إسماعيل.. ذلك الفتى اليافع..
قرةُ عينِ أبيه..
أنجبه الوالد بعد بلوغه الثمانين بست سنوات..
بعد أن تاقت نفسه إلى الولد..
وتشعّبت به سبل الاشتياق إلى صاحبٍ يهوِّن عليه غربة الصحراء..
ورفيقٍ يحمل عن كاهليه قسوة الحياة..
وصديقٍ تتوكأ همومه على فؤاده كعصاه..
وحينما حانت ساعة الحسم لدى الفِتْية..
وبلغ إسماعيل مبلغ الرجال..
وانطلق كالسهم من طفولة فتيَّة إلى مراهقة عنفوانية..
وخطا أولى خطواته الحقيقية في ألفِ ميل الحياة..
كان والده إلى جواره..
يقوِّم المنكسر من فروعه..
ويلتقط المتساقط من ثماره..
ويربّت بيديه اللتين أرهقتهما سبل الحياة..
ويبَّستهما قساوة الأيام..
وملأتهما خبرة وحكمة أثيرة..
على كتفي الغلام الناضج الجسور..
(بلغ معه السعي)..
بلغ عتبةَ السعي (مع) الوالد الرفيق..
على كهولته وكبر سنه واشتعال رأسه شيباً..
تدرّج في مدارج الرجولة وأبوه يرى..
ينظر إليه نظرة الأب الحاني الخبير..
المنتظر بلهفةٍ تلك الساعة التي يمتطي فيها ولده جوادَ الرجولة ليكون إلى جواره..
فيكون جواراً بجوار..
اللحظة التي استعد لها قبلها بسنين من الصحبة والصداقة والمعية..
(بلغ معه السعي)..
حتى إذا حانت تلك اللحظة كان أبوه معه..
يستمع إلى شكاواه وتأوّهاته..
يقيه المشكلات قبل أن يلجها ولده بقدميه العاريتين ثم حينها يبحث عن حل..
بل كان لولده الترس المتصدي لأسهم السوء قبل مروقها من الرميَّة..
(بلغ معه السعي)..
وكأنهما جبلان شامخان صامدان يتصديان لعاصفة قاهرة ما تلبث أن تنقشع غمتها، فلا تفلح سوى في تغبير وجهيهما بذرات التراب الرمادية الخفيفة..
فينفضان الغبار.. ثم يتبادلان نظرة انتشاء النصر..
فيحتضن الكبيرُ صغيرَه احتضان نشوةٍ بالنجاة..
ويحتضن الصغيرُ كبيرَه احتضان التقدير والفخار بالأبوة الفريدة..
(بلغ معه السعي) رسالة طمأنة رفيقة حنونة في غاية الوضوح..
طمأنة على اجتياز مرحلة ناجحة واستقبال مرحلة جديدة (معاً)..
كما نجحنا (معاً) في تخطي العقبة الأولى فسننجح (معاً) في تخطي العقبة الأخرى..
لذا جاءت نتيجة هذه المعية الباهرة: (يا أبتِ افعل ما تؤمر)..
تحققت لدى الولد الصالح غايةُ الثقة فيمن بلغ (معه) السعي..
فيمن تخطى (معه) المراحل؛ الواحدة تلو الأخرى بنجاح في أثر نجاح..
(ستجدني إن شاء الله من الصابرين)..
غاية ما يرجوه منك الولد أن تكون (معه)..
شعوره بالطمأنينة وأنت إلى جواره لا يعدله شعور..
استغراقه في أمان قلبه وسكينة روحه..
فلا يأبه بأزمة..
ولا يلتفت لضيق..
ولا يكترث لصروف الدهر على العائلة..
فأبوه (معه)..
واستغراقك إلى جواره في القلق والأرق..
والاضطراب عليه والقيام على شأنه..
فهو مما يحمد للوالد القريب (معه)..
فلا أسلم لروحه ولا أطيب لقلبه من تلك المعية الآسرة..
وذاك الظهير العتي الساند..
فدعه يبلغ وأنت (معه)..
دعه يتبختر أمام الكون بمعية أبيه..
يستقِ منه القوة والعظمة..
والكبرياء والرجولة..
مهما كنت متواضع القامة..
أو هزيل القيمة..
فأنت في عينيه جبل أشمّ ما دمت (معه)..
فدعه يبلغ وأنت معه..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.