دراسات الاستخبارات.. وأسرار أرشيف الاستخبارات السوفييتية عن مصر!

عدد القراءات
810
عربي بوست
تم النشر: 2022/08/19 الساعة 12:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/19 الساعة 12:30 بتوقيت غرينتش
زيارة عبدالناصر إلى موسكو/ مواقع التواصل الاجتماعي

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عانت أجهزة الاستخبارات الغربية من محدودية معرفتها عن مجال الاستخبارات، فلا توجد دراسات عن تاريخ الاستخبارات، ولا توجد هيكلة احترافية لبنية أجهزة الاستخبارات، وهو ما فتح الباب لمحاولة سد تلك الثغرة بحلول منتصف القرن العشرين؛ حيث بدأ حقل "دراسات الاستخبارات" يتشكل كحقل فرعي يندرج ضمن مجال العلاقات الدولية.

يعتبر المتخصصون كتاب "الاستخبارات الاستراتيجية" الصادر عام 1949 لشيرمان كينت (1903-1986) بمثابة أول كتاب متخصص في الدراسات الاستخبارية، حيث جمع كينت بين عمله محللاً بارزاً في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) منذ تأسيسها عام 1947، وعمله أستاذَ تاريخ في جامعة ييل. وقد عبر كينت عن دوافعه لتدوين الكتاب قائلاً: "من وجهة نظري مادام مجال الاستخبارات يفتقر إلى الأدبيات، فإن أساليبه ومفرداته وحتى نظريته الأساسية معرضة لخطر عدم بلوغ النضج الكامل". 

ثم جاء الكتاب الثاني الذي لعب دوراً في بلورة حقل الدراسات الاستخبارية على يد روجر هيلسمان (1919-2014)، وهو ضابط سابق بالجيش الأمريكي ساهم في تأسيس الاستخبارات الأمريكية، وعمل مديراً لمكتب الاستخبارات والبحوث في وزارة الخارجية، وصولاً إلى توليه منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، فضلاً عن عمله الأكاديمي في عدة جامعات، وقد طور هيلسمان أطروحته للدكتوراه، ونشرها في عام 1956 بعنوان "الاستخبارات الاستراتيجية والقرارات الوطنية".

بمضيّ السنوات قفز مجال دراسات الاستخبارات قفزات أخرى للأمام مع صدور عدة مجلات دورية متخصصة، وبالأخص مجلة "الاستخبارات والأمن القومي" التي بدأ صدورها في عام 1986، وهي أول مجلة علمية مُحكمة تدرس تاريخ العمليات الاستخبارية، ومن خلال ذلك برز حقل "دراسات الاستخبارات" على يد أكاديميين من أصحاب التجارب العملية، سواء من ضباط الاستخبارات السابقين الذين تخصصوا في الحقل الأكاديمي أم من الأكاديميين الذين عملوا مستشارين للأجهزة الاستخبارية ومؤسسات صنع السياسات الأمنية، وبالأخص في أمريكا وبريطانيا، في ظل تأخر دخول الفرنسيين والروس وغيرهم إليه.

 دور كريستوفر أندرو

يُعد كريستوفر أندرو (1941) محرر مجلة "الاستخبارات والأمن القومي" المشار لها سابقاً هو عميد الدراسة الأكاديمية للاستخبارات في بريطانيا، فهو أكاديمي متخصص في التاريخ الحديث، ترأس كلية التاريخ بجامعة كامبريدج، واستعان به جهاز الاستخبارات البريطاني (MI5) لتدوين تاريخه الرسمي، والذي نشره في كتاب عام 2009 بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الجهاز، كما نشر أندرو في عام 2018 كتاباً أصبح بمثابة أبرز مرجع في تاريخ الاستخبارات بعنوان "العالم السري.. تاريخ الاستخبارات"، تناول خلاله تاريخ الاستخبارات منذ مصر الفرعونية حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ومن الكتب المهمة التي دونها أندرو في مجلدين كتاب تناول خلاله أنشطة جهاز الاستخبارات الروسي في الغرب وأوروبا والعالم الثالث، واستند فيه إلى أرشيف الاستخبارات الروسية الذي قدمه الضابط الروسي فاسيلي متروخين، الذي تمكن من الهرب إلى بريطانيا عام 1992 بمساعدة الاستخبارات الأمريكية رفقة آلاف الملفات السرية الخاصة بعمليات الاستخبارات السوفييتية، والتي نسخها قبل تقاعده عام 1984. وعندما حققت الاستخبارات البريطانية مع متروخين قررت إحالة الملف لكريستوفر أندرو الذي انخرط في دراسة الوثائق والنقاش مع متروخين، ليصبح أندرو أبرز متخصص غربي ينجح في تفكيك نمط عمل الاستخبارات السوفييتية في العالم.

