عام 2004، أخبر كارلوس كيروش الذي كان وقتها مدرب نادي ريال مدريد -في حقبة "الغالاكتيكوس"- المؤلف جون كارلين كيف يرى اللاعبون العظماء المواقف على أرض الملعب.
قال كيروش: "تخيل اصطدام سيارتين. بالنسبة لنا يحدث ذلك بسرعة عادية. إنهم يرون ذلك في حركة بطيئة. يلتقطون الكثير من التفاصيل في نفس الوقت الذي نعيش فيه. يمكنهم أن يحسبوا في أذهانهم تفاصيل أكثر مما يمكنني رؤيته أنت وأنا". أظن أنه لا داعي لتوضيح ما يقصده كيروش بالتفصيل الممل، اللاعبون، ونحن نتحدث بصيغة الجمع، يرون أحداث المباراة بشكل مغاير لما نراه نحن، مقطع تراه بالسرعة العادية بينما هم يرونه بسرعةٍ أبطأ.
إذن، صديقي، دعني أسألك سؤالاً، تخيل معي لبرهة، أن هناك أحدهم، يرى اللعبة بشكلٍ أسرع مما يراه بعض، إن لم يكن معظم، إن لم يكن كل اللاعبين؟ أعتقد أنك حزرت ما ننوي الحديث عنه هنا.
تُعَد مشاهدة ليو ميسي وهو يراوغ الدفاع، ويلعب تمريرة بقاعدة منزلقة عبر مساحة ضيقة بزاوية حادة واحداً من أكثر المشاهد إثارة في كرة القدم، يبدو الأمر كما لو أنه يرى الكرة بشكل مختلف حقاَ، يبدو أن رؤية الأبطال الخارقين وهم يرون الناس بحركة بطيئة لا تقتصر على الأفلام فحسب.
عندما ترى البولغا يراوغ ويدنو من مناطق الخطر، عادةََ لا ترى منه أي شيء يعجز عنه المنافسون، إذن لماذا لا يُمكن إيقافه حقاً ؟ يبدو أن الإجابة قد تكون أن المنافسين لا يمتلكون الوقت من أجل فعل ما يريدون.
نشأت المعرفة الحالية بسلوك "التحديق" في كرة القدم بشكل أساسي من الأبحاث التتبعية في المختبرات العلمية، تَتبُع لاعبي النخبة في مباريات كرة القدم، تم دراسة ما يُدْعَى بالتثبيتات البصرية للاعبي خط الوسط في الدوري النرويجي الممتاز. تم تحليل ما مجموعه 2832 تثبيتاً من قبل خمسة لاعبين، تتراوح أعمارهم بين 17 و23 عاماً. لكن دعنا نتراجع خطوة واحدة، ما هذه التثبيتات التي نتحدث عنها؟ بل الأهم، ما هو سلوك التحديق؟
سلوك التحديق هو ببساطة تحسين معالجة المعلومات المرئية، مما يسمح بالاقتران الأمثل بين الإدراك والفعل، مراقبة الموقف لوقت كافٍ بحيث تستطيع تحليله بالشكل الكافي الذي يمكنك من إيجاد حلول له، نحن نتحدث عن لُب الموضوع عندما يتعلق الأمر بميسي. ويُمَيِّز بحث سلوك النظرات أو التحديق بشكل عام بين الملاحقات السلسة، وحركات العين السريعة (Saccades)، وتتبع المطاردة، والتثبيتات. تصف الملاحقات السلسة تتبع الحركة البطيئة لجسم ما؛ على سبيل المثال، تتبع إصبعك وهو يمر ببطء من رأسك مع إبقاء رأسك ثابتاً. حركات العين السريعة تكون من موضع إلى آخر ويمكن فهمه على أنه انتقال بين التثبيتات.
أما عن التثبيتات، تعتبر التثبيتات أساسية بشكل خاص لفهم سلوك النظرة الذي يدعم الأداء الرياضي. التثبيتات هي حركات العين التي تعمل على تثبيت الشبكية فوق جسم ثابت، وقد وُصفت بأنها "توقف مؤقت باتجاه مواقف تحتوي على معلومات ذات أهمية".
تم تجميع البيانات في مباريات كرة قدم طبيعية، 11 لاعباً ضد 11 لاعبََا، لفريقين تحديداً في الدوري النرويجي، الأول كان يواجه أحد الفرق المحلية، والثاني كان يلعب ما يشبه "التقسيمة" بين لاعبي الفريق والتي تضمنت لاعبي الفريق الأساسي، وكلتا المباراتين كان على ملاعب التدريب الخاصة بالفريقين. ما كان يحدث في التجربة أو الدراسة تلك، هو أن اللاعبين كانوا يرتدون نظاراتٍ مصنوعة خصيصاً لتسجيل رؤية اللاعبين على أرض الملعب، لنوضح أكثر، تلك النظارات تسجل في مقطع مرئي كل ما يراه اللاعب بعينيه على أرض الملعب، تلك التسجيلات كان الهدف منها قياس بعض المتغيرات الخاصة بالتثبيتات آنفة الذكر لكي يتم تتبع سلوك اللاعبين في تلك المواقف.
