صدحت حناجر عشرات الآلاف من جماهير نادي سيلتيك الاسكتلندي الأسبوع الماضي بهتافات مدوّية لحرية فلسطين. بدا الفعل المحمود والمعهود طبعاً من جماهير النادي العريق مختلفاً هذه المرّة؛ لتزامنه مع العدوان الإسرائيلي الأخير ضد غزة، كما موجة التأييد العارمة في الملاعب الأوروبية مع أوكرانيا ورياضييها ومواطنيها عموماً في مواجهة الغزو الروسي للبلاد، ما يعني وضع الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ويفا والمنظومة الرياضية وحتى السياسية برمتها بالقارة العجوز أمام حقيقة الازدواجية والنفاق بين دعم الأوكرانيين وقضيتهم العادلة، ورفض ذلك للفلسطينيين وقضيتهم العادلة أيضاً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وكما العادة مع أسئلة ملحة وصعبة مطروحة علينا كعرب في المنظومات الأربع السياسية والرياضية والإعلامية والجماهيرية كي نفعل لفلسطين وشعبها ما يفعله جمهور سيلتيك لها، وما تفعله الجماهير الأوروبية لإخوانهم الأوكرانيين حسب التعبير الشائع هناك.
اعتادت جماهير نادي سيلتيك الذي يمثل المزاج الاستقلالي الوطني في اسكتلندا التعبير دائماً عن دعمها لفلسطين وقضيتها العادلة. في هذا الصدد يمكن الإشارة إلى عدة وقائع ومحطات عديدة، أهمها بالطبع الواقعة الشهيرة بدوري الأبطال الأوروبي في العام 2016 عندما رفعت الجماهير اللافتات وهتفت بشعارات مؤيدة لفلسطين وشعبها، منددة بالدولة العبرية وممارساتها غير الشرعية في مباراة الفريق أمام نظيره الإسرائيلي هبوعيل بئر السبع في الدور ثمن النهائي للبطولة العريقة والأشهر والأكبر في القارة والعالم بشكل عام.
بعد تلك الواقعة تلقى النادي عقوبات من الاتحاد الأوروبي "ويفا" بحجة عدم السماح برفع شعارات أو لافتات سياسية في الملاعب والميادين الرياضية. وكانت تلك المرّة التاسعة التي يحدث فيها الصدام بين النادي والاتحاد القاري؛ بسبب إصرار الجماهير على التعبير عن آرائها السياسية، تحديداً فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية العادلة، وشجب ورفض وفضح الممارسات بل جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته وشرائحه بمن فيهم الرياضيون طبعاً.
هنا لا بد من التذكير بشعور جماهير النادي بالتشابه بين نضال وجهاد الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال والسيادة وتقرير المصير، ودعمهم العلني للاستقلال عن بريطانيا والدعوة لاستفتاء من أجل أن يتمكن الاسكتلنديون من تقرير مصيرهم بأنفسهم حسب مواثيق وشرائع حقوق الإنسان والمواثيق والقرارات الدولية ذات الصلة.
في مايو/أيار العام الماضي ٢٠٢١ وتحديداً في 21 منه رفعت جماهير سيلتيك مرة أخرى لافتات التضامن مع فلسطين جنباً إلى جنب مع لافتات وداع قائد الفريق سكوت براون، وهتافات داعمة لهبّة القدس ومعركة سيفها، ولكن دون أن يستطيع الاتحاد الأوروبي تكرار قصة العقوبات نفسه في ظل تعاطف واسع عالمياً مع الهبّة وفلسطين في ميادين وساحات مختلفة كما رأينا في مشاهد رفع اللاعب الشهير بول بوغبا وزملاء آخرين لعلم فلسطين في الملاعب الإنجليزية نفسها، والتعبير علناً في وسائل التواصل الاجتماعي عن تضامنهم ودعمهم للشعب الفلسطيني المستضعف والمظلوم والمقاوم، والذي لا يستسلم أمام آلة البطش الإسرائيلية مع تضامن واسع امتد من هوليوود غرباً إلى سيدني ومهرجانها المسرحي شرقاً، ومنابر إعلامية وثقافية وفكرية متعددة دعماً للفلسطينيين في مواجهة الاحتلال وبشاعة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي الذي أرادت إسرائيل تنفيذه بحق أهالي حيّ الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة.
