الهاجرية (Hagarism) مصطلح استشراقي ظهر في السبعينيات من القرن الماضي على يد المستشرقة باتريشا كرون ومايكل كوك، في كتاب يحمل هذا المصطلح (Hagarism: The Making of the Islamic world)، وهذا المصطلح مستنبط من كلمة (هاجر)، وهي الأَمة (عَبدة) التي أهداها فرعون مصر لإبراهيم (عليه السلام)، حسب روايتهم، في واحدة من الأساطير المخلة بسير الأنبياء والمملوءة بها أسفار التوراة، حيث تدعي التوراة أن إبراهيم (عليه السلام) عندما هاجر نحو مصر بسبب الجوع، قال لزوجته سارة، وكانت جميلة جداً، بأن تدعي أنها أخته حتى لا يأخذها المصريون إلى فرعون مصر، حيث قال لها: "قولي إنك أختي فيحسنوا معاملتي ويبقوا على حياتي". [12، 12، التكوين].
وهو ادعاء ينتقص من إبراهيم (عليه السلام)؛ لأنه في مكان آخر وفي سيناريو مشابه يقول لأبي مالك أحد ملوك الفلسطينيين: "بالحقيقة هي أختي ابنة أبي لا ابنة أمي، فصارت امرأة لي". [12، 20، التكوين].
وعندما يمد فرعون مصر يده نحوها يقوم الرب بضرب فرعون ضربات كبيرة، فيوقن بخطئه ويسمح لإبراهيم (عليه السلام) بالمغادرة بعد أن أنعم عليه بالهدايا، "فصار له غنم وبقر وحمير وأُتن وجِمال". [16، 12، التكوين]. وكانت ضمن الهدايا الأَمة "هاجر"، التي طردتها سارة بسبب الغيرة بعد أن تزوجها إبراهيم ثم ولد له منها إسماعيل، بينما خلفت له سارة إسحاق والد يعقوب، إسرائيل (عليه السلام).
ولا تذكر التوراة مطلقاً رحلة إبراهيم إلى منطقة الحجاز (مكة) وبناءه للكعبة مع ولده إسماعيل (عليه السلام)، وهو ما يقوله القرآن بقوله تعالى على لسان إبراهيم (عليه السلام): (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
واسم "هاجر" اسم عربي خالص، ولكن مما يؤسف له أن هذه الرواية الإسرائيلية بكون هاجر أَمة مصرية قد دخلت في الفكر الإسلامي وصار يُستشهد بها في معظم التفاسير.
وكان الدافع التوراتي لجعل هاجر أَمة، أن أبناء الأَمة لا يرثون البركة والنبوة من آبائهم، ولهذا تم تأطير هذه الرواية التوراتية بهذا الشكل ليتم استبعاد إسماعيل (عليه السلام) وذريته من النبوة ومن بركة إبراهيم (عليه السلام).
ويتزوج إبراهيم امرأة أخرى اسمها "قطورة"، وتلد له 6 أولاد، حيث ينطمس ذكرهم للأبد؛ لأن إبراهيم (عليه السلام) وهب إسحاق البركة والنبوة: "وأما بنو سراريه فأعطاهم عطايا وصرفهم". [6، 25، التكوين].
هذه الإسرائيليات اعتبرها بعض المستشرقين حقائق لا تقبل النقاش، لكي ينسجوا قصصاً حول نسب العرب المستعربة إلى هاجر، علماً أن النسب في الموروث الإسلامي لا يقدم شيئاً ولا يؤخر، والأصل في العقيدة الصالحة، وأهملوا النسب لإبراهيم (عليه السلام)، ثم ينسجون روايات وقصصاً حول العرب بعد الإسلام استناداً لأساطير التوراة وهم يدعون الموضوعية والعلمية في كتاباتهم، ومن هؤلاء كما ذكرنا المستشرقة الدانماركية الأصل الأمريكية الجنسية باتريشا كرون، والتي صدر لها كتاب عام 1977م، بالاشتراك مع مستشرق آخر اسمه مايكل كوك عن التاريخ المبكر للإسلام، يدعيان فيه أنه، وبالاعتماد على اللغات الشرقية وغيرها كالعبرية والآرامية واللاتينية والسريانية والقبطية… إلخ، ينسفان تاريخ الإسلام المعروف، وهو كما ذكرنا آنفاً بعنوان "الهاجرية".
