قبل بضع سنوات اكتشفنا أن ابني الصغير لديه مشكلة غذائية مع مادة الغلوتين. ولم يكن هذا سهلا أبداً. كان كثير البكاء ويتلوى بقوة بعد كل طعام، فلا هو ينام ولا نحن. ولم يفلح أي طبيب ممن ذهبنا إليهم في القاهرة في أن يعرف سبب ذلك أو حتى يقترب منه. وعندما وصلنا إلى بروكسل ذهبنا لأقرب طبيب فأعطاه مادة فوارة نسيت اسمها وطلب تحليلات. وبعد أسبوع واحد فقط اكتشف الأمر، ونصحنا أن نذهب لطبيب تغذية يضع خطة للولد تناسب سنه واحتياجاته الجسدية، وأعطانا قائمة لمن يعرف من هؤلاء الأطباء.
وكان من الصعب أن تجد موعداً سريعاً لقلة الأطباء في بلجيكا فاتصلنا بأول طبيب ألماني على القائمة، فطلب أن نبعث له بكل التحليلات، وبعد أن رآها كتب لنا أن الأمر يقتضي أن نأتي بالولد إلى ألمانيا، وأن يقيم في نفس مدينته لمدة أسبوع أو أسبوعين لإجراء التحليلات حتى نصل للخطة المناسبة. فاتفقنا على المواعيد لنجعلها إجازة أسرية. وذهبنا نحن الأربعة إلى مدينة "فيتسلر" قرب فرانكفورت. وهي مدينة عتيقة جداً؛ إذ يعود وسطها إلى فترة العصور الوسطى الأوروبية، وهو أحد عصوري التاريخية المفضلة. ورغم أن العيادة على أطراف المدينة فإنني فضلت أن نقيم في وسط المدينة العتيق ونذهب إلى العيادة كل صباح.
وكان وسط المدينة ساحراً خلاباً بالفعل، وكان كالعادة للمشاة فقط، وعندما تسير فيه تشعر أنك داخل إحدى الحكايات الخرافية. وكنا نعيش في شقة صغيرة في بيت مبني بالخشب والجص وتطل على ميدان صغير في وسط المدينة تماماً، وكنا نقطع الطرق العتيقة المبلطة بالأحجار الملونة حتى نخرج من وسط المدينة ثم نعبر نُهيراً فحديقة عامة ونمشي بعدها بجوار شارع عريض للسيارات، وبعد عشر دقائق نكون لدى الطبيب الذي اكتشفنا أنه إيراني الأصل.
والإيرانيون لهم دوماً وضع خاص في ألمانيا. كان رجلاً ذكياً تخصص منذ زمن في علاج مشاكل التغذية عند الأطفال واغتنى من ذلك بالفعل. لكن ولأن له ابناً يعاني من طيف التوحد فقد تخصص في هذا أيضاً. وعندما علم أنني مصري صمم أن يُريني القسم الخاص بالتوحد! ولم أفهم لماذا حتى قال لي إن أغلب مرضى التوحد يبحثون عادة عن "الهارموني"، أي الانسجام، ولذا يقومون دوماً بحركات رتيبة مكررة، وأحياناً يؤذون أنفسهم بحثاً عن ذلك الهارموني المفتقد.
لذا هناك طرق كثيرة لمساعدتهم في ذلك من أحدثها الاستماع إلى الموسيقى، خاصة موسيقى موزارت، ويكون ذلك بالسماعات لنصف ساعة يومياً. كنت أعرف أن هذا مما فعله الفارابي قديماً ولكن من يعرف هذا الآن؟ المهم قلت له: هذه إذاً الموسيقى الحلال التي تؤدي دوراً في تخفيف آلام البشر. فابتسم لجملتي الفلسفية وقال إنه طوّر طريقة للأطفال المسلمين الذين يعانون من طيف التوحد باستخدام أسطوانات لترتيل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لقصار السور. هنا فقط فهمت لماذا أراد أن يُريني هذا القسم. ودخل في وصف تفاعله مع قراءة الشيخ عبد الباسط عندما استمع إليه للمرة الأولى. ولكن لا مجال لهذا الآن لأنه سيذكّرني بأبي وربما أبكي ولا أكمل الكتابة. لذا سأترك هذا لوقت آخر.
