لا تصنّف نفسك ولا تتعامل مع الناس على أنهم “قوالب”.. كيف تعيش حياة بعيدة عن التفكير السطحي؟

تم النشر: 2022/08/02 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/02 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
الشباب والتفكير في الحياة - تعبيرية/ Shutterstock

تمتاز أعوام الشباب الأولى بالفكر القطبي "إما، أو"، نرى الأشياء أبيض وأسود، ونرى الأشخاص شياطين وملائكة، ونبحث عن قائد روحي يطلق أعلى التصريحات صوتاً وأعنفها متناً.

ولهذا، قد تغرم في شبابك بفلاسفة مثل نيتشه، وهو من هو في التصريحات الدوغمائية العنيفة.

إنها مرحلة من التخبط على أية حال.

أنت حائر أمام العالم ساخط عليه، ترغب في أن يراك الناس، أنت صغير تخشى الطرقات، وتملك قلباً رقيقاً ينبض باضطراب وبوتيرة سريعة، وعقل وثّاب خفيف كبالون، عقل لم تثقله بعد الهموم والتجارب.

في تلك الفترة لا بد أن فكرتك عن ذاتك نفسها لم تتكون، أنت آخر شيء قرأته أو سمعته أو رأيته، أنت آخر قصة حب مررت بها، وأدركت أن مصر ليست مكاناً للرومانسية، أو أن تلك الأخيرة قد تم تخصيصها وحصرها على طبقات بعينها، طبقات قد ترغب في نوعٍ آخر من الرومانسية الإيجابية، لا الرومانسية العاجزة التي تفضلها.

ولهذا ليس من العجب أن تجد الجماعات المختلفة ضالتها في تلك السن، ليحشدوا أولئك الشباب في أقرب حافلة تقودهم للوجهة التي يرغبون فيها، ولهذا يفتن الشاب الذي يشعر بالعجز، وقلة الحيلة والحول بمن يُنَصِّبه ظلاً لله على الأرض، ويلقبه بأبو فلان أو علان، ويعطيه سلاحاً كي يحارب الحرب المقدسة، فإما الحياة مع الانتصار واكتساب المكانة، وإما الموت والظفر بالحور العين.

لمن نوجه أصابع الاتهام؟

لكن من هو العدو هنا؟ من يلام على كل ذلك التخبط؟

إنها الأيديولوجيا، إنها القولبة، إنه التصور العقيم بأن براح العالم يمكن أن يتسع له عقلنا القاصر محدود المكان، وأن المحيط يمكن أن تضمه قارورة هشة.

يقول أحد الشخصيات في فيلم كثيب (Dune) المقتبس من رائعة فرانك هربرت التي تحمل ذات الاسم: "إن لغز الحياة ليس مشكلة تتطلب الحل، بل واقعاً يجب أن يعاش. هي عملية لا يمكن فهمها عبر إيقافها، علينا أن نساير تيار الأحداث، بل أن ننضم له ونتدفق معه".

ينطبق هذا المفهوم مع محاولتنا لإدراك الوجود وأي معانٍ مجردة به، قل لي عزيزي القارئ كم مرة سألت نفسك الأسئلة على الشاكلة التالية:

من أنا؟

أين الله؟

ما الله؟

ما هو الحب؟

ما هو الطريق الأمثل للعيش؟

إن المعضلة هنا أن ذاتك جزء من الوجود الذي تود فهمه، لو نظرت خارجك ستحاصرك الأسئلة في كل مكان، ولو نظرت داخلك سترى ذاتك مجموعة من الأعصاب والمواد الكيميائية التي تتحكم في مشاعرك وتقود عقلك.

لكنك -إن اكتفيت بتلك النظرة- فستصل إلى حالة ضالة من العدم، ولربما تنغرس في مستنقع الحيوانية وتضيع خطاك.