وباتريشا كرون تحمل دكتوراه في الفلسفة، ومؤرخة، وعملت في الكلية اليسوعية، وألقت محاضرات في جامعات شهيرة مثل كمبريدج وأوكسفورد، وأما مايكل كرون فلا يقل شهرة عن زميلته، ونال عدداً من الجوائز بعضها من دول إسلامية، وكان تلميذاً لبرنارد لويس.
في هذا الكتاب أعطى المؤلفان تصوراً مختلفاً عن الإسلام يعودون به الى أُسس "يهودية – مسيحية"، وذلك على عكس ما كتبه المؤرخون المسلمون، وهي نظرية لا تقوم إلا على زرع الشك بالموروث التاريخي الإسلامي، وإعطاء المصداقية لكل ما كُتب من قِبل غير العرب والمسلمين على أساس من الأحقاد والبغضاء.
وقد يعتقد القارئ أن السبب في ذلك هو الجهل بالتاريخ العربي – الإسلامي، ولكن المسألة غير ذلك تماماً، أي إنها مسألة مقصودة بالتمام والكمال.
ففي كتاب باتريشا كرون مع مارتن هيندز المسمى "خليفة الله.. السلطة الدينية في العصور الإسلامية الأولى"، نلاحظ معرفةً واطلاعاً عميقين في المصادر الإسلامية حول الموضوع تُعد بالمئات، حيث بلغ عدد المراجع العربية 143 مرجعاً، والأجنبية 130، وقائمة بالمطبوعات التي نشرتها كلية ڨ الشرقية في جامعة كمبريدج 36 مرجعاً! وفيه تفاصيل حول موضوع الخلافة بدءاً من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى منتصف القرن الثالث الهجري بشيء من الدقة نادراً ما احتواه كتاب آخر حول الموضوع، وبمعرفة عميقة بالمصادر الإسلامية؛ ما يُعد تناقضاً صارخاً مع ما طرحته في كتاب "الهاجرية"، وهي مسألة محيرة إلى أقصى الحدود أن يكتب مؤرخ كتابين يناقض أحدهما الآخر تماماً.
وعليه فإن كتاب الهاجرية قد وضع عن قصد لتضليل القارئ الغربي وإبعاده عن الإسلام الصحيح، فالعرب، المستعربة، في هذا الكتاب هم أبناء وأحفاد هاجر كما ذكرنا، وهي مسألة تافهة؛ لأن النسب يعود للأب وليس للأم.
ومسألة حصر نسب العرب المستعربة بإسماعيل (عليه السلام) ابن هاجر؛ مسألة خيالية؛ لأن من غير المعقول أن تكون منطقة الحجاز آنذاك أي (حوالي 2000 سنة قبل الميلاد)، خالية من السكان العرب، وأن كل من جاء بعد ذلك كان من سلالة إسماعيل (عليه السلام)!
فإبراهيم (عليه السلام) كان من القبائل الأمورية، وهي من القبائل التي هاجرت من الجزيرة العربية إلى العراق، وتشترك بالنسب الجزري العربي مع باقي القبائل، فصلته عربية خالصة.
ووفقاً لهذا الكتاب فإن الفتوحات العربية كانت حركة يهودية – مسيحانية شكلت فيما بعد ما عرف بإسلام الخلافة!
ثم تقول الكاتبة بأن القبائل العربية المهاجرية من شبه الجزيرة العربية قد احتلت مركز الصدارة في هذه الفتوحات، في محاولة لاستعادة الأرض الموعودة من الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وعليه فالقرآن وفق هذا التصور هو كتاب تم تأليفه بالكامل في القرن الثامن الميلادي، أي بين القرن الثاني والثالث للهجرة، وهذا ربط خاص بفكرة استعادة أورشليم -القدس- التي تسيطر على فكرة الخلاص في المعتقدين اليهودي والمسيحي على يد المسيح المنتظر، وكُلٌ له مسيحه الخاص، فكان الاستنتاج المتهافت بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن إلا مبشراً بمسيح خاص هو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي فتح بيت المقدس.
