يُنقل عن باولو كويلو قوله: "ابحث عن الفرص التي تحقق أهدافك فإن لم تجدها فاصنعها"، في بعض الأحيان تمر الفرص على الدول كما تمر على الإنسان دون أن تثير فيها الحركية لاقتناصها أو الاستفادة منها، كما قد لا تتكرر الفرص في حياة الإنسان مرات، فإنها كذلك قد لا تتكرر في حياة الدول مرات.
وقد سيق للجزائر فرصة ذهبية سنة 2009 لتغير مسارها الاقتصادي بشكل كبير، وذلك بالاستفادة من الأزمة العالمية الاقتصادية الكبرى التي كانت تعصف بالعالم، لكن النظام السياسي حينها لم يهتم باتخاذ تلك الخطوات، وضيَّع على الجزائر فرصة ذهبية، ومن ألطاف الله بالجزائر أنّ تأتي فرصة جديدة للجزائر بسبب مخلفات الحرب الروسية الأوكرانية، نعم صدقت العرب عندما قالت إنَّ مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد أدت الأزمة لدخول أوروبا في أزمة غاز قد تطول بسبب اعتماداتها الكبرى على الغاز الروسي. نعم قد لا يفهم الأمر من أوَّل نظرة أنه قد يكون لصالح الجزائر على المدى المتوسط والبعيد، لكنه بشرط أن يُستغل بطريقة ذكية، قد تكون فرصة عظيمة لخطوات ستأخذ الجزائر إلى مراحل أخرى.
قد يفهم البعض أن المقصود من كلامي هو زيادة ضخ الغاز باتجاه أوروبا، وهو أمر آني، حتَّى لو فعلته الجزائر فقد لا يزيد المداخيل، لكنه سيبقى بشكل آني وقد لا تنتقل تأثيراته إلى مناحٍ أخرى. كما أنه يجب أن نعلم كجزائريين أنَّ الجزائر لا تستطيع باحتياطياتها الحالية وبمستوى الاستهلاك المحلي تغطية حاجيات أوروبا السنوية التي تتجاوز (100) مليار متر مكعب، وقدرتها الإنتاجية لا يمكنها أن تتجاوز 10 مليارات متر مكعب سنوياً، فما هو الأمر الذي أرمي إليه؟!
بصراحة إن بناء واستغلال الفرصة في الحالة الجزائرية يحتاج إلى مشروع ورؤية محددة تهدف في خطواتها الأولى إلى توطين أكبر قدر ممكن من الصناعات الثقيلة في الجزائر، ستقول لي كيف ذلك وهل ستغيب مثل هذه الفكرة عن صانع القرار! في البداية اسمح لي بأنّ أقرّ لك بأنّه لا يمكنني أن أتحدث عن مستويات التفكير الاستراتيجي لدى صانع القرار في الجزائر، لكن ما يمكن أن نفكر فيه هو شكل الانطلاق. من أين وكيف نستفيد من الوضع الحالي؟ وكيف سنصل للصناعات الثقيلة التي تتحدث عنها؟
بنظرة سريعة للمخرجات الأولية والانعكاسات المباشرة على نقص الإمدادات الروسية للغاز نجد أنّ العديد من الشركات الأوروبية خاصة منها الألمانية تعاني بشكل حاد جداً من ارتفاع أسعار الطاقة وتذبذبها، ما يهدد وجودها تماماً، وعدد من الشركات التي تشتغل في صهر المعادن أو الزجاج أو الألمنيوم على سبيل المثال لا يمكنها بأي حال تقليل استخدامها للغاز الطبيعي؛ لأنها بنيت بشكل يعتمد في الأساس على الغاز الطبيعي بديلاً عن الطاقة النووية، سواء في إنتاج الطاقة أو في إنتاج الكهرباء، الأمر الذي جعل هذه الشركات تعلن عدم قبولها لقرارات الحكومة الألمانية بتخفيض استخدام الغاز تحسباً للشتاء، لأنّ ذلك يعني خسارة مضاعفة لهذه الشركات، فهي لا تتحمل توقيف عملية الانصهار الضروري للمواد الأساسية التي تفرضها عليها عملية التصنيع من جهة ومن جهة أخرى لالتزامها بعقود كبرى عليها الإيفاء بها.
