في 25 يوليو/تموز 2022، نشرت الصحف الرسمية والمحلية المصرية خبراً بقرار وزير التربية والتعليم المصري طارق شوقي، بتدريس مادتي العلوم والرياضيات باللغة الإنجليزية، بداية من الصف الأول الإعدادي.
وهذه بالطبع كارثة، وإثبات أن هناك تعمداً مع سبق الإصرار والترصد لتغيير هويتنا وثقافتنا العربية والإسلامية في مصر، كل ذلك يتم في طريقين متوازيين.
الأول:
التشكيك في الثوابت الدينية وعن طريق مكينة إعلامية موجهة وإعلاميين تابعين للدولة، لإنتاج جيل جديد في مصر فاقد لهويته وقيمه الدينية والاجتماعية والثقافية، وتحت رعاية وتشجيع من النظام الحاكم في الدولة.
والثاني:
تغيير المناهج التعليمية رويداً رويداً، بحيث ينتج عنها تخرج أجيال جديدة في مصر لا تتقن اللغة العربية، التي هي لغة القرآن، وعماد لقِيمنا وثقافتنا وهويتنا الإسلامية والعربية، وقد يصل الأمر بهم إلى الوصول إلى تخريج جيل فاقد للغته العربية، اللغة الأم.
فلقد عملوا على ذلك وشرعوا في تنفيذ هذه الأجندة إبان حكم حسني مبارك، والذي تم في عهده فتح الباب على مصراعيه للمدارس والجامعات الخاصة، والتي كثفت من تعلم اللغة الإنجليزية كمادة أولى على حساب لغتنا الأم "اللغة العربية"، فظهر جيل جديد لا يجيد العربية، ويكتب وينطق العربية بركاكة شديدة، حتى وصل البعض إلى التحدث بالخليط والدمج بين اللغتين الإنجليزية والعربية، وكأنه أسلوب لإظهار التميز الطبقي والرقي.
الفاجعة
دليلي على ذلك واقعة حدثت هنا في هامبورغ بالفعل، عندما طُلب مني اختبار تلميذ في اللغة العربية لمعرفة مستواه فيها قبل التقديم له في امتحان مادة اللغة العربية كلغة ثانية بدل الإنجليزية، والتي لا يعرف فيها شيئاً، وذلك في امتحانات "ESA"، وهو اختصار لـ"Erster Schulabschluss".
وعندما جلست معه وأجريت له بعض الاختبارات وجدته ضعيفاً جداً في القراءة والكتابة، ومستواه لا يتعدى الصف الأول أو الثاني الابتدائي على أكثر تقدير، ومن دون مبالغة، رغم أن عمره يناهز السبعة عشر عاماً، ولم يكمل العام الثاني له هنا في ألمانيا بعد مغادرته مصر.
فسألته متعجباً، ألم يحالفك الحظ في الالتحاق بالمدرسة في مصر؟ أجابني: بالتأكيد كنت أدرس في مصر، وصعقت عندما قال لي إنه أكمل الصف الثالث الإعدادي في مصر. حينها سألته بحب استطلاع وشغف شديدين، لكن كيف لك اجتياز كل هذه المراحل، وخصوصاً امتحان الصف السادس الابتدائي؟ أجابني وبمنتهى البساطة مختزلاً كل التوضيحات في كلمة واحدة: "بالغش".
حينها أدركت الفاجعة، وشعرت أنها مؤامرة متكاملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد لتدمير الشباب المصري، ومعه تدمير الإنسان المصري علمياً وثقافياً، لإنتاج أجيال جديدة جاهلة فاقدة للوعي، لنستيقظ في يوم ما على فاجعة تدمير أُمة بأكملها حتى لا تنهض أبداً.
نموذج المنظومة التعليمية في ألمانيا
حقيقة عندما أرى وأتابع عكس ذلك في ألمانيا ينتابني حزن شديد، حزن على تراثنا وحضارتنا وثقافتنا العربية والإسلامية، والهدف الأكبر هو هدم الإسلام ديناً وعقيدة، والتي هي في خطر شديد، خطر توجهات ومشاريع تريد تقويضها وتدميرها في منطقة الشرق الأوسط، خطر تعمد هذا النظام الذي نعاني منه على مدار سبعة عقود، على تنفيذ ذلك وتمريره.