وهذا تصور ساذج ومهلهل إلى أقصى الحدود، وكأنما هنالك اتفاقٌ بين اليهود والمسلمين لانتزاع بيت المقدس من المسيحيين، علماً أن كل المصادر تشير الى استلام المدينة دون حرب من قبل عمر (رضي الله عنه)، وأن الروم خرجوا منها صاغرين، وأن بطريرك المسيحية صفرونيوس قد سلم مفاتيح المدينة بيديه إلى عمر (رضي الله عنه)، وأن سكان أورشليم -القدس- قد استقبلوا الفاتحين الجدد الذين خلصوهم من ظلم الرومان بالترحاب كما يقول توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام".
وضمن هذا الهراء تدعي باتريشا كرون وزميلها أن أحداث حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) لم تكن في مكة كما يُعتقد، بل على بعد أميال شمالاً!
وأن القبائل العربية التي غزت مساحات كبيرة من الأرض في القرن السابع الميلادي لم يكونوا مسلمين، بل كانوا وثنيين، ثم تم جمع القرآن من الكتابات الطقسية المسيحية واليهودية المبكرة لاحقاً، وأن الإسلام الحالي لم يكن موجوداً إلا بعد قرنين أو ثلاثة من التاريخ الإسلامي المتعارف عليه، أي حوالي (850 ب.م).
إن كتاب "الهاجرية" يعرض ويؤكد بصورة غير مباشرة أن التاريخ الإسلامي وأصول القرآن ما هي إلا من وحي الخيال، وأنه تم تأليفها وجمعها كتعديلات في صناعة هوية عربية إسلامية دينية لا أساس لها.
إن هذه الطروحات عندما تصدر من مراكز دراسات مشهورة وجامعات لها وزنها الثقيل لا تعتبر أخطاءً عابرة، وإنما هي أعمال مقصودة تأخذ مكانها حسبما يخطط لها بعض الذين يوجهون هذه الدراسات.
إن العلمية والموضوعية عند هؤلاء تنكر وجود مسقط رأس الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مكة المكرمة، وأنه عاش بعد الهجرة في المدينة المنورة، وأن مكة المكرمة والمدينة المنورة وحتى الحجاز هي مناطق خارج حدود شبه الجزيرة العربية!
وهذه الفرضيات سيتبعها إنكار وجود قريش وإنكار للفتوحات التي قادها خلفاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) خارج الجزيرة العربية، وأن قسماً من القرآن هو من تأليف محمد (صلى الله عليه وسلم) أو خلفائه، وبالتالي إنكار الرسالة الإلهية للإسلام.
إن هذه الأساليب التي تحاول من حط قيمة المسلمين والعرب على أساس أنهم لا يستحقون بركة إبراهيم (عليه السلام)، ستقود بالتالي إلى إنكار الرسول (صلى الله عليه وسلم) كنموذج أخلاقي، وأن مصادر الشريعة الإسلامية هي نسخ مشوهة مأخوذة من كتابهم المقدس.
والحقيقة أن هذا المنهج الأعوج يتم القصد به إبعاد غير المسلمين عن رسالة الإسلام؛ كونه ديناً مصطنعاً ويعمل على تشكيك بعض ناقصي الثقافة من المسلمين في أصول دينهم، كون من يكتب هذه الأشياء يحملون ألقاباً علمية طنانة، ويحتلون مراكز عالمية في مراكز للبحوث والاستشراق في جامعات لها سمعتها التي لا تضاهى في أوروبا وأمريكا.
إن هذه الطروحات هي التي تصنع من بعض الذين يعتقدون أنهم دعاة أشخاصاً يعملون للإساءة للدين الحقيقي بعد أن يحصلوا على تغطية إعلامية مفتعلة، والله من وراء القصد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.