يقول أحد الحكماء: "الأهم من تحقيق النجاح هو المحافظة عليه".
بعد مسيرة فنية تجاوزت نصف قرن، وبعد صولات وجولات على المسرح وأمام كاميرات السينما والتلفزيون، حصد خلالها مئات الجوائز وتربَّع بفضلها على عرش الكوميديا، وجد ملك الفن الكوميدي في تونس "لمين النهدي" نفسه، للمرة الأولى في مسيرته تقريباً، يواجه تقييمات سلبية وانتقادات لاذعة توجه لعمل يقدمه.
لم يمر على انطلاقة عرض مسرحيته الجديدة "نموت عليك" نصف ساعة حتى بدأ جمهور مهرجان قرطاج بمغادرة المسرح، الذي عرض فيه النهدي أعماله أكثر من أربعين مرة في السابق، رافعين شعارات الاحتجاج والاستنكار على مضمون المسرحية ومستواها الفني.
بعد أيام قليلة أعلن مهرجان آخر بمدينة سلقطة في الوسط الشرقي لتونس إلغاء المسرحية، بسبب ضعف الإقبال على شراء تذاكرها.
وعجّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات حول الموضوع بين متضامن مع فنان أمضى حياته في إسعاد الناس من خلال أعمال خلدها التاريخ في تونس، على غرار مسرحيات "الكريطة" و"المكي وزكية" و"في هاك السردوك نريشو"، إضافة إلى فيلم "فردة ولقات أختها" وسلسلة "سي الزهواني"، وناقد للمستوى الهزيل الذي ظهر به الممثل السبعيني ومضمون مسرحيته الجديدة، مطالبين إياه بالاعتزال وترك المجال للفنانين الشبان.
"النهضة" هي السبب!
لم يتردد المخرج محمد علي النهدي، نجل الفنان لمين النهدي، في اعتبار ما حصل مؤامرة تستهدف والده والاستنجاد بقميص عثمان، وإرجاع ما حصل إلى حركة النهضة وأنصار رئيسها راشد الغنوشي، حيث صرح في البداية بأن أطرافاً سياسية تقف وراء الانتقادات الموجهة لعمل والده، وأن ما تضمنته المسرحية من نقد لها هو السبب، ثم صرح لاحقاً بأن أطرافاً "نهضاوية" شوَّشت على العرض داخل المسرح وأخرى تنتمي إلى الجهة نفسها شوَّشت عليه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
وإن تضمنت المسرحية سخرية من الإسلاميين ونقداً لاذعاً لأداء "النهضة" في الحكم، ورغم صحة ما قيل حول تذمُّر النهضويين من مضمون المسرحية في مواقع التواصل الاجتماعي واعتبار مسرحية لمين النهدي محاولة من الكاتب والممثل تقديم خدمات لصالح قيس سعيد للتقرب منه، فمن الإجحاف حصر أسباب مغادرة المسرحية والانتقادات الموجهة لها في عدم إعجاب الإسلاميين بها.
والأقرب من خلال قراءة سوسيولوجية للمزاج العام للتونسيين، هو أن السبب الحقيقي أو الأهم يكمن في دسامة المضمون السياسي في المسرحية، حيث ملَّ التونسيون الحديث في السياسة عكس ما كان إبان ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فأقل البرامج مشاهدة في القنوات التونسية اليوم هي البرامج السياسية وأقل الشخصيات قرباً من التونسيين هم الشخصيات السياسية، كما تأتي الأحزاب السياسية في المرتبة الأخيرة بترتيب نسبة ثقة التونسي بالمؤسسات.
وتعتبر المهرجانات الصيفية بما تتضمنه من سهرات فنية وعروض الكوميديين، ملجأ للجماهير التي تحاول الهرب من حالة الإحباط واليأس والكآبة التي غلبت على مزاج المجتمع، ليكون رد الفعل الطبيعي على عمل مليء بالحديث في السياسة واجترار ما يقال في البرامج السياسية، بغض النظر عن خصوصية الذوق الفني للمشاهد، هو المغادرة والاحتجاج.
هل أخطأ الجمهور العنوان؟!
