عندما كنت صغيرة وتصحبني أمي للسوق، ثم تتركني بمكان ما جانب البائع وتذهب لشراء بعض المتطلبات وتتأخر قليلاً، أو عندما أستيقظ ولا أجد أمي في البيت، أو أعود من اللعب وأفاجأ بأنها سافرت لجدتي بدوني ودون أن تخبرني، كنت أبكي كثيراً وأتخيل أن شيئاً ما حدث لأمي وأنها لن تعود مرة أخرى!
أما الأسوأ من ذلك فهي ابنة أختي الصغيرة التي كانت ترفض بشدة ترك أمها حتى عند دخول الحمام! وعند النوم يزداد الأمر سوءاً ولا تريد تركها حتى إن تركتها أمها بعد النوم كانت تصرخ إذا استيقظت ولم تجدها بجوارها! واستمر الأمر حتى عندما كبرت وصار عمرها عشر سنوات وأكثر! ترفض الذهاب لأي مكان دون رفقة أمها!
وللأسف فإن التعامل مع "قلق الانفصال" لدى الأطفال كان مرهقاً كثيراً لأختي التي حاولت بشتى السبل علاجه مع ابنتها وعانت كثيراً حتى تخلصت منه البنت تدريجياً، وحال أختي حال الكثير من الأمهات اللواتي ترهقهن تلك التصرفات من أبنائهن الذين يعانون من "قلق الانفصال".
فما هو قلق الانفصال؟ وما أسبابه؟ متى يمكن تشخيصه؟ وكيف نستدل عليه؟ وكيف نتعامل معه؟
ما هو قلق الانفصال؟
قلق الانفصال هو شعور الطفل بعدم الأمان والخوف الكبير عندما تتركه أمه أو أبوه أو أحد مقدمي الرعاية له حتى إن كان لمدة ربع أو نصف الساعة، ويتخيل أنهم سيذهبون ولن يعودوا مرة أخرى، وعادة ما يصيب الأطفال من عمر ستة أشهر حتى ثلاث سنوات؛ مما يصل بالطفل إلى التعلق غير الآمن بمقدمي الرعاية له، كما يؤثر عليه بشكل سلبي ويشعره بخوف كبير بدرجة عالية.
كيف أعرف أن طفلي يعاني من قلق الانفصال؟
لمعرفة ما إذا كان طفلك يعاني من قلق الانفصال أم لا فيجب أن تظهر عليه على الأقل ٣ من ٨ أعراض سنذكرهم وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي DSM5، وهي كالتالي:
١-إذا كان طفلك يعاني من اضطراب مفرط في المشاعر، كأن يبكي بشكل غير طبيعي عندما يذهب للمدرسة.
٢– أو يعاني من التفكير الزائد والشعور بالقلق والخوف من الانفصال عن والديه أو مقدمي الرعاية له أو يخشى فقدانهم في حادث أو مرض وذلك بشكل مفرط وزائد عن الحد الطبيعي.
٣– كما قد تظهر لديه أعراض خوف على نفسه، كأن يشعر الطفل أنه إذا ذهب للمدرسة فإن والديه سيتركانه هناك للأبد.
٤– أن يرفض الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى، وذلك كي لا يبتعد عن الشخص المتعلق به في البيت.
٥– الخوف من الجلوس في البيت منفرداً دون رفقة الشخص المتعلق به الطفل، وذلك كأن يرفض اللعب مع الأطفال من نفس عمره عند بيت جده مثلاً في غرفة أو مكان آخر غير الذي تجلس فيه والدته، ويصر -بشكل مرَضي- على أن ترافقه والدته مكان اللعب أو جلوسه.
٦– يرفض النوم إلا برفقة الشخص المتعلق به الطفل.
٧– يرى كوابيس مزعجة أثناء نومه ويكون موضوعها أنه سيفقد الشخص المتعلق به.
٨– يبدأ المعاناة وتظهر عليه أعراض جسدية، كأن يصيب الطفل (المغص) قبل الذهاب للمدرسة، وإن ذهب قد تتصل المدرسة بوالدته لكي تأتي لأخذه لأنه مريض، وعند الذهاب لطبيب الأطفال لا يكون هناك أي دلالة جسدية للمرض، والخلفية تكون نفسية فقط، أما في الكبار فيكون على هيئة (صداع) وليس له أي سبب جسدي.
لماذا يشعر الطفل بقلق الانفصال؟
ليس هناك سبب مباشر يمكن تحديده للإصابة بقلق الانفصال، ولكن هناك عوامل متعددة تؤدي إلى تعرض الطفل للإصابة بقلق الانفصال منها:
الوراثة وهي أشهر الأسباب، وذلك عند الرجوع للسجل العائلي المرضي للطفل فنجد حالة مشابهة، فيصبح الطفل أكثر عرضة للإصابة في تلك الحالة.
