؤول؟ لا أحد يعلم.
كل ذلك، وهم نجوم ونجمات، صنعوا تاريخهم عبر سنين من الموهبة والصنعة والتملق والفرص والصعود على كتف نجم صغير أو ملحنٍ مسكين لا يستطيع نسب الفضل لنفسه، أو كُاتبٍ مغمورٍ جداً، يبيع نفسه لأول مشترٍ آتِ! ومع ذلك فهم طوال الوقت في مرمى سِهام النقاد والمنتجين وفي مرمى سهام بعضهم البعض، والكثير منهم يتلاشى تدريجياً ليكتشف الناس -بعد فترةٍ- أنهم ضيّعوه وسط الأصوات الكثيرة التي يتلو بعضها بعضاً، ويعيش تحت رحمة مخرجٍ أو منتجٍ يعيد اكتشاف أغنية قديمة له، فما بالك بهذا النقّاش!
هذا النقّاش الذي من المؤكد أنه جاء من قرية أو حارة، من أسرة فقيرة أو متوسطة، يأكل من عرق يده، ويكدُّ في السعي الحلال الطيب من أجل تأمين معيشة ومستقبل معقول لنفسه ولأسرته، خلوّ البال وليست الشغلة، الغداء الذي ينتظره حين يرجع آخر اليوم، النومة الهنيئة بعد تعب، شاي العصاري أثناء التشطيبات، النزاعات التي تقوم بين الجيران "على مفيش" وتهدأ "على مفيش"، الهموم العادية البسيطة، كيف سيستقبل هموم عقد الاحتكار أو زحمة الاستوديوهات أو "نفسنة الفنانين" الذين لن يسمحوا لنقّاش مغمور أن ينافسهم، ولن يجدوا عيباً ولن يتحرّجوا من أن يذكّروه بأصله إذا نسيه، وأن يلمزوه في الرايحة والجايّة، وفي جلسات النميمة الطربيّة؟!
لم أطّلع على نوايا الرجل، لأعرف إن كان حلمه أن يصير مطرباً معروفاً، ولا أستطيع أن أقدِّر ما إذا كان دخوله عالم الفن خطوةً تصلحه، ولكنني متأكد أن هذا الرجل عندما غنّى "بكرة يا حبيبي" لم تكن الشغلة، وإنما كان خلوّ البال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.