منذ وصول الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى الحكم ومحاولات فهم مشروعه السياسي وتفكيك شخصيته لم تتوقف، قال إن قدوته عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وشبّه نفسه ببورقيبة. ولكن حبراً كثيراً سال حول ربط مشروعه وسلوكه بالرئيس الليبي معمر القذافي ونظام حكمه.
في الأسابيع الأخيرة، تعمق هذا الجدل حول الشبه بين نظام سعيد ونظام القذافي بمجرد إعلان الدستور الجديد في تونس، جدل رافقته حملة من التندر على أنصار الرئيس واللون الأخضر الذي يبدو أنه صار "لونهم الرسمي" المعتمد في وثائقهم ومعلقاتهم، وحتى في ملابسهم، حيث عجت مواقع التواصل الاجتماعي بتدوينات ساخرة تربط أخضر أنصار قيس سعيد بأخضر معمر القذافي وأنصاره.
ورغم ما يبدو من اختلاف في بداية مسار الرجلين، بين شاب ينجز انقلاباً عسكرياً ويقود بلاداً غنية بالنفط أكثر من 40 سنة، وأستاذ ستّيني يصل الحكم بنسبة كبيرة في انتخابات ديمقراطية في بلاد تعرف أزمات اقتصادية واجتماعية متواصلة، فإن نقاط التشابه كثيرة أيضاً، حيث يؤكد متابعون كثُر التقاربَ بين شخصيات ومشروع الرجلين، وآخرها ما صدر عن اتحاد القبائل الليبية في بيان لها احتفت فيه بنتائج الاستفتاء على الدستور في تونس، معتبرة إياها خطوة نحو ترسيخ الديمقراطية الشعبية المباشرة، وأكدت من خلال البيان التطابق بين مشروع سعيد في تونس ونظام اللجان الشعبية في ليبيا.
الديمقراطية المباشرة نقطة تشابه أساسية
لم يصدر بيان اتحاد القبائل الليبية منفصلاً عن سياق تشبيه نظام البناء القاعدي الذي يبشر به قيس سعيد بنظام اللجان الشعبية الذي اعتمده معمر القذافي، فمنذ إعلان سعيد رؤيته لإدارة الحكم في تونس، لم يتردد مختصون في ربط المشروعين ببعضهما.
تقوم اللجان الشعبية في ليبيا حسب الكتاب الأخضر الذي اعتمده القذافي دستوراً ومرجعية منذ سنة 1976، على نظام يسقط كل الوسائط من أحزاب ومنظمات وجمعيات، ويمكّن الشعب من إبداء الرأي في القضايا التنموية والسياسية من خلال اختيار ممثليه في مؤتمرات شعبية أساسية تنتخب لجاناً شعبية تنتخب بدورها اللجنة الشعبية العامة، وهو الشأن بالنسبة للنظام الذي يقترحه قيس سعيد لاختيار مجلس الأقاليم والجهات المنصوص عليها في القسم الثاني من دستوره الجديد، بعد انتخاب المجالس المحلية والجهوية بصفة مباشرة من الشعب.
وحثّ البيان الصادر عن اتحاد القبائل الليبية الشعب على استعادة شرعيته التي هيمنت عليها أجسام فاشلة حولت البلاد إلى حلبة صراع واقتتال بالأسلوب نفسه الذي خاطب فيه سعيد الشعب التونسي في أكثر من مناسبة بأسلوب يميزه الاستعلاء، متهماً البرلمان والأحزاب السياسية بالسطو على إرادة الشعب وإهدار مقدراته والفشل في إدارة الشأن العام.
الاستعلاء على النخب وإلغاء الوسائط
ومنذ توليه الحكم لم يتوقف قيس سعيد عن اعتماد مفردات خطاب عنيفة ينعت من خلالها خصومه والمؤسسات الممثلة لهم بأبشع النعوت، وللوهلة الأولى وأنت تستمع إليه واصفاً لهم حيناً بالحشرات المتربصين بالبلاد، وحيناً آخر بالميكروبات السياسية التي مكانها قنوات الصرف الصحي، بالإضافة إلى العديد من الألفاظ الأخرى من قاموس الغطرسة والاستعلاء نفسه تقفز إلى ذهنك خطابات الرئيس الليبي الراحل المشهور بخطاب "من أنتم؟" في الساحة الخضراء بالعاصمة طرابلس، أيام الثورة الليبية، وهو ينعت الثائرين على حكمه بالجرذان المأجورين والعملاء والخونة.
