"حرب الأيقونات" هي تسميةٌ تطلق على فترتين من التاريخ البيزنطي، عرفت خلالهما الإمبراطوريَّة الروميَّة اضطراباتٍ وقلاقل دينيَّة. امتدَّت الفترة الأولى بين سنتي 726 و787م وعاصرها خمسة أباطرة (لاوون الثالث الإيساوري، وقسطنطين الخامس، ولاوون الرابع الخزري، وقسطنطين السادس، وإيرينة الأثينيَّة)، وامتدَّت الفترة الأخرى بين سنتي 814 و842م وعاصرها ثلاثة أباطرة (لاوون الخامس الأرمني، وميخائيل الثاني الألثغ، وثيوفيلوس). كذلك، عاصر الفترة الأولى تسعة من خلفاء المسلمين: خمسة من بني أميَّة (هشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمَّد) وأربعة من بني العبَّاس (أبو العبَّاس السفَّاح، وأبو جعفر المنصور، وأبو عبد الله المهدي، وأبو محمَّد الهادي). أمَّا الفترة الأخرى فعاصرها خليفتان (المأمون والمعتصم بالله).
خلاصة هذا النزاع أنَّ أباطرة عديدين ورجال دينٍ روميين آمنوا بِوجوب إبطال استخدام الأيقونات من صورٍ ورموزٍ في الكنائس، وشرعوا بتحطيمها وقمع كل من نادى بإمكانيَّة استخدامها أو آمن بها، فحرَّموا كل تصويرٍ مقدَّس؛ مستندين في ذلك إلى نصوص أسفار الكتاب المقدَّس وأقوال آباء الكنيسة الأوائل، ومن أبرز تلك النصوص ما ورد في الآية الرابعة من الإصحاح العشرين في سفر الخروج: "لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحوتاً، وَلاَ صورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْق، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْت، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ" سفر الخروج 4:20، وما ورد في الآية السادسة عشرة من الإصحاح الرابع في سفر التثنية: "لِئَلاَّ تَفْسدوا وَتَعْمَلوا لأَنْفسِكمْ تِمْثَالاً مَنْحوتاً، صورَةَ مِثَال مَّا، شِبْهَ ذَكَرٍ أَوْ أنْثَى" سفر التثنية 16:4، وكذلك ما قاله بولس الرسول في مدينة أثينة: "فإذْ كنَّا نحن ذرِّيَّة الله، فلا يَنْبَغي أنْ نَحْسَبَ اللآّهوتَ شَبيها بالذَّهبِ أو الفِضَّةِ أو الحَجَر، أو سائِرِ ما ينْقش بِصِناعَةِ الإنسان ِ واختراعِه"، وغير ذلك من الأدلَّة الكتابيَّة.
ويعتقد أيضاً أنَّ الإمبراطور لاوون الثالث الإيساوري كانت له أسبابٌ سياسيَّة وإداريَّة ليبدأ هذا النزاع، ففي الفترة التالية على الفتوحات الإسلاميَّة، وخروج الديار الشَّاميَّة والمصريَّة من تحت جناح الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ازداد نفوذ الكنيسة في الأوساط الشعبيَّة الروميَّة، وكان الروم قد تعلقوا برهبان الكنيسة وعقدوا على صلواتهم وتضرعاتهم الآمال بالسعادة والنجاح. وأقبل الناس على الترهّب أفواجاً لخلاص أنفسهم، وأدَّى ازدياد عدد الرهبان وتعاظم أمرهم إلى نقص في دخل الخزينة لأنَّ القانون البيزنطي أعفى الرهبان من دفع الضرائب كما منع جبايتها عن الأوقاف الكنسيَّة.
وتوافرت ثروة الرهبانيَّات وقوي نفوذها فأصبحت عنصراً سياسيّاً هامّاً يتدخَّل فيعرقل سير السياسة ويعقِّد مشكلاتها. كما أفضى الانسياق غير الواعي في موجة التعبّد والزهد هذه إلى تولّد حالةٍ من السلبيَّة في المجتمع الرومي، وانتشار الإيمان الأعمى بالقدريَّة؛ ممَّا أدَّى إلى فقدان النشاط والعزم وروح المبادرة، لا سيَّما إزاء الحوادث الكبرى. ويبدو أنَّ الإمبراطور تنبَّه لِكلِّ هذا، فأراد تقليص نفوذ الرهبانيَّات من جهة، وبث الروح الإيجابيَّة في صدور رعيَّته من جهةٍ أخرى، فشرع في تحريرهم من هيمنة الإكليروس [1].
ومن الأسباب المحتملة الأخرى لِهذا الأمر، هو تأثّر الإمبراطور ليون بالمسلمين. فهذا الإمبراطور ولد في مدينة مرعش قرابة سنة 685م، أي بعد قرابة خمسة وأربعين سنة من فتح المسلمين لها، وعاش فيها شطراً من حياته، وجاور المسلمين وعاشرهم، ويحتمل أنَّه تأثَّر بالثقافة الإسلاميَّة في تلك المدينة وسائر الديار الشَّاميَّة، ومن أهم مظاهر هذه الثقافة طبعاً، تحريم تصوير الأشخاص من أنبياءٍ وأئمَّةٍ وصالحين، وعدم اتخاذ الرموز الدينيَّة للإشارة إلى الإسلام أو لتذكرة الناس بالله أو بأحداثٍ معينة، عكس ما هو شائع في المسيحيَّة.
