روايةُ أنطونيو سكارميتا تنهضُ على البنية الحوارية، لذلك لا تضيعُ ملامحُ شخصياتها المتحركة على مرمى عين المتلقي.
رشحت الروايةُ من بين كل الأجناس الأدبية لتحل مكان الملحمة بالنسبة للإنسان المُعاصر، بل لا مُغالاة في القول بأنَّ هذا الشكل الأدبي قد أصبح بمثابة الأسطورة، لأنهُ يسدُ حاجة الإنسان المادية والفكرية. كما أن فن الرواية يفترسُ كلَّ شيءٍ، على حد قول ماريو بارغاس يوسا، الفلسفة والشعر والأقاصيص، لكن هل تنطبقُ هذه المواصفات على كل نص روائي، بحيثُ تنفتحُ بنيتهُ على الصياغات التعبيرية المتعددة، ويقومُ على المبدأ الحواري في تشكيلته وتنظيم مكوناته السردية؟
طبعاً، إنَّ تصميم عملٍ بهذا المستوى من المرونة والتحامه مع الخطابات المتنوعة يتطلبُ وجود برنامجٍ يعتمدُ عليه المؤلفُ لإدارة مادته المروية، وتعجين المعطيات التاريخية والسياسية والفكرية في متن النص، مثلما تجدُ ذلك في رواية "رقصة النصر" للروائي التشيللي أنطونيو سكارميتا.
النسق المتوازي
إضافة إلى تطويعه المفردات والأقوال المحايثة للحقول المعرفية والفنية والمجتمعية في سياق سرده الروائي، ناهيك عن اللمحات التاريخية. فإنَّ صاحب "أب سينمائي" يعتمدُ في تنظيم المبني الحكائي على النسق المتوازي، وذلك ما يقعُ عليه المتلقي في مستهل الرواية، إذ بعدما يلمّحُ الراوي إلى أنَّ مأمور السجن قد طلب مثول أنخل سانياغو أمامه قبل أن يتمتعُ بحريته، إثر إصدار قرار الرئيس الذي ينص على إطلاق سراح السجناء، لا يستغرقُ السردُ وقتاً طويلاً ويبدأُ الحوار بين المأمور والشاب الذي لا تفصله عن الحرية سوى لحظات، وما يدور بين الاثنين يكشفُ عن توجس المأمور من قيام الشاب بقتله انتقاماً على ما ذاقه في زنزانة الوحوش، حيثُ كان نهباً للاعتداء الجنسي.
حُسن توظيف الحوار الوامض يحول النص إلى شاشة السينما، والإيماءات إلى لوحات إدوارد هوبر تعمق الوعي بالحزن الكامن في أعماق شخصيات الرواية.
إلى هنا يتوقفُ الحوارُ وينفتحُ الفضاء لشخصية أخرى، ريجوبر تو مارين، بخلاف أنخل الذي لم يكن جرمه إلا سرقة حصانٍ، فإنَّ مارين قد تورط بجرائم القتل، لذلك يكلفهُ المأمور بملاحقة الشاب، وتصفيته قبل أن يتعشى به الأخير، ومقابل هذه المهمة يحظى القاتلُ بشهر من الحرية، الأمر الذي يسكبُ من جرعات التشويق الناجم من المطاردة والترقب في أرودة النص، وتتضاعف نسبتها مع مضي السرد.
قبل أن يتمَّ التحول من المكان المغلق (السجن) إلى المكان العام، ينضمُ بير غارا غراي إلى شبكة الشخصيات، وحينَ يهم بمغادرة الزنزانة يكتبُ تحت صورة مارلين مونرو "إلى خليفتي هبة من نيكولاس بير غارا غراي" قد أمضى السجين المعروف بمغامراته وسرقاته الشهيرة 5 سنوات قيد الزنزانة، وعاقبتهُ زوجته بعدم زيارته في غضون تلك السنوات القاسية، والغريب في هذا الإطار أنَّ غراي يحترمهُ الجميعُ، بمن فيهم المأمور. فهو شخصية متعددة الأبعاد أُطلقَ عليه لقب البروفيسور والحوار البرقي الذي يدورُ بينه وبين هريوتا يكشفُ عن الوحشة التي تلاحقُ البروفيسور خارج أجواء السجن، إذ يُبلغُ بأنَّ التاكسي مدفوع مسبقاً، وما منه إلا أنَّ يقولَ المشكلة ليست في المال، إنما في غياب العنوان الذي من المفترض أن يعطيه لسائق التاكسي.
