قبل أن يتم إطلاق لقب "الجوهرة السوداء" على أسطورة الكرة العالمية، البرازيلي بيليه، كان هنالك لاعب إفريقي وعربي يحمل نفس الاسم المميز الذي يدل على مهاراته الفنية النادرة ويشير أيضاً إلى لون بشرته.. إنه المغربي الراحل العربي بن مبارك، أحد أفضل اللاعبين في العالم في وقته.
العربي بن مبارك نجاراً
وُلد العربي بن مبارك يوم 16 يونيو/حزيران 1917 بمدينة الدار البيضاء المغربية، حيث عاش طفولته في حي "كوبا" الشعبي الذي كان يلعب فيه رياضة كرة القدم رفقة أقرانه، قبل أن يدخل عالم الشغل في سن الـ14 من عمره، إذ امتهن "النجارة" التي أخذها عن والده المتوفى قبل سنوات قليلة من ذلك.
وبالموازاة مع عمله في النجارة واصل الفتى بن مبارك ممارسة رياضته المفضلة، فانضم لفريق كرة قدم صغير يُسمى "الوطن"، وذلك إلى عام 1934 عندما التحق بنادي الاتحاد المغربي بالدار البيضاء الذي كان ينشط في دوري الدرجة الثانية بالمغرب.

بعد تألق العربي بن مبارك في موسمه الأول مع الاتحاد المغربي الذي وصل معه إلى نهائي كأس المغرب لكرة القدم، تم اختياره ضمن المنتخب الجهوي لرابطة المغرب لمواجهة المنتخب الجهوي لرابطة وهران الجزائرية، وذلك بحكم أنّ الجزائر والمغرب كانتا في تلك الفترة تعيشان تحت الاحتلال الفرنسي.
وتألق بن مبارك مع ذلك المنتخب فلفت انتباه مسؤولي نادي اتحاد الدار البيضاء الذي كان في ذلك الوقت أفضل فريق في المغرب، فضمه إلى صفوفه في صيف 1935، ومنح وظيفة في إحدى محطات البنزين.
وبقي العربي بن مبارك مع اتحاد الدار البيضاء حتى سنة 1938، فلعب معه نهائي كأس شمال إفريقيا في يونيو/حزيران من نفس العام والذي خسره أمام نادي اتحاد بونة الجزائري، قبل أن يغادره نحو نادي مارسيليا الفرنسي الذي كان يريده منذ عام 1937 لما أعجب مسؤوليه بقدراته الفنية الرائعة خلال مباراة ودية جمعت منتخب رابطة المغرب مع المنتخب الفرنسي الثاني في شهر أبريل/نيسان لنفس السنة.
بداية الاحتراف الأوروبي من بوابة مارسيليا
انضم العربي بن مبارك لنادي مارسيليا وهو في سن العشرين، ولعب في صفوفه موسماً واحداً فقط (1937- 1938)، سجل خلالها 14 هدفاً في 33 مباراة رسمية، قبل أن يعود إلى المغرب عند بداية الحرب العالمية الثانية.
وقبل مواصلة الحديث عن مساره الاحترافي مع الأندية الذي يتضمن الكثير من الإنجازات، اسمح لي أخي القارئ أن أتطرق لمشواره مع منتخب فرنسا الذي تزامنت بدايته مع السنة الأولى التي غادر فيها الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط الى الشمالية منه.
فبعد 5 أشهر من التحاقه بنادي مارسيليا، و3 أشهر فقط من انطلاق الدوري الفرنسي، تلقى العربي بن مبارك استدعاءه الأول للمشاركة مع منتخب فرنسا، من طرف المدرب غاستون بارو، فخاض مباراته الدولية الأولى أمام منتخب إيطاليا، وكانت ودية وجرت يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 1938 بمدينة نابولي، وانهزم خلالها فريق "الديكة" بنتيجة هدف لصفر، وعانى خلالها العربي بن مبارك من العبارات العنصرية الفاشية التي كان يطلقها الجمهور من المدرجات، تجاهه وتجاه زميله راؤول دياني، ذي الأصول السنغالية، وذلك بسبب لون بشرتيهما السوداء.