الأرشيف السوفييتي عن مصر

عندما قرأت عن كتاب متروخين وأندرو، حرصت على قراءة الجزء الخاص بالشرق الأوسط، والذي تضمن فصلاً بعنوان "صعود وتراجع التأثير السوفييتي في مصر"، وبحسب الكتاب، فقد جاء أكبر حجماً من الاستخبارات السوفييتية حول الشرق الأوسط من استخبارات الإشارة والاتصالات وليس الاستخبارات البشرية، حيث تمكنت الاستخبارات السوفييتية من كسر الشفرة الرئاسية المصرية في عهد السادات، وكذلك كسر تشفير البرقيات الدبلوماسية المصرية التابعة لوزارة الخارجية، وهو ما أتاح لموسكو كشف اتصالات السادات السرية مع إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون في عام 1971، كما تطرق الكتاب للعلاقة الوثيقة بين الاستخبارات السوفييتية وسامي شرف مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات ووزير شؤون ديوان الرئاسة، دون أن يؤكد أنه عميل روسي.

ويكشف الكتاب أنه عشية حرب 1956، تلقى عبد الناصر معلومات استخبارية عن مخطط لاغتياله على يد الاستخبارات البريطانية بناءً على أوامر من رئيس الوزراء أنتوني إيدن، فطلب عبد الناصر من الروس المشورة في تأمينه، فأرسلت له موسكو اثنين من كبار ضباط مديرية الأمن الوقائي بالكي جي بي، حيث وجدا أن تأمين عبد الناصر يقتصر على وجود مجموعة من الحراس الشخصيين، مع غياب أية أنظمة تأمين للمباني التي يعيش فيها ويعمل بها، فمثلاً يشتري طباخ عبد الناصر الخبز من المخبز المقابل للمقر الرئاسي، واللحوم والخضراوات من أقرب سوق، وهو ما تولى الخبراء الروس تعديله. وعندما طلب المصريون من الروس توفير الحماية لعبد الناصر ضد الإشعاع والغازات السامة، نصح الروس نظراءهم المصريين بالاحتفاظ بطائر في قفص في جميع الأماكن التي يستخدمها عبد الناصر، فإذا مات أي طائر من الطيور، وجب إخلاء المبنى، وتردد الروس في تقديم أنظمة كشف عالية التقنية للمصريين.

كما تطرق الكتاب إلى تجنيد موظف في مكتب الرئاسة المصري خلال زيارته لموسكو عام 1971، وتجنيد عقيد في الجيش المصري خلال زيارته أوديسا عام 1972، كما كشف عن إرسال الحزب الشيوعي المصري لثلاثة من كوادره إلى موسكو للتدرب على مكافحة التجسس في الاتحاد السوفييتي لتمكينهم من إنشاء جهاز أمن للحزب، وتمويل موسكو لليسار المصري بمبلغ 100 دولار سنوياً.

كذلك تطرق الكتاب لدور الاستخبارات الروسية في سوريا والعراق، حيث ذكر أن ضابط الاستخبارات السوفييتي يفغيني بريماكوف تعرف في أواخر الستينيات على كل من حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق قبل أن يصبح أي منهما رئيساً، مع العلم أن بريماكوف ترقى لاحقاً حتى أصبح رئيس الاستخبارات الروسية، ثم رئيساً لوزراء روسيا في عهد يلتسين.

كما يكشف الكتاب أن الاستخبارات السوفييتية قادت حملة إعلامية ضد سكرتير السادات وصهر عبد الناصر ومسؤول الاتصال المصري مع الاستخبارات الأمريكية أشرف مروان؛ لدوره في تعميق علاقات السادات مع الاستخبارات الأمريكية في السبعينيات، وهي الحملة التي أشرف عليها بنفسه فلاديمير كازاكوف رئيس دائرة أمريكا الشمالية في الاستخبارات السوفييتية، وذلك عبر تمويل نشر صحف لبنانية وسورية وليبية لأخبار عن تلقي مروان رشاوى، واختلاسه مبالغ كبيرة من الأموال السعودية والكويتية المقدمة إلى مصر لشراء أسلحة.

الدراسات الاستخبارية في العالم العربي

رغم انتشار سردية في العالم العربي تعتبر أن دراسات الاستخبارات خط أحمر لا ينبغي الاقتراب منه، ووجوب اقتصار الاهتمام به على الأجهزة الأمنية وحدها، فقد بدأت تظهر تأثيرات للاهتمام العالمي بهذا الحقل، حيث شرعت أكاديمية ربدان في الإمارات بتقديم برامج جامعية للمدنيين وصولاً إلى درجة الماجستير في الدراسات الاستخبارية والأمنية، لكنها تعتمد على مناهج غربية ومدرسين أغلبهم من الأجانب.

يحتاج العالم العربي تقعيداً وتأطيراً لهذا الحقل المهم ينبع من ثقافته وتاريخه وواقعه، وهو ما يتطلب أجواءً من الحرية السياسية تسمح بالبحث فيه والاطلاع على الأرشيفات المحلية، بدلاً من نقل الكتابات الغربية التي تركز على دراسات الاستخبارات في بيئة مختلفة ذات أولويات أخرى.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد مولانا
باحث في الشئون السياسية والأمنية
باحث في الشئون السياسية والأمنية
تحميل المزيد