أحد الألغاز الكبيرة في "حروب الردة" يتعلق بقتل مالك بن نويرة، ربما بأمر من خالد بن الوليد. ففي السنة الحادية عشرة للهجرة، تقريباً في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من سنة 632م، وبعد أن فتك خالد بن الوليد وجيشه بمدّعي النبوة طُليحة الأسدي وبقبيلته بني أسد (معركة البُزاخة)، اتجه بجيشه إلى بني تميم، ونزل في منطقة البطاح، حيث مضارب بني يربوع وزعيمهم مالك بن نويرة.
فلما أذَّن أصحاب خالد، تبعاً لوصية الخليفة، ليروا ردَّ فعل القبيلة قبل أن يهموا بحربها؛ إذ ربما لم ترتدّ ولم تمنع الزكاة، اختلف أصحاب خالد بن الوليد في توصيف رد فعل بني يربوع، فقال البعض إنهم أذَّنوا وصلّوا، وقال البعض الآخر إنهم لم يفعلوا. بالتأكيد لم يكن أصحاب خالد يقفون في مكان واحد، ومن هنا جاء اختلافهم، وهو ما يوحي بأن القبيلة لم تكن كلها مسلمة ولم تكن كلها مرتدة.
المهم قبض جيش خالد على رئيس القوم (مالك بن نويرة)، الذي لا توجد دلائل قوية على أنه أسلم أصلاً! وبعد فترة قصيرة لم نعرف ماذا حدث فيها بالضبط تم قتل مالك هذا (قتله على الأرجح الصحابي ضرار بن الأزور الأسدي).
ماذا حدث بالضبط خلال هذه الفترة القصيرة بين أسر الرجل وقطع رقبته؟ هنا تضاربت الروايات بشدة، والشكوى من هذا التضارب أمر قديم بالمناسبة، حتى إن محمد بن سلام الجمحي (ت. 232 هـ)، قال عن ذلك في طبقات فحوله: "وحديث مالك مما اختلف فيه، فلم نقف منه على ما نريد، وقد سمعت فيه أقاويل شتى".
وقد اعترض بعض الصحابة ممن في الجيش على قتل مالك بن نويرة، وكان من بينهم عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري، الذي غضب بشدة، لدرجة أنه أقسم ألا يقاتل مع خالد تحت راية واحدة، وترك الجيش ورجع إلى المدينة شاكياً، وكان بصحبته شقيق مالك (متمم بن نويرة)، الذي كان يعيش في ظل أخيه، وكان كما يقال قصيراً دميماً أعور العين.
وهنا نشير إلى أنه تبقى جملة من نص ابن سلام السابق تقول: "غير أن الذي استقر عندنا أن عمر أنكر قتله، وقام على خالد فيه وأغلظ له". وتوجد روايات عن أن متمم وأبا قتادة كانا قد حكيا الأحداث لعمر بن الخطاب. ونفهم بالطبع أنهما قدما رؤيتهما للأحداث كمعارضين لما فعله خالد بن الوليد.
ويمكن للمرء أن يستنتج من معمعة الروايات المتضاربة أن أبا بكر كعادته نظر إلى الأمر بهدوء ورويّة، والأرجح لدي أنه رآه حدثاً هامشياً وسط معمعة كبرى، ويمكن أن يترك البت فيه إلى ما بعد، ولذا هدأ من غضبة عمر، ورفض عزل خالد وسط المعارك، وقال لعمر إنه "تأول فأخطأ، ولا أشيم سيفاً سله الله على الكافرين". وربما فعل هذا اقتداءً بموقف النبي صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد، عندما قتل رجلاً بعد أن نطق بالشهادة، حيث أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بشدة، وبالغ في عتابه، ولكنه لم يحكم على أسامة بكفارة ولم يدفع دية المقتول.
ونعرف من الروايات أن أبا بكر غضب على أبي قتادة لتركه الجيش، وقال إنه لن يرضى عنه حتى يعود إلى الجيش ويعتذر لقائده. ولم يكن لأبي قتادة أن يعصي أمراً لأبي بكر، فعاد إلى جيش خالد واعتذر إليه. ويبدو أن هذا لم يعجب متمم بن نويرة، المفتون بفكرة الثأر لأخيه، وفي صلاة الصبح التالية وعندما انتهى أبو بكر من صلاته وقف متمم بن نويرة بإزائه واتكأ على قوسه وقال:
نعم القتيلُ إذا الرياحُ تناوحَت ** خلف البيوتِ قتلتَ يا بنَ الأزور
أدعــوتَهُ باللهِ ثم قـتـلتَهُ ** لو هـو دعاكَ بذمةٍ لم يغـدر
وكما ترى فقد وجه خطابه في البيت الأول إلى الصحابي ابن الأزور الذي نفذ القتل. وقيل إنه عندما أنشد البيت الثاني أومأ إلى أبي بكر نفسه، فقال أبو بكر: "والله ما دعوته ولا غدرته".