في الفصل الأول من الكتاب الأخضر الذي اعتمده القذافي جاء أن الحزب هو الدكتاتورية العصرية.. هو أداة الحكم الديكتاتورية الحديثة؛ إذ إن الحزب هو حكم جزء للكل، وهو آخر الأدوات الدكتاتورية حتى الآن، وبما أن الحزب ليس فرداً، فهو يضفي ديمقراطية مظهرية بما يقيمه من مجالس ولجانٍ ودعاية بواسطة أعضائه. فالحزب ليس أداة ديمقراطية على الإطلاق، لأنه يتكون إما من ذوي المصالح الواحدة، أو الرؤية الواحدة، أو الثقافة الواحدة، أو المكان الواحد، أو العقيدة الواحدة.
وفي الفصل نفسه جاء أن "الصراع الحزبي على السلطة يؤدي إلى تحطيم أسس أي إنجاز للشعب، ويخرب أي مخطط لخدمة المجتمع".
الموقف نفسه من الأحزاب السياسية تجده عند قيس سعيد؛ حيث قال في حوار له قبيل الانتخابات الرئاسية في 2019: "الأحزاب ماذا تعني؟ جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية… بلغت أوجها في القرنين 19 و20 ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها".
وإلّم يأتِ في الدستور الجديد ما يفيد بإلغاء قيس سعيد للأحزاب السياسية؛ فإن أسلوب التعاطي معها منذ وصوله قصر قرطاج وإلى حين الحوار الذي سبق الإعلان عن الدستور، وما يتداول في كواليس قصر قرطاج، حول قانون الأحزاب وقانون الانتخابات المزمع الإعلان عنها من قبله في قادم الأشهر وقبل الانتخابات التشريعية المبرمجة يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، ينبئ بأن مصير الأحزاب في تونس لن يكون مختلفاً كثيراً عن مصير الأحزاب في ليبيا زمن "سلطة الشعب" وحكم الشعب "نفسه بنفسه" في عهد القذافي.
شعبوية السلطة للشعب
في الوقت الذي كانت كل السلطات بين يديه، ويرى في نفسه ملك ملوك إفريقيا، لا يعتبر القذافي نفسه رئيساً لليبيا، إنما زعيم ثورة يقدم التضحيات من أجل شعبه، وأن الحكم في ليبيا حينها للشعب دون سواه، من خلال مؤتمراته الشعبية التي ينظم شكل انتخابها الكتاب الأخضر، ويرى أنها الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية.
بالأسلوب نفسه يصرح قيس سعيد بأنه ترشح تلبية لنداء الواجب، وأنه خادم للشعب، وأنه يرنو من خلال دستوره الجديد إلى أن يصبح الشعب صاحب السيادة، يحكم نفسه بنفسه، حيث جاء في رسالته التي توجه بها إلى الشعب داعياً إياه إلى المشاركة في الاستفتاء بأن الغاية من إنشاء مجلس للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع في صنع القرار، فمن تم تهميشه يسعى بطبيعته إلى وضع النصوص القانونية التي تخرجه من دائرة التهميش والإقصاء.
وإن اعتبر هذا الخطاب من الأساليب الشعبوية في حكم الشعوب، فإن كلاً من معمر القذافي وقيس سعيد يرى فيه أسلوباً جديداً في الحكم، وإصلاحات تاريخية تتقاطع مع كل أشكال الديمقراطية المزيفة في العالم، وتؤسس لديمقراطية حقيقية تعلي من دور الشعوب وتنهي ديكتاتوريات الأفراد والمؤسسات.
يبدو من خلال ما تقدم أنه، ورغم المسارات المختلفة في انطلاقة معمر القذافي وقيس سعيد، فإن أوجه التشابه بين أفكارهما حقيقية، وكذلك لا تخلو السلوكيات الشخصية من التشابه أيضاً، فإن نجح الرئيس الليبي الراحل في الاستمرار في الحكم وتطبيق "نظريته" لمدة تجاوزت العقود الأربعة، هل ينجح سعيد في تطبيق أفكاره الشبيهة إلى حد واسع بما ورد في الكتاب الأخضر في تونس؟ وإلى أي مدى يمكن أن يستمر تطبيقه لها فيها؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.