كما يعد فقر البيئة عاملاً آخر، فقر البيئة الاجتماعية والرياضية؛ مثل أن تنغلق الأسرة على نفسها ولا تختلط بأسر أخرى في نفس عمر الطفل أو تشارك في أنشطة رياضية ليمارسها الطفل مع فريق آخر.
وهناك أيضاً الحماية الزائدة من الأهل للطفل وعدم تركه يتحمل ولو جزءاً بسيطاً من المسؤولية المناسبة لسنه مما يجعله شخصاً اعتمادياً، إضافة لذلك فهناك سبب مهم جداً قد لا ينتبه له الأهل ومدى وقع ضرره على الطفل وهو صراعات ومشاجرات الوالدين أمام الطفل باستمرار؛ مما يهدد أمن الطفل ويجعله يشعر بالخوف ويصيبه بقلق الانفصال.
كما أن تفاوت فترات البُعد والقرب من الطفل يصيبه بقلق الانفصال، وذلك بأن تقوم الأم بالتقرب من الطفل لفترة ثم البعد عنه فترة أخرى سواء كان ذلك بقصد أو غير قصد أو أياً كان السبب فإنه يؤثر في إصابة الطفل بهذا النوع من القلق.
إضافة لذلك فإن خروج الوالدين من المنزل وأن يتركا الطفل دون إخباره ثم يفاجأ بعدها بعدم وجودهما فهو من أهم الأسباب التي تصيب الطفل بقلق الانفصال، رغم أنه قد يبدو سبباً غير متوقع وبسيطاً ولا ينتبه له الأهل، إلا أنه جد خطير!
متى يتم تشخيص الطفل بقلق الانفصال؟
قد يتم تشخيص الطفل من عمر ٥ سنوات وحتى ١٨ سنة بقلق الانفصال، وقد يظهر لدى عمر الثلاث سنوات لكن لا يمكن التشخيص قبل عمر الخامسة، لأنه من الطبيعي أن يشعر الطفل حتى عمر ثلاث سنوات بالقلق عند الانفصال عن والديه أو مقدمي الرعاية له، فهذا يمكن قبوله، لكن ليتم تشخيص الطفل بقلق الانفصال فإن الأمر يتوقف على عدد الأعراض التي تظهر عليه وأيضاً مدة حدوث تلك الأعراض.
فإن كان الطفل صغيراً وكانت لديه ثلاثة أعراض فأكثر تشير إلى قلق الانفصال واستمرت تلك الأعراض مدة أربعة أسابيع يعاني من تلك المشكلة، فيشخص على أنه يعاني من قلق الانفصال، أما إن كان الطفل كبيراً فيجب أن تستمر معه تلك الأعراض لمدة ستة شهور بشكل متواصل، كما يجب الانتباه إلى ما إذا كان هذا القلق يعوق حياته الطبيعية (دراسياً، اجتماعياً، وظيفياً) كأن يرفض الذهاب للمدرسة كي لا ينفصل عن أمه مثلاً، فكل هذا يدل على إصابته بقلق الانفصال وذلك وفقاً للدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات النفسية DSM5 .
كيف نتعامل مع قلق الانفصال لدى الأطفال؟
هناك علاج أسرى، سلوكي، ودوائي يمكن تطبيقه لعلاج قلق الانفصال كالتالي:
العلاج الأسري: لا بد أن نخلق للطفل علاقات وروابط بالآخرين يتفاعل معهم وذلك بشكل تدريجي غير ملحّ، ودون التركيز على مشكلة الطفل كي لا تتفاقم أكثر، كما يجب الاشتراك له في أنشطة رياضية يمارسها، وتركه في بيئة يشعر فيها بالأمان كجدته مثلاً، والانسحاب من الوجود معه تدريجياً بعض الأحيان، كما يجب تعليمه الثقة بنفسه وتعزيزها فيه وجعله يرى أنه يمكنه الاعتماد على نفسه ويؤدي بعض المهام المناسبة لسنه بعيداً عن الأشخاص المتعلق بهم.
العلاج السلوكي: يحتاج الطفل إلى جلسات تعديل سلوك وإرشاد نفسي لمدة ثلاثة أشهر على الأقل بمعدل جلسة أسبوعياً، وذلك حتى يتم تعديل مفاهيم وأفكار الطفل مما ينعكس على سلوكه بشكل فعال وإيجابي.