انظر فيما وراء الكيمياء وكيس اللحم الذي ترتديه وترى العالم ويراك العالم من خلاله، وستجد صوتاً خفيضاً يتحدث، وكأنها الأشعة الكونية الضعيفة خفيضة التردد وسط النجوم الصاخبة، والسدم الباهرة، وتراب الأرض، تحاول أن تحكي لنا قصة نشأة الكون.

خلف كل تلك الأسلاك والمواسير والدماء كريهة الرائحة ستجد روحاً، روحاً لا تتحرك في الزمكان المادي مثلما يفعل الجسد، روحاً كروح الكون لن تفهمها إلا إذا تنازلت عن محاولتك المغرورة والمتوترة والمتعجلة اللاهثة إلى الفهم.

لا تتقولب!

ونعود للأيديولوجيا من جديد، تلك اللعنة التي تضيع كثيراً من الطاقة في الفراغ، وتتسبب في كم مضنٍّ من التعاسة.

فأنصحك وإياي ألا تتقولب، ألا تنتظر حتى تفهم كل قواعد اللعبة قبل أن تبدأ في اللعب، لأن اللعب ذاته هو الهدف، لا ما يمكن أن تصل إليه في نهاية اللعبة.

إن اللعبة ستنتهي في جميع الأحوال، نهاية متوقعة وحتمية، لهذا لا تضيع وقتك في محاولة الفهم، اختبر وجرب ما تستطيع تجربته، كن انعكاساً لذاتك المعقدة التي لن تستطيع استيعابها كلياً.

لكن، لا تكن ذاتك وحسب، إن هذا لن يساعدك على التطور، بل كن ذاتك الأفضل.

في كل تصرف أو فعل تعلم أن تسلك مسلكاً أفضل، مسلكاً تتطور به ذاتك لا مسلكاً بعيداً عن طبيعتك.

لا تضع عقلك أو الناس أو الحياة في قوالب، احمل كومة من الأسئلة وتعلّم المزيد عن العالم، لكن لا تَقطَعنّ أنفاسك بحثاً عن الإجابة.

ولا يعني هذا الوصول لحالة من اللااكتراثية، بل إن جل ما أقوله إن عليك أن تظل باحثاً دائماً عن إجابات وأن تشكك في إجاباتك.

إنك ربما لن تجد اليقين أبداً، لكنك قد تقترب منه يوماً بعد يوم، إن مشاكل العالم كبيرة للغاية على أن تحلها أيديولوجيا واحدة، بل يمكنني أن أقولك لك إن الغالبية العظمى من مشاكل البشر تحتاج لمئات العقول التي تحلل وتفكر مرة بعد مرة للوصول لحلٍّ مناسب.

ما أرمي إليه يا صديقي -في حال أصابتك الحيرة من مقالي- أن عليك التخلص من الرغبة الملحة في التحكم الكامل والفهم الكامل.

عندما تتيقن من أنه لا يقين ستقنع بالحقائق التي يصل إليها عقلك بعد تفكير وستقنع بما تقدر قبضتك الضعيفة على الإمساك به، وسيكون لديك فرصة دائماً للاقتراب من الحقيقة، فالبحث عن الشيء هو من أصل الشيء، والسعي وراء الحقيقة يقربك منها كل يوم.

في النهاية، إنه من الصعب الكتابة عن واقع غير ملموس وإن كان حضوره قوياً، واقع ندركه في ذواتنا ولا يمكن إخضاعه للتجربة الموضوعية (أي الخارجة عن نطاق تجربتنا الذاتية).

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد خالد عبدالوكيل
مترجم مهتم بالفلسفة والعلوم
تخرجت في كلية التجارة جامعة القاهرة قسم المحاسبة، حصلت على دبلومة في الترجمة القانونية والاقتصادية وترجمة الأمم المتحدة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عملت لسنوات كمترجم قانوني ولي خبرة في الترجمة والتحرير الصحفي للأخبار والتقارير الاقتصادية
تحميل المزيد