كثير من الطلاب عندي يتصور بداية أن التأريخ الهجري فرض ديني، وأنه بدأ مباشرة وبشكل آلي بعد وصول النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى واحة قُباء، جنوب يثرب (يوم الإثنين 23 سبتمبر 622م/ 8 ربيع الأول من السنة الهجرية الأولى)، ويقتنعون بصعوبة عندما أخبرهم أن هذا التأريخ مجرد اجتهاد بشري، وأنه لم يبدأ إلا في السنة السادسة عشرة للهجرة، أي في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
والأمر ببساطة أن عمر بن الخطاب وجد أن دولة الخلافة قد توسعت وكثرت ولاياتها، وأنها تواجه مشاكل إدارية كبيرة بسبب عدم وجود تأريخ كتواريخ الحضارات السابقة أو المجاورة. وتوجد روايات عدة عن هذه الاحتياجات الإدارية، ومن شاء يمكن أن يراجعها بالتفصيل في "تاريخ دمشق" لابن عساكر، في باب "ذكر اختلاف الصحابة في التاريخ".
والأرجح أن التفكير في التأريخ بدأ بعد عدة اقتراحات، ربما جاء أولها من أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه)، الذي كتب إلى عمر مرة: "إنه تأتينا من قبلك كتب ليس لها تاريخ فأرِّخ".
وكذلك اقتراح يعلى بن أمية (رضي الله عنه) على عمر بن الخطاب اقتباس التاريخ وتدوين الدواوين كما يفعل الفرس والروم. وتوجد رواية عن عمرو بن دينار يقول فيها "إن أول من أرَّخ في الكتب يعلى بن أمية وهو باليمن" أي إنه ربما سبق أبا موسى الأشعري في هذا. ولعل يعلى هو المقصود أيضاً في رواية أخرى تقول: "قدم رجل من أهل اليمن على عمر فقال: "لمَ لا تؤرِّخون؟ قال: كيف؟ قال: تكتبون من شهر كذا في سنة كذا".
وهنا نشير إلى موقف لعمر نفسه، استشعر فيه هذا الاحتياج للتأريخ؛ فعن ميمون بن مهران قال: "رُفع إلى عمر (رضي الله تعالى عنه) صك محله في شعبان فقال عمر: "أي شعبان؟ الذي نحن فيه؟ أو الذي مضى؟ أو الذي هو آتٍ؟".
وطبعاً عندما يصل الأمر إلى المال يصبح حاسماً، لذا عزم عمر على الأخذ بالاقتراحات والبدء بالتأريخ؛ فجمع كبار الصحابة كالعادة وقال لهم: "ضعوا للناس شيئاً يعرفون به التاريخ".
وهنا بدأت مناقشة طويلة نجد أصداءً لها في الكثير من الروايات التي سأحاول ترتيبها هنا؛ ففي البداية قال أحد الصحابة: "اكتبوا على تاريخ الروم". ولكن رُفض الاقتراح، وتم تعليل ذلك بأن الروم يكتبون من عند الإسكندر، وهذا شيء يطول.
فقال أحدهم، ربما الصحابي نفسه، ولكنا لا نعرف من هو للأسف: "اكتبوا على تاريخ الفرس". وأيضاً تم رفض هذا الاقتراح، وتم تعليل ذلك "بأن الفرس كلما قام فيهم ملك طرح ما كان قبله"، أي إن تاريخهم يفتقد للاستمرارية.
وهنا اجتمع رأيهم على عدم تقليد الفرس أو الروم، وضرورة اتخاذ مناسبة تخص الإسلام كبداية لهذا التأريخ. وهنا وازنوا بين الأحداث البارزة في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) لاتخاذ أحدها كبداية، وركزوا على أربعة هي: مولد النبي، وبعثته، وهجرته، ووفاته.
وكما في رواية لميمون بن مهران، وكان فيما يبدو متوفراً على هذا الموضوع: "ائتمر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متى يكتبون التاريخ؛ فقال بعضهم: "نكتبه من الشهر الذي وُلد فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)". وقال بعضهم: "نكتبه من حين أوحي إليه" أي بمبعثه (صلى الله عليه وسلم)". "وقال بعضهم: بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)". وقال بعضهم: "نكتبه من هجرته التي هاجر فيها من دار الشرك إلى دار الإسلام".
وتوجد رواية عن سعيد بن المسيب، نتبين منها أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) هو صاحب هذا الاقتراح الأخير. وقد اجتمع رأيهم على هذا الاقتراح؛ أي أن يبدأوا التأريخ من هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة.
وقال عمر مؤيداً ومعللاً: "إن مهاجره فرق بين الحق والباطل". ثم قال: "فبأي شهر نبدأ فنصيّره أول السنة؟".
وهنا تعددت الاقتراحات مرة أخرى؛ فقال البعض: "رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه". وقال أحدهم: "شهر رمضان" ولم يزد لأن الأمر مفهوم. وقال بعضهم: "ذو الحجة؛ فيه الحج". وقال بعضهم: "الشهر الذي خرج فيه من مكة" أي شهر صفر. وقال بعضهم: "الشهر الذي قدِم فيه" أي شهر ربيع الأول.
وكما ترى، فإننا لا نعرف أصحاب هذه الاقتراحات، فقط في رواية لابن سيرين أن عثمان قال: "أرِّخوا المحرم أول السنة. هو شهر حرام، وهو أول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس عن الحج". فكأنه أراد أن يجعل الحج ذروة للسنة الهجرية وخاتمتها الكبرى، وبه تنتهي دائرة الأعياد الإسلامية لتبدأ من جديد مع المحرم.
