يعد بحر الصين الجنوبي أحد أكثر النقاط اضطراباً على خريطة العالم، لأنه المكان الذي تلتقي فيه مصالح العديد من الدول، وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة، بسبب الوجود العسكري الكبير في المنطقة، الذي يمكن أن يصاعد التهاب الموقف في أي لحظة، حيث يهدد النزاع الإقليمي في بحر الصين الجنوبي بأن يصبح بداية حرب كبيرة جديدة.
لقد سمعنا في 24 يوليو/تموز 2022، أي قبل أيام قليلة، تصريحاً لرئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارك ميلي، أن الجيش الصيني أصبح أكثر عدوانية وخطورة في منطقة المحيط الهادئ، في حين أفادت تسريبات جديدة بأن بكين وجهت تحذيراً قوياً لواشنطن بشأن علاقتها بتايوان، تتحول المواجهة الجيوسياسية والاقتصادية المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة إلى منافسة عسكرية في جنوب شرق آسيا.
بدأت الأزمة في بحر الصين الجنوبي في البداية كنزاع بين الدول الآسيوية على جزر صغيرة، وأصبحت واحدة من بؤر التوتر الرئيسية في العالم، تقوم الولايات المتحدة بإرسال سفنها الحربية إلى المياه المتنازع عليها وإجراء مناورات مع حلفائها هناك، بينما تقوم الصين رداً على ذلك بإجراء مناوراتها الخاصة، وتحويل الشعاب المرجانية تحت الماء إلى جزر اصطناعية، لتتحول لقواعد عسكرية، مع ظهور شراكة جديدة بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والتي أسفرت عن بناء غواصات نووية للأخيرة. واستمر الوضع هكذا متصاعداً في المنطقة، حتى إنهم أعلنوا في الصين أن إنشاء تحالف جديد يمكن أن يكون خطوة نحو حرب باردة جديدة.
يستمر النزاع في بحر الصين الجنوبي منذ أكثر من عقد، ويؤثر على ست دول على الأقل "الصين وبروناي وفيتنام وتايوان وماليزيا والفلبين"، وكلها تطالب بحقوقها في هذه المياه، ومجموعتين من الجزر الواقعة فيها؛ فجزر باراسيل تطالب بها الصين وفيتنام وتايوان، وأرخبيل سبراتلي تطالب به الصين وبروناي وفيتنام وماليزيا وتايوان.
تحتل الصين المركز المهيمن في النزاع، التي تعتبر أن 90% من الأراضي قيد الصراع جزء لا يتجزأ منها، والتي تبلغ مساحتها أكثر من مليون ميل مربع، وتمتد من تايوان إلى ماليزيا، تبرر بكين حقوقها في هذه المنطقة بخريطة ما بعد الحرب لعام 1947، والمعروفة أيضاً باسم "الخط ذو النقاط التسع".
ومع ذلك فإن الدول المجاورة والمجتمع الدولي يعتبرون هذه الادعاءات غير قانونية، في إشارة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والأحكام المتعلقة بحريّة الملاحة، وفي يوليو/تموز 2016، قضت محكمة دولية بوساطة محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي، في دعوى قضائية فلبينية، مفادها أن مطالبات الصين بأراضٍ في بحر الصين الجنوبي لا أساس لها من الصحة، ولكن لم تعترف بكين باختصاص محكمة لاهاي.
ما أهمية "جزر الخلاف الاستراتيجي"؟
لقد أصبحت الدول الجزرية الصغيرة في المحيط الهادئ ذات أهمية جيوسياسية كبيرة، مع اشتداد التناقضات بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، وتعمل الولايات المتحدة وأستراليا معاً للحد من نفوذ الصين المتزايد في المحيط الهادئ.
ففي عام 2021، بمشاركة المملكة المتحدة، تم إبرام اتفاقية تعاون عسكري تقني، كان الهدف الأوّلي منها هو مساعدة أستراليا في الحصول على غواصات نووية متعددة الأغراض، وترتيب البنية التحتية لقواعدها وصيانتها، ومع ذلك فإن نوايا واشنطن لتعزيز مواقعها في بحر الصين الجنوبي ذي الأهمية الاستراتيجية كانت واضحة، من خلال تزويد حلفائها بأسلحة حديثة، وإجراء عمليات مشتركة داخل "منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة"، وفي الوقت نفسه فإن نشاط دول الناتو -بريطانيا وفرنسا وألمانيا- سوف يزداد تدريجياً.
