جولة جديدة من الجدل و"التراشق الفكري" أزكتها المعالجة التي قدمها الكاتب والسيناريست، بلال فضل، من خلال قناته على اليوتيوب، لفكر أحد أهم المنظرين الإسلاميين في القرن الماضي، وهو الأستاذ سيد قطب، فقد أدى اتهامه إياه صراحة بالإرهاب والتكفير إلى موجة من النقاشات على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، لم تخلُ من مداخلات عدد من الباحثين والمتخصصين تأييداً أو شجباً.
وفي الحقيقة، كان الاشتباك مع هذا الموضوع هاجساً ملحاً لي في الفترة الأخيرة، نظراً لدراستي لعدد من أعمال سيد قطب خلال إعدادي لرسالة الماجستير، ولبعض الأوراق الأكاديمية لاحقاً، وما جعلني متردداً هو أن مساحات النقاش لقضايا فكرية وإشكالية بهذا الحجم لا يتسع لها المجال في شبكات التواصل الاجتماعي، ولأن التأطير الذي قدمه بلال فضل لمناقشة القضية وتفاعل معه الآخرون ضمنها إيجاباً وسلباً هو تأطير غير ملائم من وجهة نظري، لذلك سأكتفي بتناول موجز لهذا الموضوع في مقال من جزأين.
سيد قطب.. أبو الراديكالية الإسلامية
بداية يمكن القول إنه كما كان حسن البنا هو صاحب الإسهام الأبرز في تحديث صيغ الدعوة والعمل الاجتماعي والسياسي الإسلامي لتنتج "الإسلاموية" كأيديولوجيا وكحركة اجتماعية في الربع الثاني من القرن العشرين، كان لسيد قطب إسهامه في إضفاء طابع راديكالي على هذه الصيغ، وأقصد بالراديكالية التفكير الحدي والجذري، والسعي لإحداث تغييرات شاملة وعميقة في النظم السياسية والاجتماعية بشكل سريع، وربما عنيف إذا اقتضت الحاجة، كما أنه أعاد صياغة فكرة شمولية الإسلام لحسن البنا في قالب الأيديولوجيا الطوبوية الشمولية، وأكد على المفاصلة والمواجهة كمنهجية للتغيير في مقابل منهجية البنا الإصلاحية المتدرجة والاستيعابية، وهو ما تبعه إعادة تعريف جماعة الإخوان المسلمين وشكل تنظيمها؛ لتكون أقرب للتنظيمات الأيديولوجية المغلقة، منها للحركات الدعوية والمجتمعية النمطية.
ومن مفارقات الفكر الراديكالي أنه – في حال نجاحه في إحداث التغييرات التي يسعى إليها داخل مجتمعه عبر العمل الثوري، أو حتى الانقلابي، فإنه يؤطر كفعل ثوري ملهم، وأن حديته وجذريته دليل نقائه ومصداقيته، وأنه لا يهادن الواقع ولا يقبل بأنصاف الحلول، أما إذا انهزم، فإنه يوصم من السلطة القائمة، ومن معارضيه بأنه فكرٌ هدام عنيف، يستهدف استقرار المجتمعات، ويجيش الجماهير بخطابات وشعارات خادعة، ويسعى لتطبيق حلول غير واقعية.
كذلك أحياناً يحدث الفرز حول الموقف من الفكر الراديكالي على أساس الأيديولوجيا، فإذا كان نابعاً من رؤية محافظة يمينية اتهم بالرجعية والفاشية، أما إذا كان يستهدف إحداث تحولات أكثر مساواتية في الحقوق السياسية والاقتصادية والمدنية، فيمتدح باعتباره ثورياً تقدمياً.
الفكر الراديكالي لسيد قطب يعتمد على مرجعية دينية، ما يعطي للأفكار قداسة، ويجعل المعارضين لها في مرمى التكفير، وهذا بشكل عام صحيح، إلا أننا لا ننكر أيضاً أن بعض الأيديولوجيات الطوباوية كالوطنية المتطرفة (الفاشية والنازية) أو الشيوعية تخلق حالة أقرب للحالة الدينية
لذلك فإن مقاربة الفكر الراديكالي كفكر سيد قطب من سؤال العنف والإرهاب هي مقاربة غير دقيقة، لأنها – في رأيي – تحمل انحيازاً قد يكون نابعاً من تصنيفه الأيديولوجي أو من حقيقة تعثره وهزيمته، وإلا فإن الأفكار الراديكالية والتنظيمات المسلحة التي أسست دولاً أو أقامت نظماً وحكومات يحتفى بها في مجتمعاتها باعتبارها أفكاراً تأسيسية، وبرموزها كأبطال مؤسسين، لا كإرهابيين أو خارجين على الدولة.
ولا يقتصر هذا على الأيديولوجيات اليسارية أو الوطنية أو الدينية، بل حتى الأيديولوجيا الديمقراطية الليبرالية، التي توصف عادة بالاعتدال، فعندما تتراجع الأدبيات المؤسسة أثناء فترة نضالها ضد الأفكار والسلطات التقليدية، نجد تأكيد الفيلسوف البريطاني جون لوك – على سبيل المثال – على الحق في التمرد، وهو ما يعني حق الشعوب في حمل السلاح ضد الدولة إذا مست أحد الحقوق الطبيعية الثلاث: الحق في الحياة، الحق في الحرية، الحق في التملك.