المهم أنه نصحني بقراءة كتب التغذية الخاصة بالأطفال الذين يعانون من الغلوتين. وأعطاني بعض أسماء الكتب وسألني أين أسكن في مدينة "فيتسلر". فلما أخبرته بالعنوان قال لي إنه يوجد بالقرب مني مكتبة ممتازة بها قسم مخصص لكتب التغذية.
وبعد أن انتهيت وعدت بالولد إلى أمه وأخيه ذهبت أنا إلى المكتبة المذكورة وكانت بالفعل من أجمل المكتبات التي رأيتها في ألمانيا. أما قسم كتب التغذية فكان مفاجأة لي، ربما لأنني لم أهتم بهذا الأمر من قبل. والشيء الغريب بالفعل أن قسم التغذية به كتب دينية وفلسفية وتاريخية وأدبية عن التغذية. وإلى جانب الكتابين اللذين ذكرهما الطبيب اشتريت خمسة كتب من هذه النوعية. منها كتاب عن الطعام في اليونان القديمة، والأطعمة المذكورة في التوراة والإنجيل، والفلسفة والطعام، ووصف الموائد في كتب الأدب الوسيط، وتاريخ الخبز في العالم. وفي السكن أعطيت زوجتي كتابي الغلوتين وعكفت أنا على الكتب الخمسة أقرأ وأدون دون هدف محدد سوى اللذة.
وعند انتهاء الأسبوعين وقبل أن نترك تلك المدينة الساحرة ذهبت إلى تلك المكتبة مرة أخرى واشتريت كتابين آخرين عن تاريخ البهارات وتاريخ الملذات. وسألت البائع وزوجته إن كان يوجد أي كتاب عن تاريخ المطبخ الفرعوني؟ فقالت لي: لا للأسف. وقال هو: هذا موضوع ممتاز كدراسة دكتوراه. فقلت له: "أشكرك لكن أنا عندي واحدة بالفعل وهذا يكفي".
ومع الوقت تحسنت حالة الولد بعد أن فهم أن هذا التغيير في صالحه رغم أنه لم يستطعم قط تلك الأطعمة الخالية من الغلوتين. أما أنا فقد أصبحت مجنوناً بالمطبخ ودوره في التاريخ والفكر والأدب وكان يتقافز أمامي دوماً. ومرة كنت أعد درسي عن مناهج كتابة التاريخ فقالت لي زوجتي إن محشي ورق العنب لا غلوتين فيه ويمكن أن نطبخه للولد بين حين وآخر.
وفي اليوم التالي مباشرة كنت بمفردي في البيت وفكرت أن كل الكتب التي اشتريتها عن المطبخ الأجنبي فلماذا لا تبدأ البحث عن المطبخ في التاريخ العربي الإسلامي. وبدأت أحصي الكتب التي أعرفها عن الطبيخ في التراث العربي. وأبحث عما ليس عندي منها ووجدت في أمازون كتاباً عنها بالفرنسية وما إن رأيت بعض الصور التي فيه حتى جرى الريق أنهاراً وزاد الجوع وقلَّ التركيز فتوقفت.
وبعد تردد دخلت المطبخ فوجدت على سبورة المطبخ الصغيرة الأشياء التي ستفعلها زوجتي عندما تعود، ووجدت بينها تحميص الفول السوداني وغسل المواعين. فجئت بالفول السوداني وبدأت التحميص وأنا أفكر ما هذا الذي أفعله بنفسي! ولسعت نفسي وأنا سرحان مرتين أو ثلاثاً، ولكن لم أصل لحل فبدأت في غسل المواعين وأنا أحث نفسي على مراجعة درس الغد عن التاريخ ومناهجه في ذهني، وقلت لنفسي:
"التاريخ مثل غسل المواعين! توجد فيه وساخات كثيرة تغطي الأحداث الأصيلة أو الأحداث المحركة، ولا بد من غسل الوساخات وتلميع ما تحتها حتى نصل لقاع الحلل ونعرف الأحداث التاريخية عن قرب ونحاول تبين حقيقتها "على نضيف". وبعد هذا تدخل مطبخ التاريخ وتجهز الطبخة من جديد وتقدمها بطريقتك وأسلوبك الخاص".
