أتابع بحرص شديد ما ينشره الخبير الاقتصادي المصري، هاني توفيق، من مقالات وتحليلات اقتصادية، غالباً ما تحتوي نقداً جاداً للسياسة النقدية الرسمية.
ففي فترة انتعاش البورصة المصرية، قبل 9 أشهر (قبل الحرب الروسية على أوكرانيا)، حذّر هاني توفيق من أزمة اقتصادية مصرية، لذا كانت المفاجأة هي استضافة الإعلامي المقرب من النظام المصري، عمرو أديب للسيد هاني توفيق ليبث مباشرة مشكلات ومعضلات الاقتصاد المصري.
بالبيانات والإحصاءات والرسوم البيانية شرح هاني توفيق وجهة نظره، واستفاض في شرح العُقد العويصة في مسائل المالية العامة وإدارة الاقتصاد.
الاقتصاد والأرقام والرسوم البيانية موضوعات ثقيلة على الجمهور العام، بل إن أوساطاً كثيرة من المثقفين تنفي الاقتصاد من الموضوعات الشيقة التي يتحدث عنها التعليم أو الإعلام أو الأدب.
أتفق في الرأي مع تشخيص الأعراض التي ذكرها هاني توفيق، وأقدِّر شجاعته وقدرته على التواصل والإفصاح، ولكنني أقدِّر أكثر دبلوماسيته في تشخيصه النهائي بأن "الخطأ الوحيد" الذي وقع فيه النظام المصري هو تمويل مشروعات طويلة الأجل (غالباً عديمة الجدوى) بقروض قصيرة الأمد.
دعني أشرح لك عزيزي القارئ أعراض المرض، وتشابهها مع أعراض أخرى لنصل إلى تشخيص مرض آخر.
مع بداية تاريخنا المعاصر، أصرت الحكومة، أو بالأحرى النظام السياسي، على الانخراط في الخطة الخمسية الأولى (1960-1965)، مع تجربة الوحدة مع سوريا وخوض مغامرة حرب اليمن، بالإضافة إلى التأميمات الواسعة (التأميم يعني تملك الدولة للأصول مع تعويض أصحابها باختلاف آجال التعويض)، فوصلت مصر إلى عُقدة صعبة في ماليتها العامة وعجز الموازنة العامة والميزان التجاري.
لا يوجد انفصال بين السياسي والاقتصادي، فالقرارات الاقتصادية كانت روافع سياسية، تعمل لخدمة النظام، دون إلحاح أولويات مالية أو دراسات اقتصادية، بالرغم من الطموح الوطني في مشروعات التصنيع!
لكي ندقق أكثر في موضوع التصنيع وفق الخطة الخمسية؛ فلا يمكن بناء فعلاً ألف مصنع إحصائياً في خمس سنوات، ولا من المرجح أن تصير تلك المصانع -بافتراض حُسن الإدارة – رابحة من اليوم الأول، بل تأخذ المصانع سنوات عديدة للوصول للربحية، ما يهمنا هو الإشارة لردة فعل السلطة تجاه فشل الخطة الخمسية.
ردة فعل السلطة كان توجيه الاتهامات السياسية إلى خصومها وبعض حلفائها، فشهدت مصر أوسع حملة اعتقالات سنة 1965 ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فتم اعتقال عشرات الآلاف، وتم توجيه تهم إلى آلاف العناصر، وحُكم على خمسة بالإعدام، منهم سيد قطب.
في العام التالي، شن النظام حملة اعتقالات لأفراد من "منظمة الشباب" من القوميين أو الشيوعيين (!) كما أشرف المشير عبد الحكيم عامر على لجنة تصفية الإقطاع، وطالت الاعتقالات الاقتصادية بعض الأسر الإقطاعية، حتى وصلت لتجار العملة وآخرين، بغرض سياسي وحيد هو إجهاض أية محاولة للاعتراض أو النقض!
أفرج عن أعضاء منظمة الشباب في مارس 1967، وبعدها وقعت الكارثة الكبرى في يونيو.
انتهى المشهد ببيان 30 مارس 1968، الذي تلخص في تخلص عبد الناصر من المشير عامر ورئيس المخابرات صلاح نصر وحلفائهم، وبناء نظام سياسي بولاء كامل له مكان النظام المزدوج الولاءات.
اقتصاد الحرب
بينما مصر تتعامل مع اقتصاد الحرب في أعقاب حرب 1973، حاول النظام السياسي تحت قيادة وإشراف أنور السادات حلحلة تجمد الاستثمار الحكومي وإعادة رسم الأولويات التنموية، فانفجر بركان الغضب في يناير1977، وكأن "نصر أكتوبر" لم يعد مبرراً كافياً لحالة الإفقار الشعبية.
قرر السادات العمل بسرعة لتحرير اقتصاد مصر من أولويات الحرب التي أثقلت كاهل الوطن والمواطن، وأجلت تنفيذ مشروعات الخطة الخمسية الثانية، لكن جاءت مبادرة السادات لزيارة القدس في نوفمبر من 1977 فتسارعت الأحداث انفجرت المعارضة اليسارية والإسلامية وحتى حزب الوفد الجديد.
رد السادات على معارضيه في سنة 1978 كان وعداً، وعد السادات الشعب بأن عام الرخاء سيكون عام 1980!
عندما أتى عام 1980 كانت مصر في أزمة اقتصادية خانقة، عجز ضخم بالموازنة العامة، تفاقم عجز الميزان التجاري، مع الحرب العراقية الإيرانية ارتفعت أسعار النفط وتأثرت الموازنة العامة لدعم الطاقة، أزمة ديون خارجية، والأخطر معارضة سياسية واسعة النطاق!