لم تؤثر تلك الكلمات العنصرية على معنويات اللاعب العربي، فتألق بشكلٍ لافتٍ في مباراته الودية الثانية التي فازت بها فرنسا على بولندا (4-0) يوم 22 يناير/كانون الثاني 1939 بملعب "بارك دي فرانس" بالعاصمة باريس، بحيث أسهم في ثلاثة أهداف من الأربعة، ثم واصل التألق في ودية ثالثة، جرت يوم 13 مارس/آذار من نفس العام، وبالملعب ذاته، وانتهت بنتيجة التعادل (2-2)، وسجل خلالها بن مبارك هدفه الأول في مشواره الدولي.
سر لقب "الجوهرة السوداء"
وبعد مباراة فرنسا مع بولندا، وجهت صحيفة " أوتو" الفرنسية الرياضية نداء للجمهور لإيجاد لقب يناسب العربي بن مبارك، فوقع الاختيار يوم 8 فبراير/شباط 1939 على اسم "الجوهرة السوداء"، وذلك بحسب تقرير خصصته مجلة "فرانس فوتبول" الشهيرة للاعب المغربي، نشرته يوم 8 أبريل/نيسان 2016.
وبسبب الحرب العالمية الثانية، توقف نشاط المنتخب الفرنسي لمدة 6 سنوات كاملة، وهي فترة طويلة أوقفت الوثبة العالية التي كان يقوم بها العربي بن مبارك نحو العالمية، والذي وبعد عودته للنشاط مع "الديكة" في 1946 لم يكن هو نفس اللاعب الشاب الحيوي المتألق، فاكتفى بالظهور مع المنتخب بشكلٍ متقطعٍ، واستمر معه إلى غاية أواخر سنة 1954، خاض 17 مباراة دولية، سجل خلالها 3 أهداف.
صاحب المشوار الدولي الأطول في تاريخ فرنسا
تلقى العربي بن مبارك حقه من تكريم الجماهير الرياضية الفرنسية، وذلك خلال مباراة خيرية جرت في سنة 1954 بملعب "بارك دي فرانس" بين منتخب فرنسا ومنتخب شمال إفريقيا، وذلك لجمع التبرعات لفائدة ضحايا زلزال مدينة الأصنام الجزائرية (الشلف حالياً) التي ضربها يوم 9 سبتمبر/أيلول 1954، وبلغت قوته 7 درجات على سلم ريختر، وأدى إلى وفاة 1500 شخص و إصابة 5 آلاف آخرين.
فقد شارك العربي بن مبارك في تلك المباراة ضمن منتخب شمال إفريقيا الذي ضم في صفوفه نجوماً من الجزائر، على غرار مصطفى زيتوتي وعريبي وبن يتفور ومفتاح و بلعيد، وانتهى اللقاء الودي بفوز منتخب المغرب العربي بنتيجة ثلاثة أهداف لهدفين، مع تألق لافت لبن مبارك، ما جعل الجماهير تُطالب بعودته إلى منتخب فرنسا، وهو الأمر الذي حدث، أسابيع قليلة فقط بعد ذلك، حيث خاض العربي مباراة ودية أمام بطل العالم، منتخب ألمانيا الغربية يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1954 بمدينة هانوفر(3-1)، ولكنه غادر الملعب بعد 27 دقيقة فقط من بداية اللقاء بسبب تعرضه لإصابة عضلية.
وكانت تلك المباراة هي الأخيرة بالنسبة للعربي بن مبارك في مشواره الدولي، وقد خاضها وهو في سن الـ37 سنة، وبعد مرور 15 عاماً و10 شهور من مباراته الأولى، ليصبح بذلك، وإلى الآن، صاحب رقم قياسي تاريخي بصفته اللاعب الذي قضى أطول مدة مع منتخب فرنسا.