وهذا الأمر نجد صداه فيما كتبه توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وكاتب إعلان الاستقلال الأمريكي حين ذكر أن "شجرة الحرية يجب أن تُروى من آن لآخر من دماء الطغاة والوطنيين."
قد يختلف الأمر بطبيعة الحال؛ لأن الفكر الراديكالي لسيد قطب يعتمد على مرجعية دينية، ما يعطي للأفكار قداسة، ويجعل المعارضين لها في مرمى التكفير، وهذا بشكل عام صحيح، إلا أننا لا ننكر أيضاً أن بعض الأيديولوجيات الطوباوية كالوطنية المتطرفة (الفاشية والنازية) أو الشيوعية تخلق حالة أقرب للحالة الدينية، وهو ما دفع بعض الأكاديميين لوصفها بالأديان السياسية، كما أنها مارست "التكفير السياسي" وأقامت "محاكم تفتيش"، تفتش في الأفكار والمعتقدات السياسية، على غرار الممارسات التي تمت في الخبرات الدينية، وصاحبتها حملات من القمع والتنكيل بالمخالفين، وكأنهم "مهرطقون دينياً".
لكن على الجانب الآخر، فإن مسألة التكفير في فكر سيد قطب هي مسألة إشكالية حقيقة، فقد تكرر استخدام قطب لمصطلحات وتعبيرات مثل الجاهلية، وانتفاء وجود المجتمع الإسلامي، وتوقف وجود الإسلام ذاته، وهي ما تحمل دلالة واضحة على التكفير.
صحيح أن ما أميل إليه هو أن سيد قطب باستخدامه هذه التعبيرات كان يقصد ما يمكن تسميته بـ"التكفير الحضاري" أو "التكفير النُظُمي"، أي إنه قصد أن المسلمين المعاصرين لم يعودوا يعيشون في ظل نظم حياتية سياسية واجتماعية واقتصادية إسلامية، وأن القيم والأخلاق والمفاهيم الحضارية التي يتبنونها غير إسلامية، وهذا الأمر- وإن اتفقت أو اختلفت معه فيه – يختلف عن التكفير العقدي، إذ لم يُؤْثر عن سيد قطب أو تنظيم الإخوان الذي عاصره أنهم أعلنوا كفر أشخاص بعينهم، كما هو المتعارف عليه في الجماعات التكفيرية التقليدية، فلم يُعرف عن قطب أنه صرّح بتكفير الرئيس عبد الناصر أو القيادات الأمنية التي تورطت في تعذيبه، أو حتى المفكرين المخالفين له في التوجه.
ولتوضيح هذا الأمر، يمكن الإحالة إلى الكتابات والفتاوى التي أصدرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومراسلاته مع مخالفيه، وهو الذي استخدم بعضاً من المصطلحات التي استخدمها قطب لاحقاً مثل الجاهلية وغربة الإسلام، لكنها حملها على محمل عقائدي واضح، جعل الكثير من علماء المسلمين في حينه يتهمونه بالتكفير.
لكن، من وجهة نظري أيضاً، كان استحضار قطب هذه المصطلحات في إطار النقاش حول النظم الاجتماعية والسياسية خطأ كبيراً، غذى به التيارات التكفيرية والانعزالية للحركات الإسلامية، إذ إن الكثيرين من أتباعها أخذوا هذا "التكفير النظمي والحضاري" إلى أبعاد عقائدية مارسوا بسببها العنف تجاه المجتمعات المسلمة، وإن كان البعض – في المقابل – قد يثير تساؤلاً جدياً حول علاقة المفكرين والمنظرين بالسلوك السياسي للأحزاب والحركات التي تأثرت بفكرهم، وحملوه إلى مجال الحركة والفعل، فإلى أي مدى مثلاً يمكن تحميل جان جاك روسو وأفكاره المسؤولية عن مقاصل الثورة الفرنسية؟ أو هل يمكن تحميل كارل ماركس وزر العنف الذي مارسته التنظيمات اليسارية في العديد من دول العالم؟
المحصلة النهائية
وبالمحصلة، فإن التفكير الإسلامي لسيد قطب كان راديكالياً بلا شك، والفكر الراديكالي بشكل عام ترتبط به دوماً تهمة الحض على العنف على أقل تقدير، إن لم تتشكل تنظيمات وأحزاب تمارس هذا العنف فعلياً، وعادة ما تتباين وجهة النظر إزاء هذا العنف وفقاً للموقف الأيديولوجي من هذا الفكر، وتبعاً إذا كان مسعاه للتغيير قد تحقق أم لا، لكن تبقى الإشكالية الأخرى التي لا يلتفت إليها في الفكر الراديكالي لسيد قطب، نظراً للانشغال بسؤال العنف والتكفير هو ما يمكن تسميته بالمقاربة العقدية للنظم السياسية والاجتماعية، وهي التي كانت سبباً في استعارته لمفاهيم ومصطلحات في غير موضعها كما أشرت سابقاً، وأدت إلى شيء من التوتر بين الفكر الإسلامي المعاصر وبين الأفكار والنظم السياسية القائمة، وهو ما سأتناوله في المقال القادم إن شاء الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.