في توافق لافت تزامنت ثلاثة أحداث يومية لي، تظهر بسيطة روتينية ولا رابط بينها، لكن بتواترها واجتماعها في نفس التوقيت تقريباً أعتقد أنها تشير إلى خلل في طريقة تفكيرنا، أو في فقهنا لمبدأ الأولويات، والأخطر (وهو ما أخشاه..) أن تكون دالة على نجاح قوى الظلام في تزييف وعينا الجمعي أو الفردي عبر مشاريعها ومخططاتها المختلفة.
الحدث الأول: في إطار الرتابة، أشتري الفواكه (تقريباً) من عند نفس البائع، واعتدت أن أدردش معه لدقائق في "البوليتيك" (فهو من الخائضين فيه بحماس كبير إلى حد التطرف) فاجأني ذلك اليوم بمحاولته الشرسة (لم أعهدها منه) لإقناعي أن الرئيس "محمد مرسي" -رحمه الله- يقع عليه كل اللوم! وهو المسؤول عن تدمير سوريا وإغراق أنفاق غزة! على كلٍّ تيقنت من صعوبة مناقشته (استحالة حتى تصحيح معلوماته) فاختصرت الحديث، وآثرت ضمان جودة حبات الفاكهة التي يختارها لي بعناية في العادة.
الحدث الثاني: بعد عودتي إلى البيت وصلتني رسالة من أحد الأصدقاء، وجدتها عبارة عن فيديو مطول لأحدهم يتحدث بثقة كبيرة، وواضح من انفعالاته المجهودات الجبارة التي بذلها لإثبات أن سيد قطب -رحمه الله- كان إرهابياً.
الحدث الثالث: في نفس الوقت تقريباً ينشر صديق آخر منشوراً له على صفحته معقِّباً على فضيحة ما سمي بالاستفتاء على دستور الانقلاب في تونس، وفي ذكره لأسباب عودة الديكتاتورية، فاجأني أيضاً بتحميل حركة النهضة (والغنوشي خصوصاً) المسؤولية عما أسماه الفشل في تسيير المرحلة التي تلت الثورة الشعبية.
خلل في طريقة التفكير
بالرغم من التباين التام بين شخصيات الأحداث المذكورة من حيث المستوى العلمي، واهتماماتهم، وممارساتهم للعمل السياسي، ومستواهم المعيشي، أو حتى أماكن إقاماتهم، فإن الملاحَظ أنهم يحتكمون لنفس المنطق في تحليل الأحداث، والذي ملخصه التركيز على أخطاء المظلوم، مما يعني الغفلة (أو التغافل) عن خطايا الظالم، وأكثرهم موضوعية يسوي بين الظالم والمظلوم في المسؤولية عن الجرم، فثلاثتهم أجمعوا على تحميل ضحايا القمع والاستبداد مسؤولية ما لحق بهم من تنكيل واعتداء إلى حد التصفية الجسدية بوسائل الدولة، باسم الديمقراطية الشعبية، وتحت أعين حراس المعبد من منظمات حقوق الإنسان وحماية الحريات أو الأنظمة الرسمية الغربية المنافقة.
خطأ المظلوم وخطيئة الظالم
البون كبير بين ما يترتب على خطأ المظلوم وخطيئة الظالم، فالأول نطبق عليه القاعدة النبوية "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان" – رواه البخاري-، وجاء هذا التوجيه النبوي بعد أن بالغ بعضهم في توبيخ وتقريع والدعوة بالخزي على شارب خمر من أصحابه، والخطأ من سنن السير ومن طبيعتنا كبشر، ومن إعانة الشيطان على أخيكم أن تسمعوه النصائح والتوجيهات ودمه ينزف وقلبه يتألم وكل ما بناه في حياته يتهاوى أمام عينيه.
فلو كنت عاقلاً وصادقاً حقاً لواسيته في مصابه، ولذكَّرته بأجره عند الله عن سعيه ولو لم يحقق هدفه، ولعلمت أنك لست مؤهلاً أصلاً لتوجيهه ونصحه، فبخلاف حاله وهو الساعي المضحي (بماله، وروحه، وأهله) فإن الجالس المتفرج (وهو حالنا جميعاً) يمكنه تحقيق أهدافه بنسبة 1000% في عالمه الافتراضي الحالم.