وهي من جهة ثالثة أصبحت تخشى عملية المنافسة التي أصبحت أصعب عليها؛ لأن منافسيها من الشركات الفرنسية أو الصينية أو حتى الأمريكية التي تشتغل في المجال نفسه لا تعاني مثلما تعانيه هذه الشركات من تذبذب الغاز المتوفر بالنسبة للصين، والطاقة النووية التي تعتمدها الشركات الفرنسية، أو في حالات أخرى ضمان وجود غاز الشمال بالنسبة لفرنسا، الأمر الذي يجعل أسعار المواد المنتجة في ألمانيا ترتفع ارتفاعاً كبيراً مقارنة بنظيراتها في الدول الأخرى، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى عدم مقدرة هذه الشركات على منافسة نظيراتها الفرنسية أو الصينية أو الأمريكية، هذا الأمر أدى حسب الأخبار التي تداولتها المجلات العالمية إلى إعلان عدد من الشركات الألمانية (للمثال لا الحصر) نقل نشاطاتها الخاصة بالتوسع التي كان يفترض أن تكون في ألمانيا إلى خارج ألمانيا باتجاه تركيا وسنغافورة ودول أخرى لها قدرة على توفير الغاز والطاقة بأسعار أقل من الموجودة في ألمانيا، وتضمن استمرارها، وهنا تكمن الفرصة الجزائرية، فالجزائر تمتلك الطاقة الشبابية، بمعنى اليد العاملة، كما تمتلك الطاقات الباطنية وليست بعيدة جغرافياً عن أوروبا، وأكثر مِن كلّ هذا لها احتياطيات صرف يمكن أن تعينها في خلق شراكات على المدى المتوسط والطويل مع هذه الشركات.
وأن تعرض نفسها كبديل أكثر جاذبية، فأسعار الغاز التي ستدفعها هذه الشركات ستكون أرخص مما تدفعه في أوروبا، وفي الوقت نفسه ستدر ربحاً أكبر للدولة على مستوى البيع مقارنة بنقله خام إلى أوروبا، كما أن تكلفة الغاز ستكون أقل على الجزائر من عملية التصدير المباشر، بمعنى ستستفيد الدولة من وجود شركات كبرى في أقاليمها، كما ستستفيد من وجود عقود بيع طويلة الأمد مع هذه الشركات، كما أنها ستستفيد من ضرائب تصدير منتجات هذه الشركات، وهذه الشركات ستستفيد بدورها من سعر أرخص للغاز واستمرار التدفق؛ ما يؤدي إلى استقرار أسعارها وتقوية مركزها في سوق المنافسة، كما أنها ستجد اليد العاملة الرخيصة والأقل كلفة.. الآن ستقول كل شيء يبدو سهلاً فأين الخلل؟ لم لا نقوم بذلك؟!
أقرّ مرة أخرى أنّ التفاصيل قد تغيب عنا، ولعل صانع القرار يقوم بخطوات في هذا الباب، لكن استغلال الفرص يحتاج إلى السرعة في التخطيط والتنفيذ، وبدل أن نندب حظنا مرَّة أخرى لا بد أن تقوم الحكومة بتشكيل لجان (في الكثير من الدول، هذا عمل المراكز البحثية) مهمتها الأساسية حالياً وضع مخطط بأسماء شركات تأذت مِن نقص الطاقة، وتبحث عن بدائل خارج الاتحاد الأوروبي. ثم بعد ذلك وجب أن تقدم هذه اللجان اقتراحات ينبني عليها اختيار مجموعة من الشركات في مجالات مختلفة، لبدء التفاوض معها حول شراكات تضمن للجزائر والأطراف الأخرى الدخول في شراكات رابح رابح. الوقت يجري بسرعة رهيبة وكل كيان ومؤسسة في العالم ودولة ستغترف من الوضع القائم وتستفيد منه بقدر أداة الإدراك في مكنتها المعرفية.
أو بلغة أخرى لكل دولة مخابر تفكير يجب أن تجتهد في وضع تصور للمستقبل القريب والبعيد، وكل دولة ستستفيد بقدر مستوى التفكير والاقتراح لدى هذه المراكز، كلما كانت أكثر مرونة وسرعة وقوة اقتراح، كانت مفتاحاً لاستغلال الفرص وتحقيق المطلوب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.