الهضبة، كما يلقب عمرو دياب في الوسط الفني، دائماً يفاجئنا، وهذا هو سر استمرارية نجاحه وشهرته التي تجاوزت البلاد العربية، فعمره الآن تجاوز الستين، أما عمره الفني فيقارب الأربعين سنة. مع ذلك، فهو لمّاح، ذوّاق، دائم التجديد، رجل أعمال بارع، وأشدد على أنه الفنان العربي الوحيد الذي حافظ على ثبات مستواه الفني العالي، والأهم، وإن كان ظني في محله، فهو قد اكتشف إكسير الشباب واحتكره لنفسه.
أول مرة شاهدت فيها عمرو دياب يغني، كان في قصر الثقافة في عمان في أواخر الثمانينيات. تطلب الموضوع بعض الجهد من أختيّ التوأمتين اللتين تصغراني بعدة سنين، لإقناعي بحضور حفلة لمغنٍّ مصري مغمور، على الأقل بالنسبة لي، لأني في ذلك الوقت كنت ضائعة في عالم البوب البريطاني والأمريكي.
كنت جالسة بهدوء خلال الحفلة، أسمع للمرة الأولى لأغانيه، ولاحظت أن معظمها ذات إيقاع شعبي مصري شبابي، إلى أن جاء دور أغنية "ميَّال"، فبدأ بعزف مقدمة الأغنية بنفسه على الأورغ مع ابتسامة عريضة على وجهه الجذاب، والتي تشير إلى ثقته الكبيرة بنفسه، وبدأ بالغناء متفاعلاً مع الجمهور العريض، وملأ المسرح الكبير رقصاً وأنغاماً جميلة وخفيفة الظل، وفجأة قفز من فوق المسرح إلى حيث مقاعد الجمهور، وبدأ بالركض وهو يغني بطول الممر المؤدي إلى المقاعد العلوية للدرجة الثانية، وتوقف أمامنا مباشرة، وأكمل غناءه وقام بتحيتنا، ثم تراجع إلى الخلف وقفز بخفة على المسرح، وانتقل إلى أغنية أخرى.
بعد ذلك، تابعت باهتمام المسيرة الغنائية لعمرو دياب، وبصراحة، لاحظت أن أغانيه ذات الإيقاع الشعبي المصري صارت تتكرر مع مرور الزمن، كنت أعرف أنها أغنية عمرو دياب عند سماعي المقدمة الموسيقية حتى قبل أن يبدأ بالغناء.
في منتصف التسعينيات طرح أغنيته "حبيبي يا نور العين" والتي انتشرت عربياً وعالمياً، وقيل إنه نجح بتطوير شكل الأغنية العربية من خلالها، وتتالت أغانيه ذات الطابع الإسباني لسنوات طويلة، حتى بدأ تأثير موجة الاقتباسات من الأغاني الأجنبية تؤثر عليه، وطبعاً كان مصدرها بعض الفنانين اللبنانيين، الذين كانوا يقتبسون أنغام "الأصنصيرات" ويرّكبون عليها الكلمات ويعيدون غناءها، أو يقتبسون مباشرة من الألحان التركية واليونانية والإسبانية، دون أن يبذلوا أي جهد في تعديلها لتناسب المزاج العربي.
عودة إلى عمرو دياب من جديد
بدأ شغفي يعود تدريجياً لسماع موسيقى عمرو دياب في عام 2010، عند سماعي لأغنية "أصلها بتفرق"، وأتفاجأ اليوم بأنها من تلحين عمرو دياب، بعد ذلك في عام 2017، لفتت انتباهي أغنية "يا أجمل عيون" ولكن لأن طابعها إسباني، أجبرت نفسي على تجاهلها، مع أني كنت أحياناً أسترق السمع إليها باستمتاع. أصدر بعدها في عام 2018 أغنية "يتعلموا"، حينها نشرت على حسابي الشخصي على الفيسبوك، فيديو تلك الأغنية، مع تعليق يقول: "بعد غياب طويل… عمرو دياب يُدخل الفرحة لقلوبنا بأغنيته الجديدة"، وأتبعها بأغنيته الجميلة "بحبه".
ثمّ، فاجأنا بأغنية "ده لو اتساب" والتي كلماتها ولحنها يختلفان عن الأسلوب الغنائي لعمرو دياب، والذي في العادة يتسم بالطابع الرومانسي الراقص. جاءت اللحظة الكبرى عند سماعي لأغنية "تحيرك" في عام 2019، فقد جذبتني منذ اللحظة الأولى لسماعي لها، كلماتها بسيطة ومعبرة، أنغامها سريعة، وصوت عمرو دياب يرتفع وينخفض فيها، ولكن بانسيابية جميلة.
مرت عدة شهور، وسمعت لأول مرة أغنية "في أماكن السهر"، عندها رأيت بصيص أمل، وارتسمت ابتسامة فورية لا إرادية على وجهي انتشلتني من حالة الملل والوجوم، لأني أحسب أني كنت أمر وقتها بحالة شقاء نفسي، نتيجة حسن ظني. حصلت هذه الدراما، كالعادة، وأنا جالسة في سيارتي أنتظر الإشارة الخضراء في عز أزمة الظهيرة في عمان.
تتابع إصدار أغاني عمرو دياب الضاربة وبكثافة منذ عام (2019) إلى عام (2022)، وانتشرت بشكل منقطع النظير، أذكر منها، "قدام مرايتها" و"يوم تلات" و"سهران" و"إنت الحظ" و"إنتي لسة زي ما انتي"، وأخيراً "زمن المجاملة".