استمرَّت حرب الأيقونات في الإمبراطوريَّة دون أن يتمكن المسلمون من استثمار الاضطراب الناجم عنها، فقد عصفت ريح الفتن بالدولة الأمويَّة وتُوِّجت بانتصار الثورة العبَّاسيَّة، وقيام دولة بني العبَّاس على أنقاض دولة بني أميَّة في المشرق العربي. وانشغل العبَّاسيّون في بادئ أمرهم بتوطيد أركان ملكهم والقضاء على بقايا الفتن الداخليَّة، ثمَّ عادوا إلى غزو الروم ومحاربتهم، ولعلَّ أشهر ما قاموا به في هذه الفترة كان خلال عهد الخليفة محمَّد المهدي الذي أرسل ابنه هارون الرشيد فحاصر القسطنطينيَّة سنة 165هـ / 782م (حَمَل الرشيد مرَّة أخرى على الأناضول خلال خلافته، سنة 190هـ / 806م، ولكنَّ المرحلة الأولى من حرب الأيقونات كانت انتهت).
وفي سنة 813م تولَّى العرش البيزنطي لاوون الأرمني، الشهير بلاوون الخامس، فأشعل نيران حرب الأيقونات مرَّةً أخرى، ذلك أنَّه لم يكن يؤمن بتكريم الأيقونات أو بقداستها، وأخذ يبث دعايةً مفادها أنَّ ما حلَّ بالإمبراطوريَّة من ضعفٍ وهزائم متتالية على يد المسلمين والبلغار، وما أحدق بها من خطر إنما نشأ عن العودة إلى تكريم الأيقونات. واضطهد لاوون رجال الدين، فنفى الكهنة والأساقفة وحبس بعضهم، كما نفى بطريرك القسطنطينيَّة إلى أحد الأديرة، فبقي فيه حتَّى وفاته.
وفي سنة 820م قتل لاوون الخامس على يد أحد قادة الجيش الذي سارع لتولّي العرش باسم ميخائيل الثاني، ولقِّب بـ"الألثغ". وسرعان ما أصدر الإمبراطور الجديد أمراً منع فيه كل مشادة حول الأيقونات. واستدعى من المنفى جميع من أبعدهم سلفه بسبب إيمانهم. وأعلن حريَّة العبادة. لكن لم يصفُ له الملك، إذ قامت في وجهه ثورة خطيرة قادها قائدٌ بيزنطيٌّ آخر يدعى "توما الصقلبي" وكان قد ادَّعى لنفسه نسباً روميّاً، والتفَّ حوله المستضعفون من أهل الأناضول والداعون إلى تكريم الأيقونات. والتجأ هذا الثائر إلى الخليفة العبَّاسي المأمون بن هارون الرشيد يطلب منه المدد.
كانت تلك فرصة ذهبيَّة لم تحدث من قبل، ولم تتكرَّر في التاريخ الإسلامي، وعلى الرغم من أنَّ البنود التفصيليَّة للاتفاق بين الرجلين لم تصل الباحثين المعاصرين، لكن يفهم من مجموعةٍ من المصادر أنَّ توما عرض على المأمون أن يتنازل له عن عدَّة مناطق من الأناضول، ويقبل بأن يصبح تابعاً لِلخلافة العبَّاسيَّة، ويعترف بتقدّم الخليفة ويدفع له جزية سنويَّة. فطرب المأمون لهذا، فأمدَّ توما بِجيشٍ قويّ، وطلب من أيّوب البطريرك الأنطاكي أن يرسم توما إمبراطوراً، ففعل. ومعنى ذلك أنَّ توما لو انتصر، لأصبح الخليفة هو من نصَّب الإمبراطور البيزنطي، فتصبح الإمبراطوريَّة دولة تابعةً لِلدولة العبَّاسيَّة.
ونهض توما بجيشه إلى الأناضول وانتصر على جيش الإمبراطور، ثمَّ قصد القسطنطينيَّة في أواخر سنة 821م وحاصرها. لكنَّ هذا الجيش حمل بذور فشله في طيَّاته؛ إذ امتعض القادة والجند الروم من مشاركة المسلمين في القتال، والواضح أنَّهم أدركوا أبعاد مشاركة المسلمين في هذا الحصار وتبعيَّة اتفاق قائدهم مع الخليفة، الذي من شأنه أن يجعلهم كلّهم رعايا لِدولة الإسلام سواء مباشرةً أو بشكلٍ غير مباشر، ومن الواضح أيضاً أنهم رفضوا قتال أبناء دينهم ولو خالفوهم المعتقد، طالما كان هذا القتال لن يفيدهم كمسيحيين أو يفيد المسيحيَّة عموماً، فهم يريدون القضاء على عبادة الأيقونات، والحفاظ على دولتهم المسيحيَّة مستقلَّة.
وممَّا لا ريب فيه أنَّ انتشار الإسلام سريعاً في البلاد المفتوحة، على مرأى أعينهم، وبحسب ما سمعوه من أجدادهم، أثار مخاوفهم. ودليل ذلك أنَّ ميخائيل الألثغ لمَّا رفع راية الحرب، وأرسل ابنه ثيوفيلوس رافعاً الصليب ورداء العذراء، سارع الأيقونيّون والمحطِّمون إلى الالتفاف حوله، وانحاز قسمٌ من جيش توما إلى الإمبراطور، كما فوجئ باتفاق الأخير مع خاقان البلغار، فأصبح أمام عدوَّين. واضطرَّ توما إلى الارتداد والنجاة بنفسه ومن بقي معه من جند، لكنَّ الروم تعقَّبوه ووقع في أيديهم أسيراً في خريف سنة ٨٢٣م، فسُلِّم إلى الإمبراطور ميخائيل الذي قتله. وبعد ذلك بمدَّة انقضت حرب الأيقونات، ولم يكتب لِلمسلمين دخول القسطنطينيَّة إلَّا بعد قرابة ستمائة وثلاثين سنة، تحت الراية العثمانيَّة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.