أظهرت النتائج أن لاعبي خط الوسط المتميزين في كرة القدم كانوا مراقبين أكبر للموقف عندما توافرت معلومات أكثر فيه. بالإضافة إلى ذلك، هذا قابله فترات تثبيت (مراقبة) أقل. علاوة على ذلك، تم العثور على فروقات ذات دلالة إحصائية في سلوك التحديق بين مرحلتي الهجوم والدفاع لمواضع المراقبة، وعندما تكون الكرة قريبة أو بعيدة.
كان متوسط مدة التثبيت أقل مما تم الإبلاغ عنه سابقََا في تصميمات الأبحاث المختبرية، وكذلك التصميمات في الموقع في الرياضات الأخرى. علاوة على ذلك، كشفت النتائج أن لاعبي خط الوسط النخبة لديهم فترة تثبيت أطول عندما تتوفر المزيد من مجالات الاهتمام لهم. وأخيرََا، كانت مواضع المراقبة بشكل أساسي تركز على الكرة ثم الخصم ثم زميله ثم اللاعب الذي يمتلك الكرة. مجتمعة، تعزز نتائج هذه الدراسة معرفة كيفية استخدام لاعبي كرة القدم المتميزين لرؤيتهم عند اللعب في ظل ظروف لعب المباراة الفعلية. يقترحون أيضاً أن الظروف المختبرية قد لا تكون قادرة على التقاط البيئة الديناميكية التي يختبرها لاعبو كرة القدم في المنافسة.
"ميسي وهوليوود، عندما جسَّد كيانو ريفز شخصية ميسي دون أن يدري".
"إنه عبقري.. إنه كالمصفوفة"
ربما لم يحسن إنريكي وصف ميسي هنا، لكن المغزى كان واضحاً من حديث لويس، الرجل يشير إلى مشهد الفيلم الشهير الذي صدر عام 1999، ذا مايتريكس، الذي كان يتحدث عن عصور سيطرة الآلة على العالم واستعباد البشرية وتحويلهم بالمعنى المجازي، وحرفي إلى حد كبير، إلى بطاريات عملاقة، لا أكثر ولا أقل، بدون اختيار، بدون قرار، بدون حرية.
لكننا لسنا بصدد نقد الفيلم، نحن بصدد الحديث عن المشهد الشهير، الذي تفادى "نيو" أو السيد "أندرسون"، لطالما رأيت السيد "آندرسون" أكثر جاذبية نوعََا ما فيه طلقات حيَّة عن طريق حركات سريعة جدََا، لكن تم تصويرها ببطء شديد، رغم أنه في الواقع، تحركات "نيو"، كانت أسرع من العادي، أنت تعلم ما عليك فعله الآن، عزيزي القارئ. ضع اسم ليو بدلاً من نيو، ستجد أنه ليس ثمة فارق بين الإطارين؛ لأن هذا هو ما يفعله ميسي، ميسي يقضي بعض الوقت في بداية العديد من اللقاءات ليس في الركض للضغط عكسيََا، ليس في التسليم والاستلام والمراوغة، بل يقضيه في مراقبة نمطية المنافس.
في مباراة برشلونة وأتلتيكو مدريد في الكامب نو، موسم 2014/2015، كان أحد الحضور هو سايمون كوبر، مؤلف كتاب "سوكرنوميكس" والعديد من الكتب الأخرى، وكان يجلس بجانب أحد مسؤولي البارسا، لم يقل المسؤول أي شيء في بداية المباراة سوى جملة واحدة: "شاهد ميسي". يقول كوبر إنه كان مشهداً غريباً. منذ البداية، ذهب ميسي في جولة حول دفاع الخصم، متجاهلاً الكرة على ما يبدو على حد تعبير كوبر.
أوضح المسؤول أنه في الدقائق القليلة الأولى، كان فقط يتمشى عبر الميدان. إنه ينظر إلى كل لاعب من الخصم، أين يقفون، وكيف يتناسب دفاعهم معاً. كان ميسي يخزن ملاحظاته في ذاكرته البصرية. في وقت ما من الدقائق الافتتاحية، مرر قلب دفاع برشلونة خافيير ماسكيرانو إليه، ولم يفعل شيئاً سوى أنه تحاشى عن الكرة ومررها تمريرة عابرة في اللمسة الأولى. لم يكن مستعدََا للعب بعد.
في تصريح لبيب غوارديولا: "بعد خمس أو عشر دقائق، تصبح لديه الخارطة التي سيتبعها في عينيه وفي رأسه، ليعرف أين المساحة التي عليه استغلالها وكيفية استغلالها".
