لا يوجد من بين كبار طاقم إدارة بايدن شخص أكثر دراية ببوتين من رئيس وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز، ولا ترتبط تلك المعرفة بطبيعة المنصب الذي يشغله حالياً فقط، إنما تمتد إلى معرفته الشخصية ببوتين ويلتسين منذ أن خدم كثالث أرفع دبلوماسي في السفارة الأمريكية في موسكو في منتصف التسعينيات لمدة سنتين، قبل أن يعود لاحقاً كسفير لواشنطن في موسكو في عامي 2005 و2006، ثم توليه منصب نائب وزير الخارجية الأمريكي حتى عام 2014، حيث التقى مع بوتين العديد من المرات منذ ظهور الأخير في الكرملين عام 1999.
بيرنز الذي نشر مذكراته باللغة الإنجليزية في كتاب صدر عام 2019 بعنوان "القناة الخلفية"، تطرق إلى تقييماته لشخصية بوتين، والأحداث التي شكلت نظرته السلبية تجاه الغرب، وأبرز التحولات في مسيرة علاقة بوتين بالغرب.
شخصية بوتين
يروي بيرنز أن بوتين المولود عام 1952 هو الطفل الوحيد الذي تبقى على قيد الحياة لوالديه اللذين تأثرا بقسوة أحداث الحرب العالمية الثانية، حيث أصيب والد بوتين بجروح بالغة خلال معركة في الدفاع عن لينينغراد، فيما أوشكت والدته على الموت جوعاً أثناء حصار الجيش الألماني للمدينة، وهو ما ساهم في تشكيل رؤية بوتين للعالم الذي لا يحترم سوى الأقوياء، فتعلم منذ صغره لعبة الجودو للدفاع عن نفسه وهزيمة منافسيه.
درس بوتين القانون في الجامعة ثم عمل في جهاز الاستخبارات الكي جي بي قبل أن يستقيل منه عام 1991 مع تفكك الاتحاد السوفيتي ليتفرغ للعمل السياسي، وتمكن عبر مجموعة من الداعمين في مدينة سانت بطرسبرغ من صعود سلم الترقي حتى أصبح ضمن الدائرة المقربة من الرئيس السابق يلتسين قبل أن يحل محله في عام 1999.
بحسب بيرنز يتسم بوتين بعدة سمات، من أبرزها الاجتهاد، وشغفه بالسيطرة النابع من عدم ثقته في معظم من حوله، والقدرة على قراءة خصومه واستغلال نقاط ضعفهم، والقناعة بقدرته على اللعب بقوة باستخدام أوراق ضعيفة، والهوس بالنظام، واستعادة سلطة الدولة الروسية على السياسة والإعلام والمجتمع المدني.
أحداث شكلت رؤية بوتين
يؤكد بيرنز أن بوتين تولى الحكم ولديه شعور بالإذلال والفخر الجريح وتراكم المظالم وانعدام الثقة مما فعله الغرب مع روسيا في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، إذ تعهد وزير الخارجية الأمريكي بيكر للرئيس الروسي جورباتشوف في عام 1990 بأنه في حال سمحت موسكو بتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية في دولة واحدة تنضم للناتو، فلن يتوسع الناتو بوصة واحدة إلى الشرق من حدود ألمانيا الموحدة، ولكن لاحقاً توسع الناتو وصولاً إلى دول البلطيق ورومانيا، بل وبدأ الحديث عن ضم جورجيا وأوكرانيا؛ ما اعتُبر تجاوزاً للخطوط الحمراء لدى موسكو، وجعل بوتين وجيله يشعرون بخيانة أمريكا لوعودها، وأنها تستغل ضعف روسيا لتقويض مصالحها الجوهرية.
يقول بيرنز: (أثناء خدمتي في السفارة في موسكو في منتصف التسعينيات، بدا لي أن توسيع الناتو سابق لأوانه في أحسن الأحوال، واستفزازياً بلا داعٍ في أسوأ الأحوال، ويتجاهل المخاوف التاريخية لروسيا)، وفي ظل ذلك عمل بوتين على استعادة عظمة روسيا.
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول، ليكون بوتين أول زعيم أجنبي يتصل ببوش، ويعرض استعداد بلاده للشراكة مع أمريكا في الحرب العالمية على الإرهاب، ودعم واشنطن في حربها ضد القاعدة وطالبان في أفغانستان مقابل الدعم الأمريكي له في حرب الشيشان، وعدم توسيع الناتو خارج دول البلطيق، وعدم التدخل في السياسة الداخلية لروسيا.
