في هذا المقال سأحاول قدر الإمكان أن أصف الكتابة لمن لا يعرفونها، وأنا أدرك أنني أقوم بمهمة شبه مستحيلة، ألا وهي وصف هذا النشاط الفكري والإنساني الذي ليس سوى محاولة مستعصية لترتيب الفوضى التي تقطن في دواخلنا.
يسألونك، ما الكتابة؟ ممَّ خُلق هذا الكائن الذي يجعل الرعب يسري في أفئدة الطغاة، ويزرع الرعب في أنفسهم الضعيفة من خشخشة الأوراق وصوت احتكاك الأقلام ببعضها البعض؟
عندما نكتب، فإننا في نظرهم نرتكب جناية كبرى، نتجرأ على الحلم ونحقن في من يقرأ من أفراد المجتمع جرعة مفرطة من الأمل، ورغبة مزمنة في النهوض بأحوال الوطن، والأمة والعالم بأسره، نتورط بالكتابة تورطاً لا رجعة فيه، ونصبح مطلوبين من الدولة وخدامها، أحياء كنا أم أمواتاً. الكتابة الثورية هي عدالة إلهية ورحمة ربانية نزلت من السماء كوحي على أصحابها، وهي التي توجه النضال البروليتاري والمقاومة الفكرية التي تسعى لتفكيك الاستعمار ونصل بقايا الاحتلال من الفكر الجماعي للمجتمعات البوست-كولونيالية ولمجتمعات أخرى ما زالت قابعة تحت وطأة الاحتلال الشرس.
وفي رواية أخرى، فإن الكتابة ذنب عظيم ولغو حديث، لأن الحياة منها نابعة؛ ولأنها في حد ذاتها قادرة على خلق عوالم موازية، وإعادة تشكيل الواقع بما يوافق أهواءَ الكاتب، لا إرادةَ الله. لأن إنجاب الجمال على شكل كلمات في عالم في منتهى البشاعة ذنب، ولأن بيع الأمل لأمة ضائعة كذب وبهتان، وإن كانت هذه الأمة في أمَسّ الحاجة إلى بصيص من الأمل تشيد به مستقبلاً أجمل، ولأن وأن وأن..
كل هاته الأسباب تحرِّم على المرء أن يتحلى بالحلم في وجه ظلام دامس، أو أن يعتنق مذهب الحب والأمل، لكن لا شيء منها يردع من تورطوا في الكتابة وأصبحوا كائنات حبرية حتى النخاع، يتنفسون الكتابة ويتمسكون بالحياة، لا لشيء إلا لأن خزان الكلمات امتلأ في دواخلهم عن آخره.
جربت في أوقات كثيرة أن أنفِّس عن غضبي ويأسي من الحياة بأكثر من طريقة عساني أشفى من محنة الكتابة، ولكنني في كل مرة كنت أعود إليها بكامل إرادتي، تسوقني إليها إرادة أقوى وأكبر من إرادتي الشخصية ومن وهم حرية الاختيار. أدركت في وقت مبكر تورطي الأبدي في لعنة الكتابة التي باتت تلاحقني أينما حللت وارتحلت: في طريقي للجامعة، وفي الفضاءات المكتظة وفي الحافلة وفي قاعات الانتظار.
وُلدت في الرباط وأنجبتني مدينتي. الرباط، رباط الفتح وعاصمة الأدب المغربي: كلها مسميات مختلفة لمدينة واحدة لا تشبه غيرها من المدن في شيء. ليس لأنها مسقط رأسي، ولا لأنها عاصمة المغرب، بل لأنها الرباط، حاضرة في قصائد الملحون وأشعار أبنائه ومدينة الكتابة والأدب بامتياز. لهذا لم يسعني وأنا ابنة مدينة الرباط سوى أن أصاب بحب مزمن للأدب منذ طفولتي، وتحولَ شغفي بالقراءة إلى شغف أكبر بالكتابة، كنت أكتب في البداية في محاولة بائسة للهروب من مآسي الحياة وقسوتها لكن سرعان ما تحولت الكتابة إلى نمط حياة بالنسبة لي وتحول نشاط الكتابة من ملاذ من الواقع إلى تجسيد لذلك الواقع على ورق وتشريحه لانتقاد كل ما يعيب فيه.
تشبه الكتابة نشاط السباحة، إذ يطفو الكاتب فوق كلمات خطتها يده، تماماً كما يطفو السباح في الماء. تمنحنا الكلمات حرية التنقل بمرونة من موضوع إلى آخر وتغرقنا أحياناً إذ تجعل واقعنا المعاش مرئياً جاهزاً للانتقاد والشجب وتضع أحزاننا تحت المجهر ليراها العالم بأسره. نكتب لأن الحياة تقذفنا في بحر من الكلمات العشوائية، نجدف بقوارب اللغة لنبهت في نهاية الأمر عندما نكتشف أن لا وجود لبر أمان، لأن بلوغ اليابسة أكثر خطراً بكثير من الغرق.