كما تقدم، بدا فعل جماهير النادي الاسكتلندي العريق مختلفاً ولو نسبياً هذه المرة، أولاً لتزامنه مع حرب غزة الأخيرة وتبني الرواية الفلسطينية الصحيحة والعادلة عن مظلومية الشعب الفلسطيني، وكونه الضحية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي فقد القدرة على نشر روايته الكاذبة والمزورة في العالم، كما فعل خلال العقود الماضية مع ترويج الأساطير الوهمية عن واحة الديمقراطية الخضراء في الصحراء العربية القاحلة وعن داود الإسرائيلي في مواجهة جالوت الفلسطيني والعربي.
فعل جماهير سيلتيك تزامن هذه المرّة مع سماح الاتحاد الأوروبي وأندية القارة عموماً برفع شعارات التضامن مع أوكرانيا ومواطنيها ولاعبيها ورياضييها في مواجهة الغزو الروسي لبلادهم، بل وفرض عقوبات سياسية واقتصادية ورياضية صارمة ضد روسيا، ومقاطعة طالت الرياضيين الروس حتى في الألعاب الفردية بحيث خلت الملاعب الأوروبية منهم، كما من الشركات الروسية الراعية لأندية كبرى مثل مانشستر يونايتد وشالكه وموناكو مع إجبار رجال أعمال روس كبار على التخلي عن ملكيتهم لأندية كبرى وشهيرة أيضاً..
وعليه، حضر علم أوكرانيا في الملاعب والميادين الأوروبية بالموسم الجديد مع شعارات التضامن المعهودة، كما نشاهد في الدوري الإسباني الذي وضع العلم إلى جانب شارة بث مبارياته حول العالم، فعل التضامن والدعم الذي نراه أيضاً في دوريات أوروبية كبرى أخرى.
هذا الأمر أعاد فتح ملف الازدواج والنفاق والانفصام الأوروبي مرّة أخرى، فلا يمكن رفض التضامن مع القضية الفلسطينية العادلة بمواجهة الاستعمار الأخير في التاريخ ثم فتح الباب بل الأبواب الواسعة وبلا حدود أمام التضامن مع أوكرانيا. وهنا تبدو الجالية العربية والإسلامية والنشطاء والحلفاء والأصدقاء خاصة الإعلاميين منهم مطالبين ببذل جهود كبيرة للاستفادة من كسر قاعدة عدم إقحام السياسة في الرياضة وميادينها، وبالتالي فرض التضامن مع قضايانا العادلة والمحقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية في مختلف الساحات والميادين الممكنة، مع تقبل الرأي العام العالمي لروايتنا المحقة والصادقة أيضاً في مواجهة أساطير الوهم الإسرائيلية.
وبالعموم، وضع جمهور سيلتيك المؤسسات الأوروبية أمام الحقيقة، حيث لا انفصام أو ازدواجية، وبالتالي تكريس الدعم والتأييد لفلسطين كحقيقة واقعة، ليس ذلك فقط بل يجب علينا رفع السقف للمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل التي تتجاوز وبشكل فظّ المعايير والمواثيق والقوانين الأوروبية، وتنتهك بشكل منهجي ومتواصل حريات وحقوق الفلسطينيين على اختلاف فئاتهم وشرائحهم بمن فيهم الرياضيون بالطبع.
إلى ذلك يطرح مشهد جماهير سيلتيك علينا سؤالاً بل أسئلة صعبة ولكن ملحة وضرورية عن أسباب عدم رؤية مشاهد مماثلة في ملاعبنا العربية على أعتاب انطلاق الموسم الرياضي، كي نرى مثلاً علم فلسطين في شارات البثّ التلفزيوني وتعبير الجماهير في الملاعب عن موقفها تجاه الجرائم الإسرائيلية اليومية من قتل وتشريد وتهويد واستيطان وانتهاك حقوق الفلسطينيين الأساسية، ناهيك عن الاحتلال نفسه الذي يعتبر جريمة بحد ذاته.
بالطبع لا تريد أنظمة الاستبداد العربية هذا، ولذلك تمنع أو تحجم حضور الجماهير بأعداد كبيرة مباريات كرة القدم والمنافسات الرياضية الأخرى؛ كون الجماهير وكما فعلت دائماً ستستغل الساحات والميادين الرياضية للتعبير عن مواقفها ومشاعرها أولاً ضد الاستبداد نفسه، وثانياً للتضامن مع إخوانهم الفلسطينيين الذين يشبهونهم ضد الممارسات الإسرائيلية التي تتم بدعم موصوف وحتى تواطؤ من أنظمة الاستبداد العربية نفسها، كون الجماهير تعي جيداً أن المعركة هي نفسها ضد الغزاة والطغاة ولا يمكن تجزئتها لا سياسياً ولا إعلامياً ولا فكرياً ولا ثقافياً ولا رياضياً بالطبع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.