يذكرني "فيلم أبو صدام" بالمرة الأولى التي شاهدتُ فيها الفيلم الأمريكي من الخمسينات "اثنا عشر رجلاً غاضباً- 12 angry men"، والذي لا يروق للكثير من المشاهدين، لكونه يقع في غرفة واحدة فقط، هي غرفة هيئة المحلفين، وتدور أحداث الفيلم حول اثني عشر رجلاً يتناقشون حول مصير شاب متهم بقتل أبيه. وطوال الفيلم نحن لا نخرج من الغرفة، ولا نسمع سوى آراء هؤلاء الرجال حول كون هذا المتهم جانياً أم بريئاً؟ ولا نرى سوى بذلات وأجساد متعرّقة بغزارة ودخان سجائر يملأ المكان.
وفي فيلم أبو صدام نحن لا نخرج من عربة التريللا سوى لدقائق معدودة، ثم نعود إليها مجدداً، لا نسمع سوى صوت أبو صدام الخشن وهو يُجري مكالمات عديدة مع رب عمله أو زوجته أو صهره، وصوت حسن التباع الذي يحاول إخراج أبو صدام من الصمت الذي يدخل فيه بعد كل مكالمة. ولا نرى سوى جسد أبو صدام والطريق المتسع أمامه، نرى "ملك الطريق" يلتهم الكادر بجثته الضخمة، ويلتهم الطريق بساعديه المرتكزتين على عجلة القيادة.
هل فيلم أبو صدام فيلم مقاولات؟
لقد قرأت الكثير من الآراء حول فيلم أبو صدام، خصوصاً بعد أن عُرض أخيراً على منصة شاهد vip بعد فترة عرضه بالسينمات، وظهوره الأول في مهرجان القاهرة السينمائي. الفيلم من إخراج وقصة نادين خان وسيناريو وحوار محمود عزت.
وما بين مؤيد ومعارض شاهدت الفيلم الذي تدور أحداثه حول سائق التريللا الغاضب ضخم الجثة.. وفقط. نعم ساعة ونصف الساعة هي مدة عرض الفيلم، نحن لا نفعل شيئاً سوى مصاحبة سائق النقل الغاضب (محمد ممدوح)، وتبّاعه (أحمد داش) في يوم عادي.
لذا فأنا أزعم أنه لا يصح إطلاق لقب فيلم مقاولات على فيلم أبو صدام، ولا أتفق مع من يزعمون أن نادين خان كانت تركز أثناء إخراج الفيلم على شباك التذاكر، أو تحلم بالإيرادات؛ لأن هذا الفيلم ببساطة يفتقد لكل المقومات التي قد تجعل منه فيلم شباك تذاكر. فلا توجد قصة حب ملتهبة، ولا دراما تستدرج صاحبها للبكاء، ولا مواقف مضحكة تجعل قاعة السينما تضج بالقهقهات، بل إنه واحد من الأفلام التي تبدو للآخرين ذات إيقاع رتيب.
ولذا فقد تكرر كثيراً جداً رأي "هي فين القصة؟"، لأن البطل في هذا الفيلم هو الحوار، لا القصة، مثله مثل "اثنا عشر رجلاً غاضباً" تماماً، فيلم لا طريقة للاستمتاع به سوى عبر التأمل في الحوار، والتركيز على انفعالات الشخصيات.
دراسة شخصية مكثفة
في الفيلم نحن نراقب معاناة المرأة العربية، بسبب بعض الرجال المتمسكين بالرغبة في عدم التفاهم، والرغبة في فرض القوة، لكن نادين خان ناقشت الأمر بطريقة عكسية، فبدلاً من تركيز الصورة على الأضرار الواقعة على المرأة بسبب النزعة الذكورية، نلف الكاميرا لنسلط الضوء على صاحب الأمر، الناهي والآمر، ونرى ما يمكن أن تفعله الذكورية السامة في الرجل.
"سعيد"، الشهير بأبو صدام، والذي يلقب نفسه بملك الطريق هو تجسيد حيّ للنزعة الذكورية السامة، سي سيد خرج من بين كادرات بين القصرين، وتخبطت به الدنيا حتى أصبح سائق نقل، طوال الطريق إلى مدينة العلمين النائية نشاهد صراعاته لإثبات هيمنته، بفرض السلطة على زوجته ومنعها من حضور فرح ابنة عمتها.
