بمجرد مقتل المقاوم الأمازيغي زايد أوحماد ورفاقه الثلاثة، يوم 5 مارس/آذار 1936، بقرية تدافالت نواحي تنغير، خلا الجو لفرنسا لتبدأ مسلسلاً آخر من الانتقام والعقاب في حق من ثبت ومن لم يثبت اتصاله بعدوها رقم واحد حينذاك.
فبعد القضاء عليه ومن معه، لم يبقَ في منزل أيت حسو الذي كان يأويه في ذلك اليوم الحزين، غير عيشة حدو زوجة حمو وعلي رفيقه في القتال، وكانت حاملاً في أشهرها الأخيرة، ووالدة أيت حسو التي تستحق بشجاعتها وصمودها أن يدون اسمها بماء الذهب.
انتهت مقاومة زايد أوحماد إذاً، فشرعت فرنسا وأعوانها في إنزال أقسى وأقصى العقوبات بمن خالطه وحتى من لم يخالطه ولكن شُبّه لها، إلى درجة أن الماشية والمغروسات لم تسلم هي الأخرى من بطشها وساديتها، فقد صادر الفرنسيون الأراضي وسرقوا الأثاث وسجنوا وأحرقوا وعذبوا الماشية بأبشع الطرق.
كانت فرنسا طيلة تلك المدة التي ظلت تبحث فيها عن هذا الشبح المرعب الذي زرع الذعر في نفوس جنودها، قد أصدرت أوامرها بأن من يظهر عنده (زايد أوحماد) سيدفع الثمن غالياً، لذلك لم يكن غريباً أن تقرر إبادة ساكنة تدافالت عن بكرة أبيها ما دام أهلها قد تستروا عليه، أو هكذا كانت تعتقد.
لكن من يؤكد أو ينفي لفرنسا أن "أيت تدافالت" كانوا على علم بوجود أوحماد بين ظهرانيهم؟
لم تكن الشاهدة التي لجأت إليها فرنسا لنزع الاعتراف حول علم سكان تدافالت بدخول زايد إلى أرضهم سوى المرأة العجوز، الكفيفة المدعوة ماما عدي، والدة باسو وعلي وموحى وعلي نايت حسو، الذين قتلوا في ذلك اليوم الرهيب إلى جانب زايد أوحماد وصديقه موحى أحمو.
استعمل ضباط وأعوان فرنسا أكثر أساليب التعذيب وحشية لترهيب وتخويف هذه العجوز الضريرة التي تم نقلها إلى سجن تنغير مباشرة بعد التمكن من قتل المتمردين الأربعة، حيث خضعت للاستنطاق والتحقيق بإشرابها الماء المشبع بالملح.
حاول الضباط الفرنسيون بشتى الوسائل إجبار هذه المرأة على الاعتراف بأن الأهالي كانوا على علم بوصول زايد أوحماد إلى مجالهم، إلا أنها ظلت تنكر جملة وتفصيلاً وتنفي ذلك نفياً قاطعاً، وتصر على أن دخوله تم في سرية تامة ولم يتجاوز حدود العلم به دائرة ابنيها الاثنين باسو وموحى من أيت حسو، صبرت وصابرت وتحملت التعذيب على أن تكون السبب في هلاك أهلها.
اليوم يعترف الكثير من شباب تدافالت وكهولها بجميل هذه العجوز الحديدية، ويرجعون فضل بقاء آبائهم وأجدادهم على قيد الحياة لهذه المرأة التي ظلت صامدة رغم التعذيب حفاظاً على حياة العشرات، وفي المقابل تجدهم يفترضون ويتساءلون: ماذا لو اعترفت بأن الجميع كان على علم بدخول زايد أوحماد إلى تلك القرية الوديعة؟
لو حصل، لكانت حصيلة القتلى والإبادة جماعية ثقيلة.
لا تذكر الروايات الشفوية تاريخ وفاة هذه المرأة الشجاعة بالضبط، وإن كانت ترجح أن يكون ذلك عام عودة الملك الراحل محمد الخامس من منفاه، وهو ما يوافق سنة 1955 وتحديداً بين العيدين، موردة بأن تلك السنة تميزت بتساقطات ثلجية غزيرة، وكأن السماء كانت تعلم أن الفرنسيس لن يجروا لها طقوس الجنازة، فأرادت أن تتكلف بتكفين هذه الصنديدة بثوبها الناصع البياض اعترافاً لها بنكران الذات حقناً لدماء أبناء جلدتها.
وبعد عام من الاعتقال والتعذيب في سجن تنغير، ماتت ماما عدي كغيرها العشرات دون أن يعرف لها قبر على حد قول زايد أوشنا صاحب كتاب "أدور ن أمور" وكاتب سيناريو فيلم "أدور" عن زايد أوحماد، أما روايات سكان تدافالت فتجمع على أنها دفنت في مقبرة قريتهم القديمة المعرضة للإهمال؛ ما يصعّب من مهمة تحديد قبرها بدقة.
ماتت خالتي ماما دون أن يذكرها أحد من المؤرخين أو يسأل عنها مسؤول من المسؤولين لتكريمها، ولو بإطلاق اسمها على شارع هنا أو ساحة هناك، أو مؤسسة هنالك، وذلك أضعف التكريم، فما بالك بمطالبة فرنسا، بل وإرغامها على الاعتذار لها وللآلاف من أبناء منطقتها الذين عانوا الويلات من بطش فرنسا ووحشيتها التي تستعصي على الوصف! ولمَ لا يتم مطالبتها بالمساهمة في تنمية هذه المناطق المهمشة باعتبار أنها تتحمل جزءاً من مسؤولية تخلفها، إذ ظلت لعقود تنهب خيراتها دون مقابل، وتنظر إليها على أنها مجرد مناطق غير نافعة ومتوحشة، وفي أحسن الأحوال خارجة عن القانون؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.