العلاج الدوائي: قد نحتاج إليه إذا لم تؤتِ جلسات التعديل السلوكي والإرشاد النفسي ثمارها على المدى الطويل، فحينها نحتاج إلى تعديل الجزئية الكيميائية لديه وذلك بإعطاء علاجات مهدئة تهدئ من إفراز بعض الهرمونات لديه وذلك تحت إشراف طبي متخصص.
الوقاية خير من العلاج
أولاً: لابد أن يقوم الوالدان بحل الخلافات التي بينهما دون لفت انتباه الطفل لها والامتناع عن النزاع أمامه تماماً.
ثانياً: يجب على الوالدين أن يشعرا طفلهما بالأمان وأنهما لن يتركاه ويبتعدا عنه دون إخباره مسبقاً، كما يمكنكما مناقشة طفلكما فيما ستفعلانه لاحقاً بعد العودة مثل اصطحابه إلى التنزه، فذلك يساعد في تبديد مخاوفه ويعلمه أن حالات الانفصال هذه مؤقتة وليست دائمة.
ثالثاً: التحلّي بالاعتدال والتوازن في حماية الطفل وتحميله جزءاً من المسؤولية الملائمة لعمره حتى يكون شخصاً مسؤولاً لا اعتمادياً.
رابعاً: علم طفلك كيف يتعامل مع مشاعره بدون مساعدة أحد، وذلك بشكل متدرج حتى يصل إلى الاستقلالية، بدلاً من شعورك بالذنب عندما تدعوك الحاجة لتركه لفترة قصيرة.
خامساً: إياك أن تصرخ على طفلك عندما يشعر بالخوف من فراقك ويبكي، أو تتهكم وتسخر من مشاعره، أو تتهمه بالضعف والجبن وتوبخه، فذلك يجعله ضعيف الشخصية وخجلاً من مشاعره التي سيكبتها فيما بعد وقد لا يعرف تفريغها بشكل صحيح مما يدخله في مشكلات نفسية وسلوكية أكثر تطوراً، كما سيبني جداراً ثلجياً بينكما ربما لن تستطيع كسره بعد ذلك بسهولة، فاحذر واحترم مشاعر طفلك وعلّمه كيف يفرغها ووجّهه بدلاً من ذلك للسلوك الصحيح.
سادساً: درّب طفلك على الفراق بشكل تدريجي، فيمكنك البدء بفترات قصيرة كأن تتركه مع صديق أو قريب لك أثناء قيامك بمهمة سريعة، ومن ثم تراقب كيف تسير الأمور، وتستمر بالتدرج في ذلك وصولاً لفترات أطول حتى يتعود الطفل ببطء على الفراق الطبيعي.
سابعاً: ساعد طفلك على الاسترخاء، فإذا كانت لديه لعبة يفضلها مثلاً وتشعره بالراحة والطمأنينة فاسمح له أن يستخدمها عند الشعور بالضيق، وإن لم يكن له لعبة فاجعل له لعبة أو أداة تساعده على تخفيف التوتر والضيق؛ مثل الألعاب الرخوة وكرة التوتر مما يساعده على تهدئة نفسه.
ثامناً: تدرّج مع طفلك في تعريفه بأي مقدم رعاية جديد، أو أي شخص أو مكان جديد، فرتّب بعض اللقاءات القصيرة في البداية حتى تشعر أنه بدأ يتعود على هذا الشخص أو المكان الخاص بمقدمي الرعاية ومؤسساتها كالحضانة والمدرسة وجليسة الأطفال وذلك حتى يتعود الطفل عليهم ولا تحدث له أي أضرار نفسية أو جسدية عندما يُترك وحده معهم.
تاسعاً: اجعل لحظات وداعك للطفل سريعة وإيجابية، فلحظات الوداع وعباراته صعبة، وإن كانت صعبة على الكبار، فهي أصعب على الصغار؛ لذا يجب التحلّي بالهدوء والإيجابية والتبسّم عند وداع الطفل وإخباره بالعودة لملاقاته قريباً، ويجب عدم إطالة وقت الوداع، فهذا يبث في نفس الطفل الأمان والأمل في عودة لقائه من جديد وأيضاً عدم الخوف من تركه وحيداً.
وختاماً، فإن الأمر بسيط وغير معقد ويمكن علاجه على مستوى الأسرة، لكنه يحتاج إلى مجهود وصبر وتفهم، إضافة إلى خبرة تكتسبها، لكن إذا وجدت الأمر صعباً أن تتعامل معه بمفردك، فيمكنك اللجوء إلى متخصص يساعدك على حل المشكلة… ودُمتم سالمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.