هنا تتزاحمُ في العبارةِ طاقاتٍ شعورية من الأسى والحنين والاغتراب، وقد لا يوازيها سوى كلام فرناندس، الذي يقدمُ ساعته لأنخيل سانتياغو، مشيراً إلى أن الساعة تفيدُ فضاءً يضفي معنى إلى كل دقيقة، فيما تدل عقاربُ الساعة على مرور اللاشيء في السجن، لكن بيع سانتياغو لهدية صديقه، إضافة إلى ما يعنيه ذلك من سوء الأحوال المالية، يشيرُ أيضاً إلى الاندماج في الحياة لدرجة تخف وطأة الوقت حتى ينعدمُ الإحساس بها.
إذاً تتواردُ العباراتُ المبلدة بأنفاس وجودية وفلسفية وشعرية في الحوارات المتبادلة بين شخصيات الرواية. طبعاً، إنَّ آلية الحوار توفرُ بيئة مناسبة لتفاعل النص الروائي مع الروافد الفكرية بحيثُ تبدوُ المفردات أكثر عفوية عندما تنطقُ بها الكائنات السردية بعيداً عن الصيغ المُقتحمة.
تنهضُ روايةُ "رقصة النصر" على البنية الحوارية، لذلك لا تضيعُ ملامحُ شخصياتها المتحركة على مرمى عين المتلقي.
الملمح الكرنفالي
تستمدُ رواية "رقصة النصر" خصوصيتها من طابعها الكرنفالي والتجاور بين الخطابات المتنوعة، وتضايف القصص المتعددة في مساقها، وما إنْ يسلك أنخيل سانتياغو طريقه إلى الشارع حتى يلتقي بـ"فيكتوريا" الطالبة التي طُردت من المدرسة وهي شغوفة برقص الباليه، لكن دونها تحديات لتحقيق حلمها بأن تطلق لجسدها حرية الحركة على مسارح العالم. وفي هذا المفصل يمررُ المؤلفُ إشارات حول التحولات السياسية التي شهدها بلده، ولاسيما الانقلاب على سلفادور الليندي وتحول تشيلي إلى ثكنة عسكرية في عهد بينوشيه.
وكان والدُ فيكتوريا راح ضحية للحكم الديكتاتوري، الأمر الذي خلف صدمة عميقة لدى الأم. إذاً، فإنَّ شخصيات أنطونيو سكارميتا تضربُ بجذورها في قاع المُجتمع، وتعاني من القهر والخيانات. فكان بير غارا غراي قد قايض سنوات من عمره في السجن مقابل المكافأة التي ينتظرها من شريكه موناستريو، لكن ما حسبهُ مراهنة رابحة لم يكن سوى سراب.
شخصيات تضربُ بجذورها في قاع المُجتمع
أكثر من ذلك، فقد تعثر في استعادة زوجته وابنه، لا ينفعُ الحبُ لرأب ذات البين. وما يمكنُ توقعه عن بروفيسور بناءً على خيبته بالشريك هو انتهاء دوره في الرواية أو القيام بالثأر غير أنَّ خطة ليرا القزم ستكون بمثابة الممر الذي يعودُ عبرهُ بير غارا غراي إلى مسرح الرواية. ويلعبُ أنخيل دور الوسيط بين الاثنين، ساعياً إلى إقناع بروفيسور بضرورة المشاركة في العملية المصيرية التي تتمثلُ في نهب ثروة كانتيروس التي راكمها من خلال خدمات الأمن السرية ودفاعه عن مصالح رجال الأعمال مقابل الإتاوة، وبذلك يتضاعفُ التوتر في أجواء الرواية ولا يقفلُ أفق التوقع على احتمال واحد.
لا تنتهي وظيفة أنخيل بمحاولة إشراك بروفيسور في الضربة على عجلة الحظ بل يصبحُ داعماً لشخصية فيكتوريا حيثُ يحضرها للامتحان ويختبرُ معلوماتها عن المواد الدراسية، وذلك يكون متزامناً مع تواصل حميمي بين أنخيل سانتياغو وفيكتوريا، ويختتمُ الاستجوابُ بإعلان عن ارتواء الرغبة.