وبالشجار مع زملائه من سائقي النقل، ثم بمشاكسة أصحاب العربات الملاكي السائرين بجواره كالنمل على الطريق، وما دام هو في كابينة النقل على كرسي السائق فهو كالملك على عرشه، لكن ماذا يحدث لو نزل عنه؟
تتجلى معاناة الشخص الذكوري، وخصوصاً في قصة فيلم أبو صدام حين ينزل الرجل عن عرشه. فحين يجلس إلى جوار عم زوجته يرضخ لأوامره، بعد أن أبلغت عنه بأنه قام بضربها، فيتصل بها ويخبرها بأنها يمكنها الذهاب، لكن بعد تهديد بالإهانة والضرب حين العودة، حتى تطعن في رجولته في نهاية المكالمة بسبب هذا التهديد، لعدم قدرته على الإنجاب، وتعاليه على تلبية أوامر الطبيب من فحوصات وغيرها.
وحين يقرر أن ينفرد ببائعة الهوى في كابينة السيارة ليمارس معها الجنس ينتظر منها إطراءً وتفخيماً، لكنها ترد عليه بالسخرية والشخط والنطر، لعدم قدرته على تلبية احتياجاتها، ثم تنتهي المشادة بضربة على رأسه.
وحين يتم إيقافه في لجنة على الطريق، وينزل بشجاعة كون رخصته سارية، وظنه بأنه لم يرتكب أي خطأ، ثم يُفاجَأ بأنه ممنوع من السير، ومطلوب إيقافه بسبب فتاة صاحبة ملاكي. في كل من النقاط الثلاث للتوقف أثناء الطريق، يتجلى أمامنا مدى هشاشة وضعف هذا الذي يسبق صوتُه العالي عقلَه وتسبق يدُه لسانَه.
شعور الاستحقاق والرغبة في السيطرة
أعجبني وجود عنصر آخر مزاحم لأبو صدام في حكاياته، وهو حسن التباع، لأنه تجسيد آخر حي على بداية تكوين الشخص المهيمن، بدءاً من الاستحقاق والظن بأن كل شيء متاح له، ثم القبول بالإهانة إن كان ذلك سيؤدي إلى الحصول على المنزلة نفسها في المستقبل. فرغبة حسن في سرقة العهدة هي في نظري رغبة في سرقة الأضواء والمنزلة، وحثه المستمر لأبو صدام على سرد بطولاته المثيرة مع النساء هو كذلك استحقاق بأن عليه أن يعلم ما حدث معه من أمجاد، أو ربما الرغبة في تخيل المجد الذي سيحل عليه بمجرد أن يجلس على كرسي الملك.
الموسيقى في فيلم أبو صدام وطريقة أخذ الكادرات والتصوير المتنوعة في بداية الفيلم، التي تُترجم لسيطرة أبو صدام على المشهد، ثم انحساره في منتصف الفيلم لنصف الكادر فقط، بينما تزاحمه عناصر أخرى مثل بائعة الهوى وحسن، ثم اختفاؤه وذوبانه التام في الكادر كنقطة في محيط دلالة على الجوهر الحقيقي لهذه القشرة الغاضبة المزيفة.. مجرد نقطة. هذه العناصر كان لها عامل كبير في ظهور الفيلم بمستوى مقبول وممتع بصرياً إلى حد كبير.
ما يعاب على السيناريو في رأيي هو عدم منطقية مصادفة نفس الفتاة، صاحبة الملاكي، مرتين متتاليتين في اليوم نفسه، لكن ربما تم إنقاذ الفيلم من الوقوع في فخ اللامنطق، بعدم كونها نفس السيارة التي دخلت في المطاردة في النهاية، فأراها نهاية مناسبة جداً لفيلم لا يقدم قصة بقدر ما يقدم يوماً عادياً في حياة سائق تريللا، لا يمكنك أن تنتظر منه شيئاً غير أن يكمل سيره على الطريق مهما حدث.
وما أعجبني أن كاتب السيناريو اختار هذه النهاية الرتيبة لفيلم أبو صدام، لأنها تبدو أكثر واقعية مما لو فجّر مفاجأة جديدة. نهاية عادية مثل نهاية الفيلم القصير "البطيخة" لمحمد خان، الذي يحكي عن حياة موظف حكومي عادي يعود إلى المنزل ببطيخة ليتناولها مع عائلته!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.