وقد وافقوا على هذا الاقتراح، فأصبح المحرم بالتالي أول شهور السنة الهجرية رغم أن حدث الهجرة لم يقع في المحرم. فالنبي (صلى الله عليه وسلم) خرج من مكة في يوم 27 من شهر صفر، ووصل المدينة في يوم 12 ربيع الأول. وكان الأرجح أن يتم اختيار أحد هذين الشهرين كبداية للسنة الهجرية، ولكن عثمان (رضي الله عنه) دحض هذا الاختيار ببراعة وأقنع الجميع أن يبدأوا السنة الهجرية بشهر المحرم.
ومن الجدير بالذكر هنا أن حدَث الاستشارة هذا وقع في شهر ربيع الأول من السنة التي ستصبح السادسة عشرة للهجرة. وفي رواية لابن عساكر عن أبي جعفر أن الصحابة أوقعوا في هذا التاريخ تسمية السنين من مهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ أي إنهم أعادوا تأريخ كل ما حدث في السنوات ما بين الهجرة وسَنة وضع هذا التأريخ، وليتهم أرَّخوا لما قبل الهجرة أيضاً.
ورغم هذا الجهد الاستشاري، فإن الأمر لم يعجب بعض الصحابة؛ فكان سهل بن سعد الأنصاري (رضي الله عنه) يقول بعد ذلك: "أخطأ الناسُ العددَ، لم يعدوا من مبعثِ النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم يَعدُّوا من مُتوفّاهُ، إنما عَدّوا من مَقدمهِ المدينةَ"، أي إنه كان مع اتخاذ بعثة النبي أو وفاته (صلى الله عليه وسلم) بداية للتاريخ الإسلامي.
ورأيي أنهم لم يكونوا يختارون بين خاطئ وصحيح، وإنما بين صحيح وأصح منه! وباختيارهم لحدث الهجرة كبداية، وقعوا بالفعل على أصح الاختيارات الأربعة وأدقها. فالتأريخ بميلاد النبي سيجعل التأريخ الجديد يشبه التأريخ المسيحي، وقد تجنبوه وتجنبه سهل بن سعد أيضاً.
أما التأريخ بوفاة النبي فليس خطأ، ولكنه ليس الأصح؛ لأن وفاته (صلى الله عليه وسلم) حدث أحزن المسلمين ولا ريب، ومن غير المستحَب أن تبدأ التأريخ للدولة الجديدة بموت مؤسسها! أما التأريخ بالبعثة أو نزول الوحي فأمر جدير ولا يقل عن حدث الهجرة في الصحة والعظمة، ولكن ظني أن الصحابة قدموا الهجرة عليه؛ لأن حدث الهجرة أدى بشكل مباشر ومحسوس إلى قيام دولة النبي (صلى الله عليه وسلم) في أرض الواقع.
فحدث الهجرة وضع حدوداً جغرافية محسوسة بين عالم الإسلام وعالم الشرك. وهذا ما قاله عليّ (رضي الله عنه) في تعليله لاختيار حدث الهجرة. وهذا أيضاً ما أيده عمر (رضي الله عنه) بأن الهجرة فرقت بين الحق والباطل. نعم أحدثت البعثة شيئاً من هذا القبيل، ولكن في إطار نظري فكري، أما حدث الهجرة، فنقل الأمر من الإطار النظري إلى الإطار التطبيقي في نطاق جغرافي محدد ومعروف ومسيطر عليه.
ولو تأملت السيرة النبوية ستجد أن هذا ما حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على إبرازه منذ البداية. ولذا شرع منذ لحظة وصوله إلى واحة قباء في بناء دولته في هذا الواقع الجغرافي المحسوس، وقد اعتمد في تخطيطه لهذه الدولة على خطوات محددة سأشير هنا إلى أربعة منها باختصار.
أولى هذه الخطوات أنه قام بتحديد مركز الدولة الجديدة بأن بنى المسجد وسط مدينته، ومنه كان يستطيع "السيطرة" على سير الأحداث في المدينة وأطرافها.
ثم أمر -وهذا ثانيها- بتحديد حدود المدينة بعلامات محددة، ثم حرم ما بين هذه العلامات وقال كما في "وفاء الوفاء" للسمهودي: "لكل نبي حرم، وحرمي المدينة".
ثم قام بخطوة ثالثة بأن بدأ بتكوين إدارته باتخاذ الكُتّاب. وكان من أوامره الأولى لهم أمره بإحصاء عدد المسلمين. وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد حديث لحذيفة (رضي الله عنه) أن النبي قال لهم: "اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس". قال حذيفة: "فكتبنا له ألفاً وخمسمائة"، وقد تعجب الصحابة من كثرة العدد وتساءلوا بدهشة: "نخاف ونحن ألف وخمس مائة؟!".
أما الأمر الرابع والأخير -هنا فقط- فإملاء النبي (صلى الله عليه وسلم) لأول دستور لدولته تلك، وهو ما يُعرف بـ"وثيقة المدينة"، وهي إحدى أهم الوثائق السياسية في تاريخ الإسلام. والطريف أن هذه الوثيقة تسمى أحياناً "كتاب الموادعة بين المهاجرين والأنصار واليهود"، أي إنه قَبِل اليهود منذ البداية في إطار دولته، طبعاً هذا الأمر جد خطير، ولذا فهو يستحق كتابة منفردة، نأمل أن نقوم بها قريباً إن شاء الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.