وإن اكتفى لمين النهدي بالتعليق على ما حصل بعبارة أنه لن يموت إلا على خشبة المسرح، وتبرير مغادرة الجمهور بالتعب، فإن كاتب المسرحية منصف ذويب وفي رد فعل على سلوك الجمهور المغادر للمسرح والانتقادات الموجهة للعمل، قال إن الجمهور المحتج أخطأ العنوان، وشبَّه ما حصل بأحد مشاهد مسرحية "المكي وزكية" التي جمعت الثنائي ذويب والنهدي أواخر التسعينيات، بأن توجهت مجموعة إلى حفل زواج لم يعجبهم تنظيمه فانطلقوا في انتقاده إلى أن اكتشفوا لاحقاً أنهم في الحفل الخطأ.
ورغم ما ذهب إليه الكاتب منصف ذويب من تشكيك في مستوى الذوق الفني للجمهور المحتج، والإشارة إلى تأثر الذوق العام بانتشار موجة جديدة من أعمال المونولوج أو المسرح الفردي يقودها كوميديون شبان، تميزت أعمالهم بالاقتباس من لغة الشارع والإطناب في استعمال الإيحاءات الجنسية والنكت السريعة، ورغم إشادة مختصين، بمستوى المسرحية فنياً وقدرة لمين النهدي المتميزة، فإن مراجعة العمل والوقوف على حقيقة الانتقادات الموجهة إلى الممثل ومسرحيته باتا أمراً ضرورياً.
وهو القرار الذي اتخذه فريق العمل لاحقاً، من خلال إلغاء العروض المتبقية؛ للوقوف على حقيقة ما حصل والتوقي مما اعتبروه "حملة غير بريئة على هذا العمل المسرحي، قد تؤثّر سلباً على إقبال الجمهور عليها وتُسبّب خسائر مالية للمهرجانات التي برمجت عرض المسرحية"، حسب البيان الصادر من قِبلهم.
لا إبداع بدون حرية
إضافة إلى التقييمات الذوقية والفنية للعمل المسرحي والمبررات السياسية التي حاول من خلالها فريق العمل التغطية على أسباب سلوك الجمهور، فقد رافق الموضوع جدل متجدد حول الإبداع والقيود الأخلاقية والدينية والسياسية التي يحاول البعض تكبيل الأعمال الفنية بها.
وذهب بعض خصوم "النهضة" إلى اعتبار ما حصل توجيهاً منها بسبب موقفها المعادي لحرية الإبداع، مع أن الحقيقة أن فترة حكم "النهضة" لم تخلُ من الأعمال المسرحية الناقدة لها مع حصول هذه الأعمال على دعم مادي لم ينقطع من وزارة الثقافة، كما لم تشهد تلك الفترة أي منع لمسرحية بسبب مضمونها الناقد للسلطة، وفي أكثر من مرة استقبل رئيسها وفوداً من الفنانين؛ للاطلاع على مشاكل الفنانين وقطاعهم.
وبغض النظر عن مسؤولية "النهضة" كحزب عما حصل من احتجاج على مضمون مسرحية لمين النهدي في فضاءات التواصل الاجتماعي، فمن المهم تأكيد أن حرية الإبداع من مكاسب ثورة الحرية والكرامة، وأن الفنان الحر وحده هو القادر على الإبداع والمساهمة في النهوض بالمجتمع والرقي به وكذلك مع ضرورة الاعتراض في حال كهذه، فإن الأفضل من السحل المعنوي في مواقع التواصل الاجتماعي لعمل أو فنان أتى بمضمون نرفضه هو الرد عليه بإبداع يضاهي إبداعه أو يفوقه.
يبقى لمين النهدي أحد أبرز الفنانين في تاريخ المسرح التونسي، وتبقى أعماله الناجحة شاهدة على قيمة الرجل الفنية والإبداعية، ورغم ما يعتبره البعض فشلاً في عمله الأخير فإن ذلك لن يلغي تربعه على عرش الكوميديا في تونس.
إلا أن كل هذا لا يمكن أن يحجب على لمين النهدي وأمثاله في عديد من المجالات (الرياضة، السياسة، الغناء..) العديد من الرسائل، أهمها أن التاريخ والخبرة لا يجب أن يكونا سبباً في التساهل لحظة القيام بأي عمل، وأن الإبداع الحقيقي هو الذي يأخذ بعين الاعتبار- دون السقوط في الابتذال- مزاج وتطور ذوق الجمهور المستهدف، والأهم أن جوهر احترام المشتغلين في الفضاء العام لتاريخهم وإنجازاتهم يكمن في اختيار توقيت إنهاء مسيرتهم واعتزالهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.