وبحسب بيرنز فقد وفّى بوتين بالتزاماته في الصفقة، وسهل مرور الجيش الأمريكي إلى أفغانستان عبر دول آسيا الوسطى، لكن جاءت أحداث مدرسة بيسلان في سبتمبر/أيلول 2004 لتمثل نقطة تحول لدى بوتين، فخلالها احتجز مسلحون شيشان عدداً من التلاميذ والمدرسين الروس، ثم قُتل من الرهائن 300 شخص خلال محاولة القوات الروسية اقتحام المدرسة، وعندئذ أصدر الرئيس الأمريكي بوش تحذيراً من المبالغة في رد الفعل الروسي على الحادث، ودعا لنزع فتيل التوتر، وهو ما اعتبره بوتين خيانة جديدة من واشنطن، ثم جاءت الثورة البرتقالية في أوكرانيا في العام نفسه عقب ثورة أخرى في جورجيا، لترسخ لدى بوتين نظرته بأن واشنطن تدير مؤامرة متقنة لتقويض المصالح الروسية عبر استخدام الديموقراطية كحصان طروادة لتعزيز المصالح الجيوسياسية الأمريكية على حساب روسيا.
وبحسب بيرنز، اقتنع بوتين بأن النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة يقيد المصالح المشروعة لروسيا، وأن تقويض هذا النظام هو المفتاح للحفاظ على مساحة النفوذ الروسي وتوسيعه، وبدأ يعمل على استعادة السيطرة على الموارد الطبيعية لروسيا لدعم النمو الاقتصادي، وإعادة بناء الامتيازات الروسية كقوة عظمى، وإعادة تأكيد حق روسيا في تأمين مجال نفوذ في جوارها.
ومن ثم رد بوتين على محاولة الرئيس الجورجي استعادة أوستيا الجنوبية بشن حرب كاد يحتل فيها جورجيا، بل وبحسب وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت جيتس في مذكراته، فعندما اتصل (الرئيس الجورجي ساكشفيلي ببوتين طالباً منه إلغاء اعتراف روسيا بانفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، ومحذراً من أن هناك تصريحات غربية ترفض ذلك الاعتراف، فقد استخدم بوتين لغة سوقية للغاية لإخبار ساكشفيلي أين يمكنه وضع تصريحات الغرب). وبحسب بيرنز قال بوتين أيضاً لساكشفيلي: (يمكنك التمتع بوحدة أراضيك، أو يمكنك الحصول على عضوية في الناتو، لكن لا يمكنك الحصول على كليهما).
وكذلك نظر بوتين للربيع العربي على أنه مؤامرة أمريكية، وبالأخص للتخلص من القذافي والأسد وعلي عبد الله صالح، وأصبح بوتين أكثر شكاً في الغرب، ومنح حق اللجوء في عام 2013 لإدوارد سنودن الذي وقف خلف أكبر تسريب للوثائق من وكالة الأمن القومي الأمريكي، وهو ما أدى إلى إلغاء القمة الثنائية بين بوتين وأوباما على هامش اجتماع مجموعة العشرين، ثم جاء فرار الرئيس الأوكراني الموالي لموسكو عام 2014 على موقع احتجاجات شعبية ليبرهن لبوتين وفق تصوره بأن واشنطن قررت أن تلعب بالنار معه، فتدخل عسكرياً للسيطرة على شبه جزيرة القرم، وشرق أوكرانيا، وبدأ يلقي بثقله في مناطق بعيدة عن روسيا لتوسيع مساحة نفوذها، فتدخل عسكرياً في سوريا عام 2015، وتلاعب بالانتخابات الأمريكية في عام 2016 بهدف دعم ترامب ضد هيلاري كلينتون التي اتهمهما بوتين سابقاً بالتدخل في الشأن الروسي عقب انتقادها الإجراءات التي شابت الانتخابات الروسية عام 2012 خلال عملها وزيرة للخارجية، ووقتها بث التلفزيون الروسي تسجيلاً مسرباً للقاء بيرنز رفقة السفير الأمريكي ماكفول في موسكو مع بعض المعارضين الروس، معتبراً أن الاجتماع مخصص لتلقي المعارضين الروس تعليمات من بيرنز وماكفول.
بحسب بيرنز، لم تراع واشنطن رفض روسيا لضم أوكرانيا للناتو، وهو ما جعلها القضية الأكثر تفجيراً للعلاقات الروسية الغربية. وهو ما قاد إلى الحرب الحالية التي نتجت عن مراكمة الذئب الروسي لما اعتبره مظالم غربية متراكمة على مر السنين، وعدم مبالاة بمصالحه التي قرر أن يدافع عنها بشراسة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.