أعود الآن عزيزي القارئ للتطرق لمشوار اللاعب المغربي مع الأندية، فأشير إلى أن العربي بن مبارك وبعد عودته إلى المغرب، عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، لعب موسماً واحداً (1940- 1941) لنادي اتحاد الدار البيضاء، ثم تعاقد في الموسم الموالي (1941-1942) مع نادي وداد الدار البيضاء، لكن وبسبب مشكل إداري مع فريقه الأول فإنه لم يتم اعتماد إجازته فبقي في ذلك الموسم دون لعب كرة القدم، وتحول لممارسة رياضة كرة السلة في نفس النادي، أي وداد الدار البيضاء.
وفي صيف 1942، عاد إلى صفوف نادي اتحاد الدار البيضاء لكرة القدم واستمر معه إلى نهاية الحرب العالمية، أي إلى صيف 1945، ليًشُدّ الرحال مجدداً نحو فرنسا، ولكن هذه المرة إلى باريس، وبالضبط إلى نادي "ستاد فرانسي" الذي أراد تكوين فريق من النجوم، من بينهم بن مبارك وبقيادة المدرب الفرنسي، ذي الأصول الأرجنتينية هيلينو هيريرا، مخترع طريقة اللعب "كاتيناشيو" أو المفتاح التي اشتهرت بها الكرة الإيطالية.
وقد بلغت قيمة صفقة انتقاله من نادي الاتحاد المغربي إلى "ستاد فرانسي" مبلغ مليون فرنك فرنسي، ما كان يشكل رقماً قياسياً في تاريخ انتقالات اللاعبين بفرنسا لذلك الوقت.
لم ينل بن مبارك أي لقب مع فريقه الجديد، خلال المواسم الثلاثة التي لعب فيها معه، وذلك على الرغم من تسجيله 56 هدفاً في 103 مباريات، لكن الألقاب والمجد والشهرة العالمية سيجدها لاحقاً في إسبانيا.
المجد والشهرة العالمية مع أتلتيكو مدريد
فقد آمن نادي أتلتيكو مدريد الإسباني بالقدرات الفنية الكبيرة للعربي بن مبارك فصرف مبلغاً خيالياً يقدر بـ17 مليون فرنك فرنسي للاستفادة من خدماته في صيف 1948.
ولم يخيب أسطورة الكرة المغربية الثقة التي وضعها فيه مسؤولو الأتلتيكو، حيث قاده للتتويج بلقب الدوري الإسباني (لاليغا) في موسمين متتاليين (1949-1950) و(1950 -1951) وكأس السوبر الإسباني في سنة 1951، كما ذاع صيته عالمياً كلاعب ذي مهارات فنية عالية وحس تهديفي مميز، بتسجيله 63 هدفاً في 122 مباراة.
وفي صيف 1953، غادر بن مبارك أتلتيكو مدريد وهو على مشارف الاعتزال، حيث كان يبلغ من العمر 36 عاماً، فالتحق بالفريق الأول الذي احتضنه بفرنسا، ونعني به مارسيليا، فلعب له موسمين اثنين، وبلغ رفقته نهائي كأس فرنسا في سنة 1954، وذلك قبل أن يعود إلى إفريقيا ويلعب لنادي الاتحاد الإسلامي لمدينة سيدي بلعباس الجزائري، في موسم (1955- 1956) مع الإشراف على تدريبه في نفس الوقت.
وبعد استقلال المغرب عن فرنسا في سنة 1956، عاد إلى بلده ليسهم في تطوير رياضة كرة القدم بها، فلعب مع نادي الفتح الرباطي ودربه لمدة موسمين، قبل أن يعتزل اللعب نهائياً في عام 1958، وهو في سن الـ41 من عمره.
وواصل العمل كمدرب ولكن بشكلٍ متقطعٍ فأشرف على نادي الجيش الملكي المغربي في موسم 1959-1960، ثم الرجاء البيضاوي في سنة 1965، ونادي نهضة سطات المغربي من 1970 إلى 1972.
ولكن هذا الرياضي الكبير والذي قال عنه أسطورة الكرة العالمية، بيليه، إنه كان أفضل لاعب في العالم في وقته، غادر الحياة في وحدة تامة، بحيث توفي يوم 16 سبتمبر/أيلول 1992، بشقته بالدار البيضاء، ولم يتم اكتشاف جثته إلا بعد 3 أيام من موته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.