في الثامن عشر من يونيو/حزيران عام 2005، قابل الصحفي الشهير سايمون كوبر ميسي لأول مرة في حياته، عندما أكمل عامه الـ20 وقتها، في نصف نهائي كأس العالم تحت 20 سنة أمام البرازيل، وحضر كوبر المباراة وشاهد ميسي، وعلى لسان كوبر، تلك كانت ملاحظاته في البداية: "اللعب كمهاجم وحيد. ليس نشطََا جداً في التحرك بدون الكرة، فهو يتدلى بلا حراك كثيراً، ورأسه لأسفل".
لا أظن أننا نحتاج لتوضيح ما يفعله ميسي هنا، لكن ما نحتاج إليه، هي ملاحظات كوبر، كما يلي: "لكن بعد ذلك، في الدقيقة السابعة، يفعل ميسي شيئاً ما لأول مرة، تُمرر له الكرة على بعد 30 ياردة من المرمى، ويسرع متجاوزاً خصمه ويسددها مقوسة إلى الزاوية العلوية بقدمه اليسرى من خارج منطقة الجزاء. ميسي هو الرجل الوحيد على أرض الملعب الذي يراوغ المنافسين بشكل متكرر. الجمهور يحبه عندما تكون الكرة بحوزته. متسق للغاية، مركز؛ لا يضيع الكرة، دائماً لديه تمريرة ذكية، هو أكثر نضجاً من الأطفال الأكبر الذين يكبرونه سنََا. أتمنى أن يشارك ميسي نفسه في المباراة أكثر قليلاً؛ لأنه ليس مجرد هداف، لكنه أفضل ممرر للأرجنتين".
الأمر ليس وليد اللحظة، أو بدأ في مرحلةٍ متأخرة في مسيرته، ميسي كان عبقريََا منذ الصغر، ما يفعله في تبطيء سرعة اللعب في رأسه، تحليل الخصم، رؤية الأنماط المتبعة دفاعياً، الثغرات فيها، الخطوة التي يجب أن يتخذها لفك الاشتباك، ومن ثم يشرع في التنفيذ. كل ذلك يجعل ميسي في مستوى آخر، لاعب كرة قدم مهمل بشكل غريب، كما قرأت! لقد كان لامعاً بشكل متوقع لفترة طويلة لدرجة أننا وصلنا إلى اعتبار تألقه أمر مفروغ منه، وهو أمر يجب رفضه في عبارة.
نحن هنا لا نتعامل مع بشري، نحن نتعامل مع رادار عالي التردد، يعيش بيننا على هيئة كائن بشري، ربما هو يرصد ما أكتبه الآن ليقول لي بعد خمس دقائق إن ما أكتبه هو عبارة عن هراء، بالتأكيد لا أتمنى ذلك، لكن بعد إعادة التفكير، من يرفض لقاء ميسي حتى لو سيقوم بالعراك معه؟
كيف يرى عقل ميسي كرة القدم بشكل أسرع؟
أعتقد أن هذا السؤال قد تبادر إلى ذهنك عدة مرات أثناء قراءة المقال، وفقََا لأكسندر تودوروف -أحد الباحثين بشيكاغو بوث- فإن التعرف على المحفزات البصرية لا يَحْدُث على الفور كما يعتقد الكثير من الناس، ما يَحْدُث هو أن الدماغ يعطي الأولوية للمعلومات من أجل الوعي، لكن كل دماغ يحدد الأولويات بشكل مختلف، فترى أحدهم يرى الأحداث أسرع مِنك، مستدلين بتجربة أجروها شملت عشرات الطلاب بالجامعة العبرية، أفادوا بأن هناك اختلافات ذات مغزى في مدى سرعة رؤية الناس لشيء ما؛ لأن أولئك الذين يلاحظون المحفزات البصرية بسرعة قد يكونون أكثر وعيََا من غيرهم.
يَمر عقل ليونيل بثلاث مراحل، الترميز وهو كيفية إدخال المعلومات إلى الدماغ، والتخزين وهو تذكر المعلومات بمرور الوقت، والاسترجاع وهو كيف نحصل على المعلومات من الدماغ، قد تساعد هذه العوامل في تفسير سبب اختلاف الذكريات من شخص لآخر، تساعد هذه العوامل ميسي على تذكر "السياق" تشير الدراسات إلى أننا إذا حضرنا عنصراً ما وسياقه، فإننا نتذكر العنصر بشكل أفضل مما لو حضرنا العنصر وحده.
خدمة نيوتن الذهبية
لا يوجد ثمة مَن لا يعرف إسحاق نيوتن، عالم الفيزياء الكبير، أعتقد أنك تتساءل الآن ما علاقة كل هذا بليو، دعنا نجِبك، فسَّر العلماء أن أحد أسباب مراوغة ميسي الساحرة هو الجاذبية، حيث يساهم مركز ثقل جسم ليونيل في توازنه المذهل، مما يمكِّنه من تحقيق مزيج مثالي من التوازن والرشاقة والسرعة.
حقيقةََ وبعد بحث مطوَّل، فمن الناحية الميكانيكية الحيوية، ستكافح من أجل إنشاء شيء أكثر كمالاً في المختبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.