وهنا قلت لنفسي لا بد أن أطبخ شيئاً كمفاجأة لزوجتي والولدين، وتطبيقاً لنظريتي الجديدة عن التاريخ. نظرت في سبورة المطبخ فلم أجد شيئاً يعجبني. وبدأت أفكر في أقرب أكلة مصرية يتحقق فيها مفهومي للتاريخ. وبعد تأمل طويل وجدت أن محشي ورق العنب هو أقرب أكلة لذلك. آه والله! وليس لأن زوجتي أشارت لذلك. عيب يعني! طيب لاحظ المكونات وكمية الروايات والعنعنات التي تحيط بكل منها: الأرز والطماطم والثوم والبصل والبهارات والشبت والسمن والزيوت.. كل هذا يجب طبخه وتحبيشه بترتيب وهدوء وروية مع شهقة خاصة في كل مرحلة. وفي النهاية تلف كل هذا بعناية في ورق عنب أخضر ومغسول "ويخصك". وبعد ذلك ترصه وترصفه بترتيب ونظام مثل الكلمات داخل الحلة العربية أقصد الجملة العربية، ثم تسكب عليه من ماء روحك وذوقك وتضعه على نار هادئة وتراقبه وتراجعه مرة واثنتين وربما ثلاثاً حتى ينضج ويعجبك شخصياً، وبعد تذوقه تقدمه للعائلة أو للقراء لا فرق ليتمتعوا به، وبالتأكيد سيقولون لك "دي أكلة تاريخية". وهذه الجملة تحديداً هي التي تؤكد صحة نظريتي عن العلاقة شبه القوية بين التاريخ ومحشي ورق العنب!
وأعجبتني الفكرة جداً! وشعرت أنني مثل نيتشه عندما جُنَّ فكان لا يفتأ يقول لنفسه: كم أنا عبقري. كم أنا جميل!. وقلت هذا يكفي العقل لهذا اليوم، ولا بد أن أهتم بالبطن قليلاً أيضاً. وعكفت طوال اليوم على عمل حلة محشي ورق عنب معتبرة. وفي النهاية.. لن تصدقوا.. أنا نفسي لم أكن أصدق وكنت مندهشاً جداً؛ لأن النتيجة كانت ممتازة بالفعل. وقلت لنفسي إن هذا حظ مبتدئين فلا تغتر. وعندما أحضرت زوجتي الولدين من المدرسة وما إن فتحت الباب حتى كانت رائحة المحشي تعبق السكن كله والجيران يفكرون يتهامسون يتساءلون..
المهم أن الاهتمام بدور المطبخ في التاريخ أصبح عادة، بل إدماناً مهلكاً يخايلني دوماً خاصة عندما أدرس مادة تاريخ الفلسفة. فإذا درست فيثاغورث عرفت أنه كان نباتيّاً، ولكنه يكره أكل الفول فأبدأ البحث عن تاريخ الفول في اليونان القديمة. وإذا وصلت إلى ابن باجة تذكرت أنه مات مسموماً بأكلة باذنجان. فأجري على كتب الطبخ المغربية والأندلسية لأرى كيف كان يعد الباذنجان مع أن أحداً لن يسألني عن هذا.
وإذا وصلت إلى سارتر عرفت أنه كان مدمناً على أكل السجق النيء فأضيع وقتي في البحث عن أي نوع من السجق تحديداً، وأتمنى ألا يكون سجق لحم خنزير حتى أجربه. وفجأة قلت لنفسي ولكن ماذا كان يأكل ابن سينا، وتذكرت أن الرجل مات بسبب إدمانه على ممارسة الجنس، فأقول لنفسي الرجل كان خبيراً في الأعشاب الطبية فأي أعشاب كان يتناولها إذاً؟ وهنا وقف "قلبي" وقلت لنفسي كله إلا هذا. وقررت التوقف عن الكتابة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.