أما الظالم فخطؤه متعمَّد ومتكرر، ولنقل هو أسلوب حياة امتهنه من أول يوم ودرج عليه وبه يضمن ترقيته في درجات المسؤولية في منظومة الظلم والاستبداد، ولهذا وجب علينا التزام القاعدة القرآنية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} -الأنفال25- والتي مما تعنيه التحضّر للفتن (ولا توجد فتنة أكبر من فتنة الاستبداد في السياسة والحكم) بالسعي لقطع دابر الظلم والظلمة، أما سياسة التهرب بالاستقالة من الشأن العام ومداهنة الظلمة فلن تُنجي أحداً.
ومن المداهنة للظلمة: السكوت عن ظلمهم، تزيين أعمالهم الفاسدة، المشاركة والمساعدة على تشويه المسالمين المتصدين للظلم والظالمين، وموقف كهذا شبيه بحادثة المرأة المخزومية التي وجدت من يدافع عنها وهي في حالة ظلم (السرقة) فحسم -عليه الصلاة والسلام- ريب بعضهم بقوله: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ، فإذا خشيت على نفسك من الظالم القوي، فلا تُمعن في قهر الضحية؛ لأنه ضعيف وعادل.
مبدأ فقه الأولويات
في تقديري المشكلة الأساس هي منظومة الاستبداد التي نعيش ويلاتها منذ خروج الاستعمار العسكري من بلداننا إلى اليوم (وإن كنت من أنصار فكرة أننا نرزح تحتها منذ حرب صفين) ومن الحكمة التركيز على مواجهتها وجمع الناس على اقتلاعها من الجذور كأولوية الأولويات وليس الانشغال بأخطاء سير طبيعية لضحايا المنظومة، ذنبهم الوحيد أنهم تصدّروا صفوف مقاومتها.
وهذا يشبه ما لخصه العز بن عبد السلام بقوله: "من نزل بأرض تفشى فيها الزنا فحدّث الناس عن حرمة الربا فقد خان.. فقد خان.." وهو هنا يرد على فكرتين انتشرتا في عهده عندما هاجم التتار مصر (وهما الأعلى صوتاً حالياً):
الأولى: أصحابها منهزمون مثبطون يرون مقاومة العدو من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة..
الثانية: أصحابها جهلة بالواقع وأولوياته، ويهربون من واجب الوقت بالدعوة إلى إرجاء المواجهة والعمل على إعداد جيل جديد يحارب العدو في المستقبل.
لكن سلطان العلماء خالفهم واجتهد في إفشال الحرب النفسية الانهزامية التي تعرض لها المسلمون حينها بحيث بنى ثورته المضادة على فكرة أن تسليم البلاد للتتار خيانة، وأفتى بحرمة الحديث عن أي شيء باسم الدين في تلك الفترة، إلا فيما يدفع الناس للجهاد، وينزع الخوف عن قلوبهم.
وبنفس المنطق أظن أن أي حديث بخلاف تعرية الاستبداد بفضح جرائمه وتجريده من أي تغطية شرعية، هو صورة من صور الخيانة.
مخططات محور الشر لا تتوقف
من المعلوم أن قوى الثورة المضادة لوعي شعوبنا تتوزع على محورين أساسيين (وهذان المحوران متحدان ومتفقان تماماً، فهدفهما واحد):
1-أنظمة الاستبداد: مدافعةً عن مصالحها وساعية لضمان استمرارها في استغلال الشعوب.
2-أنظمة الغرب المنافقة: الحريصة على إبقائنا على حالة الضعف والهوان ليسهل استغلالنا، وحتى لا يهدد مصالحها مارد الشرق إن استيقظ، فمن البلاهة والسذاجة أن نُستدرج من قبل هذه الدوائر الشريرة ونقع في حبائلها.