الذي لفت انتباهي، أن هناك اسمين يتكرران ويشتركان في جميع هذه الأغاني الجميلة، فكاتب الكلمات هو الشاعر تامر حسين، أما الملحن فهو عزيز الشافعي. عندما بحثت عن هذين المبدعين ووجدت أنهما بالإضافة لعمرو دياب، فقد شاركا فنانين مشهورين آخرين، مثل روبي ومحمد حماقي وتامر حسني وشيرين في أعمال ناجحة.
لم أكن أعلم أن تامر حسين هو أحد أكثر الشعراء الذين تغنى عمرو دياب بكلماتهم، ولم أعلم أن الأغنية الضاربة "يا منعنع" في عام 2015 ولمطرب اسمه "مصطفى حجاج" كانت من ألحان عزيز الشافعي. كم أتمنى أن يسمعني عزيز وتامر وأن يعطوا بعض الأهمية للأغاني العاطفية القصيرة، ويخصصا بعضاً من أغانيهم لفضل شاكر وجوزيف عطية ونداء شرارة، وأخصهم بالأفضلية؛ لأنهم حسب ظني يملكون أوتاراً صوتية تختزل الشجن من بين جميع مطربي ومطربات ما بعد الزمن الجميل.
هل نحن أمام طفرة غنائية جديدة تشابه طفرة السبعينيات والتي قادها عبد الحليم حافظ برفقة الموسيقار بليغ حمدي والشاعر محمد حمزة، ونتج عنها روائع غنائية مثل "مداح القمر" و"موعود" و"سواح" و"زي الهوى"، و"أي دمعة حزن لا"، لكن هذه المرة يقودها عمرو دياب مع عزيز الشافعي وتامر حسين؟
من الجميل أن هذه الطفرات الغنائية النادرة يمكن أن تأتي كل نصف قرن أو لا تأتي أبداً. يلاحظ أيضاً أنها تعمل كحافز للمنافسين للتفوق في أعمالهم الفنية، فالأغاني الجديدة لعمرو دياب في عام 2022، شهدت تعاون تامر حسين والملحن "مدين" في إحداها، وهي أغنية "اللي يمشي يمشي"، وقبلها تعاون الملحن محمد يحيى مع الشاعر الكبير، أيمن بهجت قمر، في أغنية "أحلى ونص".
بصيص أمل
وأعود إلى أن تأثير أغنية " أماكن السهر" لم يكن هامشيا كما تخيلت، بل أعطاني جرعات إضافية من الأمل بأن عمرو دياب سينجح في إمتاعنا بالبقية الباقية من عبقريته الفنية وهو في خريف العمر، على العكس من مايكل جاكسون الذي انهار وفارق الحياة في عام 2009 نتيجة الضغوطات التي تعرض لها في التحضير للمائة حفلة التي كان ينوي إقامتها في جولته الموسيقية (This is it) خلال العامين (2009) و(2010)، في ملعب (O2 Arena) في لندن، والذي يتسع لخمسين ألف مشاهد، بعد أن بيعت تذاكر الجولة بالكامل قبل موته. كانت خيبة أمل كبيرة لي وللتوأمتين، لأننا كنا نحضّر للسفر إلى لندن لمشاهدة إحدى حفلات جولته هذه، ولكن للأسف لم تنجح خطتنا.
لنرجع إلى "الهضبة" وتساؤلي الأخير، هل هناك احتمال بأن لعلاقته بدينا الشربيني، والتي بدأت في عام 2019 وانتهت عام 2021، دوراً محورياً في عودته المظفرة لقمة الغناء العربي في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين؟ دينا تصغره بحوالي ربع قرن، ولا أظن أن انجذابه كان لجمالها العادي، بل كان لذكائها وخفة دمها وتلقائيتها، وأركز على الأخيرة؛ لأنها عملة نادرة في عالم الفن العربي.
أظن أن علاقتهما كانت مربحة للطرفين، (Win-Win Situation) كما يقول الأمريكيون. هي كانت تمر في حياتها الشخصية بمراحل فوضوية ومضطربة، ولم تكن مسيرتها الفنية بأحسن حال، فقد كانت تتلخص بالتمثيل في أعمال الدرجة الثانية. وهو كان يعاني، بحسب ظني، من فقدان مصدر الإلهام بعد اقترابه من الستين، وتدهورت الأمور أكثر عند اجتياح موجة أغاني المهرجانات مواقع التواصل الاجتماعي وتصدرها لقوائم الأغاني العربية.
يقال إنه التقى بها لأول مرة في مهرجان دبي السينمائي في نهاية عام 2016، أظن أنه لاحظ بريق عينيها وأغرته فورة الشباب وأدخلت البهجة والمرح في حياته التي أصبحت يوماً بعد يوم رتيبة ومملة. للأسف، مثل هذه العلاقات لا تدوم طويلاً، فهي تحرق نفسها بنفسها، ولكن بعضها، كالشمعة تحترق لتنشر الفرحة حولها.
فهي، صارت تمثل أفلام الدرجة الأولى ومسلسلاتها. وهو، برأيي، تركها ولم يعد يذكرها، وأصبحت من الماضي، وارتفع بنفسه إلى عالم الإبداع والطفرة الغنائية النهائية، وهذا من حسن حظنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.