لا تختفي مآسينا حينما نكتبها، وإنما تتكاثر لتصبح بارزة أكثر، ويصبح حضورها أقوى بكثير مما كان، لكننا لا نستطيع أن نعيش بمنأى عن الكتابة، حتى وهي تضع الملح على جراح الزمن، وتنقش الأحزان على رخام التاريخ لكي لا ننسى.
تعري الكتابة مكامن أنفسنا، وتفضح مخاوفنا ونقاط ضعفنا، تجبرنا على الإفصاح عن مخاوفنا التي تضاف إلى الرصيد الجماعي لمخاوف النفس البشرية. لا يكتب المفكرون والأدباء أفكارهم ومشاعرهم فحسب، وإنما بشكل لا شعوري يخطون أكبر مخاوفهم. إن الكتابة لهي محاولة بائسة لمحاربة صنف معين من الخوف، ألا وهو الخوف من العدم والتمسك بالخلود والأزلية، يكتب البعض منا لكي لا يصبح طي النسيان إذا طرق شبح الموت باب رحلته قصيرة المدى على وجه البسيطة، يحفر اسمه على كتب التاريخ من خلال كلمات تبوح بأفكار يفخر بها وتفصح أيضاً عن ماهيته. تظهر مخاوف النفس البشرية بوضوح وغزارة تحت مجهر الكتابة.
لماذا نكتب إذاً؟ لأن الكتابة تنجب الأفكار المجردة، وتمنحها فرصة أن تصبح ملموسة وأقرب إلى الواقع. نكتب عن القيم الإنسانية ونصرة الحق واستنكار الظلم لعل هاته الأفكار تصبح أكثر من مجرد أفكار. نكتب رغم أن لا أحد يقرأ، ورغم أن الكلمات باتت تُباع وتُشترى كغيرها من السلع، ورغم أن القناعات باتت أوهن من بيت العنكبوت في زمننا هذا. لا وجود لسبب محدد يدفعنا للكتابة، ربما لأن الكتابة هي غاية في حد ذاتها.
ولكن رغم إيماني القاطع بأن أسباب الكتابة تتعدد وتختلف من شخص لآخر، فإنني لطالما وجدت في مفهوم الألم ما يثير الدهشة والاستغراب، فمن أصل كل الكائنات على وجه البسيطة وحده الإنسان يعطي لألمه قيمة كبرى، ويعمل على التعبير عنه على شاكلة أعمال أدبية وفنية تتجلى فيها مأساة مبدعها. يدفعنا الألم دفعاً نحو حضن الإبداع، حيث نصنع أعمالاً تشهد لنا بالعبقرية والنبوغ في حين يقف الألم في زاوية الصورة دون أن يضع توقيعه على انتصارنا الإبداعي، بالرغم من أنه النجم الحقيقي الذي يستحق كل المديح.
إن الكاتب محكوم ما دام على قيد الكتابة بالألم، يمسك القلم وهو في ذروة ألمه، فيتدفق منه سيل من الكلمات تخطها يده، ويمليها عليه ألمه. لهذا يقسم الكاتب ألا يتخذ في الكتابة شريكاً سوى الألم، وأن يهدي ورقته وقلمه فترة راحة كلما زارته السعادة ويضع بعيداً رداء الكاتب ليتفرغ للحياة إلى أن يحين موعده مع الألم ثانية، وترى الكاتب يسرف في شكر من كانوا في حياته "شعلة ألم" لأنهم صنعوا مجده دون علم منهم.
أجلس في عتمة الحياة، على قارعة الوجود، على هامش الأدب حيث تعانقني كتبي وكلماتي، تواسيني في الفقد والخذلان وتجالس الأكوان التي في داخلي وأسبح بدوري في فلك أفكارها؛ هكذا نبني رابطة لا تُكسر بين أرواحنا وكلمات تبوح بنا، ونُخلد كل شعور ينتابنا، إذ يصبح قيد الكتابة حيًّا كما لم يكن من قبل، وتهدهد الكلمات يأسنا ليخلد للنوم بسرعة. كل جرح يطيب بالحلم وبالكتابة.
بين سرد للوقائع والحقائق، وخلق لعالم من فضيلة وقيم رفيعة، يظل القلم سلاحاً ضد الاستسلام، فما دام المرء فينا يكتب، فإنه على قيد المقاومة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.