فبحكم عملي في المدارس الألمانية في هامبورغ أجد أن المنظومة التعليمية في ألمانيا تحرص حرصاً شديداً على الحفاظ على اللغة الألمانية كلغة أولى، وجميع المواد من علوم ورياضيات وفنون وجغرافيا وتاريخ يتم تدريسها باللغة الألمانية، أما اللغة الإنجليزية فتدرس كلغة ثانية فقط، ثم الفرنسية أو اللاتينية أو الإسبانية أو غيرها كلغة ثالثة، وأخيراً تم السماح بجعل اللغة العربية لغةً ثالثةً إضافية اختيارية أيضاً.
كما يحرصون شديد الحرص هنا في ألمانيا على ضرورة تعلم الأجانب للغة الألمانية كشرط أصبح أساسيّاً للحصول على الإقامة، ولذلك وفرت الدولة الألمانية دروساً مجانية لتعلم الأجانب للغة الألمانية، يطلق عليها دروس الاندماج في الدولة الألمانية "Integrationskurse".
أما أطفال الأجانب فقد وفرت لهم الإدارة التعليمية فصلاً في معظم المدارس، يطلق عليه "IVK"، وهو اختصار لكلمة "Internationale Vorbereitungsklassen"، لتعلم اللغة الألمانية بكثافة ولمدة عام، قبل توزيعهم على الفصول العادية التي تناسب أعمارهم.
اللغة تعني الهوية
هكذا تحرص الدول التي تعتز بقيمها وأصولها وحضارتها على الحفاظ على ثقافتها ولغتها وهويتها، ويضع دستور البلاد ضمانات لتنفيذ ذلك، لأنهم يدركون تماماً أن التنوع الثقافي في العالم مهم جداً من أجل الإثراء والتبادل الحضاري واللغوي بين الشعوب، وبالتالي فيجب أن يتحدث الألمان الألمانية ويتقنوها، ليكونوا ضمن هذا التنوع معبرين عن نوعهم وهويتهم.
أما نحن فلدينا وللأسف الشديد أنظمة تحكم بلادنا لا تعي قدراتنا وأهمية ثقافتنا وثراء وعظمة وجمال لغتنا العربية، فقد أضاعوا في الماضي الأرقام العربية، والتي هي عماد التكنولوجيا المعلوماتية الرقمية، وخصوصاً رقم صفر "0"، الذي هو أساس علم الكمبيوتر والأنفورماتيك، واستبدلوها بالأرقام الهندية التي تُستخدم الآن. والخوف أن يضيعوا لغتنا العربية أيضاً بجمالها وقوافيها وتوريتها وعمقها التعبيري ومعانيها ومذاقها وروعة كلماتها.
واستحضرني في هذا المقام كلمات شاعرنا الجميل، شاعر النيل حافظ إبراهيم، الذي تحدث بلسان اللغة العربية قائلاً:
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
فَلا تَكِلوني لِلزَّمانِ فَإِنَّني
أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي
أَرى لِرِجالِ الغَرْبِ عِزّاً وَمَنعَةً
وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ
أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَرْبِ ناعب
يُنادي بِوَأْدِي في رَبيعِ حَياتي
وَلَو تَزجُرونَ الطَّيرَ يَوماً عَلِمتُمُ
بِما تَحتَهُ مِن عَثْرَةٍ وَشَتاتِ
سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً
يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي
حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ
لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
وَفاخَرتُ أَهلَ الغَرْبِ وَالشَرْقُ مُطرِقٌ
حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَّخِراتِ
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً
مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وَأَسْمَعُ لِلكُتّابِ في مِصْرَ ضَجَّةً
فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
لُعَابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً
مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ
بَسَطتُّ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيْتَ في البِلَى
وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُّموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ
مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.