منذ اطلاعي لأول مرة على مضمون حملة "يا مسافر وحدك" التي تتحدث عن الغربة، التي أطلقها موقع "عربي بوست"، ظل طيف شخصية عربية فذة يحوم حولي لدرجة أنه غطى على فكرة رئيسية لا مفر منها وهي محاولة سرد تجاربي الشخصية المتواضعة في هذا الصدد؛ صحيح أن تجربة وقصة المخرج العالمي مصطفى العقاد لا تخفى على القاصي والداني وهي المكتنزة بالعبر ويمكن أن تجسّد مصدر إلهام للشباب العربي ممن تجدهم ليل نهار يغنون عن الغربة والهجرة وبعضهم لا يتجاوز العشر سنوات ويردد مضامين كبيرة مستوحاة من أغاني الراب وغيرها دون حسيب ولا رقيب بالطبع؛ لكن ماذا لو دققنا في نموذج مصطفى العقاد الجدير بالدراسة والطرح؟
لا سيما أننا نتحدث عن رحلة كفاح وإصرار وتشبث منقطع النظير بالأصل غير المعادلة "الكلاسيكية" التي تفيد بتأثر القادم من بلادنا العربية نحو الغرب وانسلاخه عن هويته وكل ما يربطه بمكان نشأته، حيث إن الطرف الآخر هنا هو من انحنى احتراماً وتقديراً لثقافة هذا الشخص وفتح له أبوابه للإبداع بعد أن أثبت أنه بالفعل شخصية عبقرية تحمل زاداً ورؤية عظيمة.
محطات في حياة مصطفى العقاد
إذاً لماذا لا نستعرض بعض المحطات المهمة في مسار ابن حلب الشهباء الذي ودعه والده في المطار بمبلغ 200 دولار ونسخة من القرآن الكريم بعد أن ظل يلح على اختيار دراسة الإخراج في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة سنة 1954 وتخرج فيها بعد أربع سنوات طالباً متفوقاً لفت أنظار الجميع؟
قبل ذلك كان مصطفى العقاد قد انتصر على كل محاولات الإحباط والتقزيم التي تعرض لها إثر مجاهرته بعشقه للفن ومجال الإخراج تحديداً ما عرضه للسخرية من كل الاتجاهات، فيما اكتفى بعض المحفزين بحثِّه على اختيار القاهرة أو دمشق كمحطة أولى، لكنه أبى وأصرّ على أن هوليوود تنتظره لينجح في إقناع والده المتردد، أو بالأحرى الرافض لهذا التوجه البعيد كل البعد عن تخصصات العائلة.
تأثر مصطفى العقاد بجاره الحلبي الذي كان يعمل مشغلاً لآلة العرض السينمائي في إحدى دور السينما، وتعلم منه كيفية عرض الأفلام وطريقة قصّ المشاهد الممنوعة لتبدأ رحلة العشق هناك دون أن يدور في خلد ذلك الجار أنه ساهم في اكتشاف موهبة من العيار الثقيل ستجتاح أعمالها العالم بأسره.
ومن النقاط اللافتة في بداية مشوار العقاد أن أول فيلم قصير أخرجه وهو ما يزال طالباً كان يحمل اسم "قصر الحمراء"، وهذا يكشف بالملموس أنه ظل يحمل معه منذ البداية هموم أمته وقضاياها حتى في وسط ومحيط غريب ويمكن أن يقابل باستهجان تلك المواضيع.
وعمل مصطفى العقاد مساعداً لاسم لامع هو ألفرد هتشكوك فور تخرجه في الجامعة قبل أن يشق طريقه وينتبه لعلاقة الأمريكان بالرعب، فقدم لهم ثمانية أجزاء من السلسلة الشهيرة "هالوين" منذ سنة 1978.
لكن تلك النجاحات لم تثنِ المبدع السوري أو تشغله عن أمته ليبدأ مرحلة جديدة مليئة بالعراقيل لكن نهايتها جاءت سعيدة، بل وخالدة من خلال فيلم "الرسالة" الذي اكتسح أمريكا وشغل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وطرح بنسختين عربية من بطولة المصري عبد الله غيث والسورية منى واصف ونخبة من مواهب الوطن العربي اصطادتهم عدسته المبهرة وأخرى إنجليزية كان نجماها أنتوني كوين وإيرين باباس.
وفي سنة 1981 واصل العقاد إبهاره الجميع من خلال فيلم "عمر المختار؛ أسد الصحراء" وهنا نتذكر جوابه التاريخي والذكي عندما سألوه: "لماذا لم تأتِ ببطل مسلم ليجسد دور عمر المختار وأتيت بالنجم أنتوني كوين؟"، فقال لهم: "لكي يقتنع الغربيون بقضيتنا وبالظلم الذي لحق بنا، لا بد من تقديم قضيتنا من خلال وجوه يعرفونها ويحبونها، فلا أحد في الغرب سيشاهد فيلماً عن العرب يقوم به العرب، ولكن بهذه الطريقة نقوم بلفت نظرهم وحثهم على مشاهدة ما نقدمه وبالتالي تفهم حقيقتنا ومعرفة قضايانا".
معاناة خلف النجاح ثم رحيل مأساوي
وقبل أن يودع مصطفى العقاد عالمنا بطريقة مأساوية رفقة ابنته ريما في تفجيرات عمّان الإرهابية سنة 2005 كان يسعى جاهداً لمواصلة سلسلة أعماله الهادفة من خلال فيلمين عن حقبة الأندلس، والآخر عن شخصية صلاح الدين الأيوبي (كان الفنان شون كونري مرشحاً لتجسيد الدور) لكن يد الغدر طالته وحرمتنا من إبداعاته.
ورغم الصورة الوردية والنجاحات الكبيرة لأفلام العقاد، هناك جانب خفيّ لا يجدر بنا تجاوزه ويكمن في كمّ المعاناة التي كابدها الرجل من أجل بلورة أحلامه على أرض الواقع؛ إذ تعرضت أعماله للتضييق والمنع ووجد صعوبات جمّة في الحصول على التمويل الكافي لمشاريعه التي تمثل هذه الأمة؛ وهنا نتساءل: كيف لشخصية ناجحة ويمكن أن تساير مشوارها في هوليوود دون منغصات وتحصل على كل ما تريده من خلال مشاريعه هناك أن يترفع عن كل تلك الرفاهية وينخرط في البحث عن "متاعب" هو في غنى عنها فقط من أجل قضايا أهله وأمته؟
وهنا تكمن عبقرية مصطفى العقاد، وهو خير مثال يجب أن يطرح لشباب اليوم ويقدم لمن رفض تغيير اسمه من أجل الحصول على فرص أكبر في أمريكا ورد بالقول على سؤال: "لماذا لم تغير اسمك لتجد فرصاً أفضل؟"، فقال: "كيف أغيره وأنا قد ورثته عن والدي؟".
دروس مصطفى العقاد لا تعد ولا تحصى؛ وما يحتل مخيلتي وأنا أشاهد واقع الفن العربي اليوم هو: كيف كان سيعامل هذا المخرج الأسطوري لو ظل حياً في زمن السخافة الذي نعيشه حالياً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.