لا يقومُ التواصل بين الاثنين على البُعد العاطفي أو الحسي، بل يتخذُ منحى معرفياً وهذا ما يعبرُ عنه النقاشُ حول المفاهيم الفلسفية إذ تؤمنُ فيكتوريا بالحلول فبرأيها أنَّ الربَّ موجود في كل المكان ويصعبُ على أنخيل استيعاب هذه الآراء. بالمقابل تسترسلُ الطالبةُ في الحديث عن الفلاسفة، وما يمتازُ به الإنسانُ من القدرة على التفكير ومعرفة الذات والسبر في أغوارها بينما لا يعرفُ النهرُ شيئاً عن كينونته، وما تقولهُ فيكتوريا عن إمكانية التفكير في عدم وجود أي شيء، وما تتطلبهُ هذه الفرضية من وجود من يفكرُ عبارةُ عن تناصٍ ضمني مع المبدأ الديكارتي. إذاً يتشعبُ مدار النص وتدورُ مروحتهُ على ما يقعُ ضمن الهموم والتطلعات والأزمات الحياتية. ويتوغلُ الكاتبُ إلى طبقات سحيقة في الكيان الاجتماعي، لافتاً إلى ظاهرة الاستغلال وما يتراكمُ في القاع من السخط المشبوب بالرغبات الغريزية الشرسة، وتقعُ على هذا الجانب المعتم في قاعة السينما، إذ يتحولُ المكان إلى سوق المتعة العابرة.
إذا كانت العلاقة الجسدية بين فكيتوريا وأنخل تعدُ مظهراً من غريزة النمو حسب التعبير الإسبينوزي، فإنَّ ما جربتهُ فيكتوريا في السينما يؤشر إلى السقم الروحي بعدما تخفق في تسديد المبلغ لمعلمة الرقص. فيما تنجحُ الضربة بمشاركة البروفيسور ويتمُ توزيعِ الحصص على المتعاونين في العملية تنطلقُ فيكتوريا بصحبة بير غارا غراي نحو الأرجنتين عبر سلسلة من الجبال الوعرة، وهي تترقبُ انضمام أنخل إلى الركب لكن مارين القاتل يقطعُ عليه الطريق ويطلقُ عليه النار هنا يستدعي المتلقي محتوى المكالمة بين مأمور السجن سانتور وعاملة الاستقبال في الفندق الذي يقيمُ فيه المكلف بقتل أنخل سانتياغو يطلبُ سانتور من ليزا بإبلاغ مارين بأنه تم إعفاؤه من تنفيذ المهمة لكن عاملة الاستقبال تتقاعس في إبلاغ الرسالة.
أخيراً ما يجدرُ بالإشارة إليه أنَّ هذا العمل الروائي يتفاعلُ مع الفنون بأشكالها المتنوعة، ويستضيفُ في أعطافه مقتبسات شعرية ومعلومات تاريخية ما يعنى أنَّ ثمة حشداً من المعطيات المختلفة والثيمات المتعددة، كما أن حُسن توظيف الحوار الوامض يحول النص إلى شاشة السينما والإيماءات إلى لوحات إدوارد هوبر تعمق الوعي بالحزن الكامن في أعماق شخصيات الرواية.
والطريفُ في الأمر أنَّ بابلونيرودا هو الزبون الوحيد لماريو ولولا إمتلاكه للدراجة لخَسِرَ فرصته ولم يصبحْ موزعاً للبريد، وبالتالي كان يستحيلُ إيجاد قناة التواصل مع الشاعر الذي بدتْ قسماته وتصرفاته مثيرة للإهتمام، كما لم يتشجع لإقتناء ديوانٍ لزبونه المقيم في إيسلا نيغرا. هكذا لم يعدْ ماريو مكرهاً على تمثيل دور المريض للهروب من مهنة الصيد. ومن الملاحظ أنَّ أبطال سكارميتا مُغرمون بالسينما من ضمنهم ماريو كما أنَّ الفرجة على الأفلام والأخبار تُصاحبها طقوس إحتفالية إضافة إلى ذلك أن الأماكن التي تتحركُ فيها شخصيات الرواية عبارة عن البيت والحانة ومكتب البريد. ويعتمدُ خطاب الرواية على الحوار والسرد الإخباري فضلاً عن الوصف طبعاَ أنَّ حُسنَ توظيف هذه التقنيات يكسبُ الإنتقال من قسم إلى آخر خفةً ومرونةً.