وقد ظهر للجميع عظم الصدمة التي يعانيها الرجل بسبب مقتل أخيه، فالرجل الذي لم يشتهر بالشعر أسالت الأحزان قريحته على كبر، وجعلت دموعه قريبة مدرارة حتى من عينه العوراء! ويقال إنه بكى بحرقة عندما أقسم أبو بكر بأنه لم يأمر بقتل مالك. وربما أراد أبو بكر أن يواسيه ويوقف بكاءه فقال له: (زدنا). فأكمل متمم قصيدته ثم لم يتوقف بعدها عن رثاء أخيه قط، ما جعل مقتله قضية حاضرة دوماً، وهذا فعل الأدب الجميل.
وحتى الآن عندما تفتح ديوانه تشعر وكأنه حوّلَ موت أخيه لجنازة أبدية ما زالت قائمة رغم مرور القرون، ولهذا تحديداً صار مضرب المثل بين الشعراء الحزانى على المصائر الشبيهة، وكلما زادت حلاوة أشعاره زاد تجني الرواة على خالد بن الوليد، ولولا ما حدث لما حظينا بكل هذا الشعر الجميل!
ويبدو أن أهل المدينة ضجوا بالأمر حتى أصبح قضية أخلاقية، خاصة أن قتل مالك رغم أنه في الأسر لم يكن ضرورة عسكرية، ولذا رأى أبو بكر الصديق عدم تأجيل البتّ في الأمر إلى ما بعد الحرب، فاستدعى خالد بن الوليد لسؤاله في الأمر، وقد بقي عند رأيه بعدم عزل خالد وهو وسط حروب الردة، ولكنه قرر دفع دية مالك ومن معه.
وهنا يوجد حديث عن أنه أمر خالداً بتطليق امرأة يقال إنه تزوجها، ويقال إنها كانت زوجة مالك بن نويرة، ولكنها فيما يبدو مزاعم لا تثبت للنقد، رغم أن البعض صدقها وحاول أن يجد مخرجاً لفعل خالد، وقد أبدع البعض في تخيّلاته وتخريجاته، رغم أن هذا الأمر مشكوك فيه أصلاً، بل إن متمم بن نويرة لم يشر إليه في شعره قط، مع أن الحدث لو كان صحيحاً كان سيقوي روايته المعادية لخالد بن الوليد.
ومن يريد تعمق هذه الجزئية والوقوف على صحة الشك فيها فليراجع كتاب "خالد وعمر" للباحث الألماني كلاوس كلير، وترجمة محمد جديد (دمشق 2001). وهو كتاب عجيب في بابه، خاصة أن الباحث الألماني (المسيحي) يفند بأسلوب علمي الكثير من المزاعم التي ألصقها الرواة (المسلمون) بخالد بن الوليد. وهي مزاعم ما زال البعض يكررها حتى اليوم.
المهم أن متمم أخذ الدية وواصل رثاء أخيه دون كلل، وقد أجاد في ذلك وجاء فيه بأفكار مبتكرة وغير معهودة عند العرب، حتى صار كما سبق مثلاً يضرب في هذا السياق. ومن ذلك على سبيل المثال أنه زار العراق مرة فمر بقبور بها فبكى! فخمن رفيقه السبب فقال له: "يموت أخوك بالملا، وتبكي أنت على قبرٍ بالعراق؟!". فأثاره هذا الاستنكار إلى قصيدة جديدة مطلعها:
لقد لامني عند القُبورِ على البُكا ** رفيقي، لِتذرافِ الدُّموع السّوافِكِ:
"أمِن أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائحٌ ** على كلِّ قبرٍ أو على كلِّ هالكِ؟!"