الحل كان في حملة "إرهاب" على نسق حملة 1965، فكانت اعتقالات سبتمبر 1981، وقبلها صراعات مكبوتة ومكتومة في الطبقة السياسية، وهكذا انتهى السادات "الديمقراطي" باعتقال قادة اليسار واليمين والوسط وبابا الأقباط والإسلاميين ليغلق المشهد على اغتياله في 6 أكتوبر 1981.
شعارات العهد الناصري عادت من جديد في العقد الأول لحسني مبارك، بنفس النتائج الاقتصادية وبسرعة أكبر، أزمة خدمة الدين الخارجي بدأت في 1985، تحولت إلى أزمة عميقة اقتصاديا داخليا وأزمة صرف العملات الصعبة، حتى تعقدت الأمور تماما في 1988!
رد السلطة على التحديات كانت بحل البرلمان المتكرر في سنوات 1984 و1987 و1990 ولو بذرائع قانونية ودستورية، لكن الحل جاء في الصدفة السياسية عندما غزت العراق -حليف مصر مبارك- الكويت في 1990، فتحولت مصر من نادي الفقراء إلى عضو نشط في التحالف الدولي لطرد العراق من الكويت، وبهذا الانحياز والتحول تم غفران نصف الدين الخارجي (25 مليار دولار) وعشرة مليارات دولار للقوات المسلحة (أكبر صندوق خاص) وتدفقت المعونات الاقتصادية والاشتراطات، التي كان من ضمنها الخصخصة وتنشيط البورصة، وتراجع دور الدولة والملكية العامة.
نسخات النظام العسكري
الحق يُقال أن نظام مبارك قاوم الاتجاه بما استطاع إلى لحظة صعود النجل جمال مبارك بثلة توجهات وتحالفات مختلفة في 2002، تلك التوجهات والتحالفات هي ما أتت بحكومة أحمد نظيف، وأيضا بانفجار 25 يناير 2011، ذلك الانفجار الذي لا يمكن إخفاء دور بعض مؤسسات الدولة والطبقة السياسية في اختلاق أزمته وتأجيج الصدام من أجل إعادة ترتيب الأوراق!
أمامنا هنا ثلاثة أزمات بنفس آليات صناعة الأزمة، طموحات فائقة تفوق قدرات الدولة المصرية، تنفذ بواسطة آلة سلطة مغلقة وبيروقراطية عقيمة، لتنتج نفس المشكلات: عجز الموازنة العامة، عجز الميزان التجاري، أزمة ديون داخلية وخارجية، نفس ردود الأفعال من الاقتتال الداخلي داخل عصابة السلطة، أو تعليق الأزمات في رقبة الحلفاء أو الخصوم. تلك أزمة نظام سياسي "وطني" تتطابق تماماً مع أزمتنا الحالية سنة 2022!
فالنظام الحالي مثل نسخات النظام العسكري من سنة 1952 يراهن دائماً أن الشعب سوف يسلم زمامه ورقبته مقابل الإنجازات!
القفزات المحسوبة، أو غير المحسوبة، هي برأي صاحب القرار ثمار النظام السياسي الاستبدادي، اليوم تأتي الأزمة الاقتصادية وجماعة الإخوان في السجون، الإرهاب تحت الضغط الأقصى عسكرياً وامنياً وربما إعلامياً، المعارضة السياسية المدنية من التشرذم والتقطع والضغوط الأمنية والتحالفات "المورطة" التي لا تترك للسلطة خصماً يليق بتعليق الجرس برقبته لتشير إليه أنه سبب أزمتها.
لا وجود للشيوعيين ولا القوميين ولا للإخوان ولا حتى طبقة سياسية متماسكة، بل لا طبقة سياسية متماسكة في الموالاة ولا في المعارضة.
نحن بصدد أزمة مالية تفوق كل أزماتنا الاقتصادية السابقة، وتبدد كل أفكارنا عن الاستقلال السياسي أو الاقتصادي، فها هو النظام السياسي الذي خلق "قطاع عام عسكري" منحل تماما من القوانين أو المراجعة أو المحاسبة، يحاول النجاة ببيع أصول جمعها نظام يوليو بكافة الطرق بمعدل 10 مليارات دولار سنوياً!
كما أننا بصدد طبقة سياسية فاقدة للبوصلة ظلت تبايع السلطة في ترديها المخطط أو الناتج عن إثمار أفكارها كما حدث في 1965 و1978 و 1988!
نحن بصدد أزمة لا يماثلها إلا أزمة الدين العام في 1877! علينا إعادة زيارة تاريخنا، فأحمد عرابي وأصحابه مرتبطون بالأزمة، فالجيش الذي كان منوطاً به تكوين إمبراطورية مصرية، عندما أفلست مصر أبى جيشها التقليص، فقرر محاولة شراء البقاء بالاستيلاء على السلطة فكانت النتيجة مبادلة نصف احتلال باحتلال كامل، وبدلاً من تخفيض تعداد الجيش تم حله كله!
أختتم مقالي بكل ما يزعج الطبقة السياسية والجمهور العام، دين عام خارجي ارتفع من 40 مليار دولار إلى 160 مليار دولار، دين عام داخلي 6 تريليون جنيه، أصول البنوك المصرية الاجنبية سالب 16 مليار دولار، 60% من النفقات العامة لخدمة الدين ( أقساط و فوائد)، نسبة الدين العام الحقيقة (على خلاف ما جاء ببيان مشروع الموازنة العامة) 120% من الناتج العام!
أخيراً خطؤنا الوحيد الذي يفوق كل أخطائنا الكثيرة الأخرى أننا قبلنا دائماً التسليم وتسهيل مهمة الاستبداد مقابل بعض الانجازات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.