شطحات الشعر
توحي مفردة العنوان بأنَّ ثمة شخصيتين أساسيتين في العمل وينفردُ الإثنانِ بتقاسم مربعات الرواية مع أنَّ راوي كلي العلم لا يشيرُ إلى غراميات الشاعر لكن يُفهمُ من سياق الكلام المُتبادل بين ماريو ونيرودا بأنَّ ما ينشره الأخير يغذي عاطفة ساعي بريد ويحدو به لمحاكاة الشاعر في إستخدام الإستعارات ويستنكهُ مستوى آخر من مدلول الكلمات.
ينصحُ نيرودا صديقه بالتفكير عندما يمشي لأنَّ الشعر لا ينزلُ على من يتوقف جامداً، وبذلك كلما تقدمَ السردُ يتعمقُ إحساس ساعي بريد بأهمية الشعر إلى أن يتأكدَ من سحره حين يبدأُ بكيل المديحِ لضحكة بياتريث وشعرها ومفاتنها الجسدية وهذا ما يثير غضب أم بياتريث التي تدير حانة المرسي محذرة ابنتها من قوة الكلمات التي توهمُ لنادلة ريفية بأنها أميرة فينسية لذا يهونُ على روسا تحرش سكيرِ ببياتريث على أن يغازلها شاعر بكلمات مُخدرة.
حُسنَ توظيف التقنيات
كما تذكرها بأنَّ الشعراءَ كلهم يفكرونَ على غرار نيرودا الذي قال "أحب حب البحارة الذين يأتون ويذهبون يتركون وعداً ولايرجعون أبدأ"، ومن هنا يكونُ مؤلف "سونيتات الحب" طرفاً في هذه العلاقة الغرامية فمن جهة تريدُ دونيا روسا أن يتكفل الشاعر بإقصاء ساعي البريد من ابنتها ويطالبُ ماريو بدوره مساعدة الشاعر لأنَّه قد ورطهُ في الحب بدواوينه وعلمه في استخدام لسانه في غير إلصاق طوابع البريد.
يدور النقاش بين الشخصيات الثلاث إلى أن يتم إعلان فوز سلفادور الليندي في الإنتخابات ويتزامنُ ذلك الحدثُ مع خوض ماريو مع حبيبته في تجربة حسية عاصفة داخل مستودع الحانة فيما كان زبائن دونيا روسا يحتفلون بنجاح الثورة الديموقراطية.
ما يذكر أنَّ ترابط الحدثين ليس اعتباطاً، إنما مؤشرُ لما يجمعُ بين الثورة والحب من المشتركات العديدة، كما إيراد الأمثال الشعبية على لسان روسا، رداً على الأشعار التي ينطقُ بها ماريو إيماءة لوجود تفاوت في مستويات الوعي بين الشخصيات الروائية لا ينقطعُ ماريو عن مراسلة الشاعر عندما ينتقلُ إلى باريس ويزودُ الأخير ساعي البريد بالموسيقى الفرنسية وتراودُ ماريو رغبة السفر إلى عاصمة النور لكن مدخراته تستنفدُ بما يصرفه على طفله من الأموال، وتشي مطالبُ نيرودا من صديقه بأن يسجلَ له أصوات بيته والأجراس وصوت العصافير بشدة شوقه إلى بلده.
مفصل آخر من الرواية يتناولُ الانقلاب على الرئيس المُنتخب، وما يستتبعُ ذلك من التوتر وعسكرة المجتمع، ويُفضلُ الكاتبُ تقنية الإيحاء على التصريح لبيان عواقب الانقلاب، حيثُ ينتزعُ ساعي البريد صورة ماركس وجيفارا عن جدار مركز البريد، لكن يتركُ صورة الرئيس المنتخب كما هي، وأراد بذلك أن يتحدى الانقلابيين. تتصادفُ لحظة الانقلاب مع ذكرى استقلال تشيلي وترقب ماريو لإعلان الفائز بمسابقة الشعر. وينتهي شريط السردِ بتتبع اللحظات الأخيرة في حياة بابلو نيرودا الذي يحاصر الجنودُ بيته وهو يحتضر.
يشارُ إلى أنَّ البُعد الجمالي لهذا العمل يكمنُ في تفاعله مع النصوص الشعرية وما يحملهُ من نبرات ثورية دون أن تقعَ في مزالق تعبوية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.