فقلتُ: "إنّ الشجا يبعثُ الشجا ** فـدعني، فهـذا كُلُّه قـبرُ مالِكِ"
وعندما قرأت البيت الأخير قلت في نفسي: قاتله الله ما أشجاه! وبالمناسبة توجد رواية أخرى فيها (الأسى يبعث الأسى). ولكن انظر إلى عظمة قوله (فهذا كُلُّه قبرُ مالِكِ)، وفي الرواية الأخرى (فهذي كُلُّها قبرُ مالِكِ). والمعنى واحد وهو أن مالك من عظمته لديه، وعظم مصابه فيه كأنه قد ملأ الأرض، فكل قبر قبره، وكل ميت هو، فكأنه مدفون بكل مكان. وهذا معنى جديد مدهش وغير مطروق في الرثاء. ومن عيون قصائده وأشهرها قصيدته العينية، التي أعلن في مطلعها أنه وقف حياته على تأبين أخيه فقال:
لعَمري وما دهري بتأبين هالكٍ ** ولا جَزِعٍ مما أصابَ فأَوجعا
والحقيقة كنت أريد التوسع في شرح هذه القصيدة الطويلة الصعبة كأغلب مفضلياتي، ولكن أذهلتني عن ذلك عادة الاستطراد المنفلتة من أي عقال. ولكن المهم هنا أن تعرف أن هذه القصيدة التي حفظت لصاحبها مكاناً عالياً في تاريخ الشعر العربي، كانت ربما الأكثر تأثيراً في عصرها. ومن المدهش تتبع التأثير الذي تركته على الناس في فترة الخلافة الراشدة وما بعدها. وقد نالت حظوة عند النقاد القدامى كالأصمعي، الذي وصفها بـ(أم المراثي)، وكالمبرد وابن عبد ربه ومحمد بن سلام الجمحي، الذي جعل متمم بن نويرة في مقدمة شعراء المراثي، وقال "إن شعره يذوب رقة وحزناً ولوعة ووجداً، ويستجيش العاطفة ويستدر الدموع". وهذه شهادة عظيمة لو تعلمون قيمة صاحبها. ودائماً ما استشهد بالجزء الذي يقول فيه:
وكنا كندماني جذيمةَ حقبةً ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تَفَرّقنا كأني ومالكاً ** لطول اجتماعِ لم نَبتْ ليلةً معا
فإن تكن الأيامُ فَرَّقنَ بيننا ** فقد بان محموداً أخي حين ودَعا
سقى الله أرضاً حلِّها قبرُ مالكٍ ** ذهابَ الغوادي المدجناتِ فأمرَعا
فوا اللهِ ما أسقي البلادَ لحبِّها ** ولكنني أسقي الحبيبَ المودَّعا
تحيتُهُ مني وإن كان نائياً ** وأمسى تراباً فوقَهُ الارضُ بلقعا
وكلمة (ندماني) مثنى (النديم). أراد شخصين حقيقيين هما (مالك وعقيل ابنا فارج القضاعي)، اللذان كانا نديمين للملك الجاهلي (جذيمة الأبرش) واستمر ذلك زمناً طويلاً حتى ضُرب بهما المثل في طول الصحبة. وفي إحدى المرات نال السُّكر من الملك فقتلهما. فلما أفاق وعرف ما اقترفت يداه ندم على مقتلهما ولم يختر بعدهما نديماً أبداً، وكان إذا شرب وضع لهما كأسين! وبعد أن كان ما بينهم مثلاً لطول الصحبة طالهما الموت الذي لا بد منه.
وهذا حسب ظني مضرب المثل في بيت متمم هنا. والغوادي أي السحاب، والمدجنات أي السوداء التي تملأ السماء، والذهاب هي المطرة الغزيرة. أي سقى الله الأرض التي بها قبر مالك بالمطر الغزير الذي يهطل من السحاب الغامق الذي يملأ السماء. وكلمة (فأمرعا) أي حتى تصير الأرض حول قبره خصبة. والبيت الأخير يخبرنا لماذا يدعو له بالسقيا، فالأرض فوقه بلقع، أي قفر لا نبات فيها ولا بشر.
وكما في "الكامل" للمبرد أن عمر بن الخطاب بعد أن أصبح خليفة رأى متمماً فاستنشده هذه القصيدة تحديداً. وعندما انتهى متمم من الإنشاد قال عمر: "هذا والله هو التأبين، لوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك". وكان زيد بن الخطاب قد استشهد وهو يقاتل مسيلمة الكذاب في موقعة اليمامة. فقال متمم: "رَفِّه عنك أبا حفص، لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيتُه". فأطفأها مثلما أشعلها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.