فأخطاء مرسي في حكمه لمصر وأخطاء النهضة في تونس، وأخطاء سيد قطب وتقديمه على أنه من نظر وابتكر ما يُعرف بالإرهاب، يتبين منها أن هؤلاء وغيرهم كانوا يصارعون (دون تجربة ودون وسائل حقيقية) الدولة العميقة بكل أشكالها (عسكر، إعلام، قضاء، مال) والتي كانت تتحرك بوسائل الدولة وحرصها الوحيد هو إفشال وإسقاط كل مشاريع التحرر وإظهار عجزهم، حتى تيأس الشعوب من إمكانية التحرر وترضخ فترة أخرى للاستعباد والقهر. فمثلاً الرئيس مرسي -رحمه الله- كان يصارع مشاريع الثورة المضادة بمحاورها المختلفة والتي لا يخدمها نجاح تجربة حكم مصر عن طريق الانتخاب.
ثم إن من الخيانة الوقوف عند أخطاء الضحية، والقفز على كوارث أنظمة الانقلاب والاستبداد ومخلفاتها المدمرة على جميع الأصعدة، ففشلها عام ومؤكد، فبعد أكثر من 70 سنة من الإصلاحات والوعود بالثراء لشعوبها لا أمن غدائياً ولا مائياً، ولا أمن من خوف ولا خدمات من ناحية الكم أو الكيف (رداءة في التعليم وفي الخدمات الصحية.. إلخ)، ولا سكن لائق ولا مواصلات تلبي حاجات الناس ولا.. ولا شيء تحقق، كل هذا لا نراه وندقق في 10 أشهر شغل فيها مرسي كرسي الرئاسة بصلاحيات لا تتعدى 20% وفي محيط القوى المعاكسة فيه أشد وأقوى من القوى الدافعة، فلو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن "مرسي" أو "نهضة تونس" لم يحكما في الحقيقة، ففي كل فترات تواجدهم في الحكومة (وليس في الحكم) كانت تحت رقابة وسيطرة قوى الدولة العميقة، فها هي النهضة مثلا في سعيها من أجل تحقيق التوافق وجمع الناس حول هدفها السامي وهو "ضمان حرية الشعب التونسي" قدمت تضحيات وتنازلات لمرات ومرات عن آرائها وقناعاتها وحتى عن حقها الطبيعي في شغل مواقع ومناصب حكومية. كما نجدها واجهت مثل مرسي نفس قوى الشر والظلام ممثلة في الدولة العميقة والثورة المضادة (مع وجود نفس الاختلال في موازين المواجهة).
أما الذي انبرى لكشف الإرهاب ومنظريه، فتمنيت لو يفتح عينيه أولاً على الإرهاب المنظم (أو لنقل الإرهاب باسم الدولة) فهو أشد وأنكى. فكان من الأوْلى إدانة إرهاب المؤسسة الرسمية تحت شعار "اضرب في المليان" (فتوى مفتي مصر للعسكر بإطلاق النار على الناس في انقلاب 2013 وقبلها وفر التغطية الدينية لانقلاب العسكر على الرئيس المنتخب)، وليس بالتركيز على رجل مات وانقضى أجله لا يعرف من تاريخه أنه مارس أي عمل عنيف إلا إصراره على مبادئه وموته في سبيل معتقداته وقناعاته.. أما كتاباته وآراؤه المدونة فمناقشتها تكون بطريقة علمية من قبل المختصين والدارسين وليس بطرق استعراضية ينطلقون فيها من نتائج محسومة يبحثون لها عن مقدمات.
واستدراكاً لما طرحت: كلامي السابق كله لا يعني أن المظلوم لا يخطئ أو منزه عن النقد، بل نحاسبه على أخطائه وننتقده بشدة، ولكن:
انطلاقاً من حبنا له وحرصنا على نجاحه في مسعاه الذي هو مسعانا، ونقدم له ملاحظاتنا في أطر ضيقة بهدف النصيحة وليس الفضيحة التي هي في الأخيرة شكل من أشكال نصرة الظالم.
وأخيراً، أقول إن كان لشعوبنا المظلومة خطيئة فهي وحيدة (تكررها كل حقبة) وهي تصديقها كل مرة للمستبدين، وبالتالي تسهيل مهمتهم مقابل بعض الإنجازات التي يتبين أنها سراب بعد حين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.