السيطرة على بحر الصين الجنوبي مهمة في المقام الأول، بسبب الطرق اللوجستية والموارد الطبيعية عبر الطرق البحرية المحلية، بالإضافة إلى مضيق ملقا، الذي يمثل ما يقرب من 40% من حركة المرور في جميع ممرات التجارة العالمية، وما يصل إلى 80% من واردات النفط والغاز الصينية.
بالإضافة إلى ذلك، في أوائل السبعينيات تم العثور على احتياطيات نفطية وغازية كبيرة هناك، وبحسب خبراء من هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية فإن هذه الاحتياطيات تبلغ 11 مليار برميل من النفط، و5.9 تريليون متر مكعب من الغاز، ووفقاً للعلماء الصينيين يوجد 230 مليار برميل من النفط، و16 تريليون متر مكعب من الغاز في أعماق بحر الصين الجنوبي.
وفي عام 2015 استحوذ بحر الصين الجنوبي على 12% من إجمالي صيد الأسماك في العالم، وبالنسبة للصين التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 1.4 مليار نسمة، يعد هذا مورداً غذائياً مهماً، كما أنه لا يقل أهمية بالنسبة للدول الأخرى في المنطقة، إندونيسيا وبروناي وفيتنام وماليزيا والفلبين، حيث يعيش ما مجموعه حوالي 500 مليون شخص في هذه الدول.
كما توفر السيطرة على بحر الصين الجنوبي أيضاً مزايا عسكرية، والتي قد تصبح في النهاية عاملاً حاسماً في النزاع على الموارد الطبيعية، وبالإضافة لذلك تعد هذه المياه مهمة لدخول غواصات الصواريخ الباليستية الصينية إلى غرب المحيط الهادئ للرادع النووي الأمريكي.
ماذا تفعل بكين لإحكام سيطرتها على المنطقة؟
منذ عام 2013 يقوم الجانب الصيني ببناء تحصينات عسكرية وجزر اصطناعية في المنطقة، فضلاً عن التعدين وصيد الأسماك، وسمح إنشاء الجزر الاصطناعية لجمهورية الصين الشعبية بالمطالبة بمناطق اقتصادية ضمن 200 ميل بحري من كل منها.
في عام 2014 أعلنت الصين رسمياً حقوقها في أرخبيل سبراتلي، وفي الوقت نفسه أرسلت سفناً حربية إلى هناك، وتمتلك الصين حالياً 20 بؤرة استيطانية في جزر باراسيل وسبعاً في جزر سبراتلي، وفقاً لمبادرة الشفافية البحرية الآسيوية، وهو عبارة عن مركز أبحاث مقره واشنطن. نحن نتحدث عن محطات رادار، ومهابط طائرات، ومدافع مضادة للطائرات، ومحطات الأسمنت وتحلية المياه، إلخ.
الصين ودعم غير محدود للنخب السياسية في جزر المحيط الهادئ
بعد جولات الرئيس الصيني في المحيط الهادئ في عامي 2014 و2018، اتضح أن الصين تعمل على دعم النخب القوية في الدول الجزرية الصغيرة، وتقدم دعماً مستهدفاً يتراوح من توريد الحافلات المدرسية والأقنعة الطبية إلى بناء مراكز المنتجعات وتحديث الموانئ.
مصالح جمهورية الصين الشعبية في جزر "ميكرونيزيا وبولينيزيا وميكرونيزيا" واسعة جداً، وتشمل ضمان سلامة الشحن التجاري وصيد الأسماك وتنمية الموارد الطبيعية. حتى الآن لم يتم الإبلاغ علناً عن أي نشاط عسكري للصين في هذه الجزر، بما في ذلك إنشاء قواعد للقوات الجوية والبحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني، على ذلك تنكر كل من بكين وسلطات الدول الجزرية بالمحيط الهادئ وجود مثل هذه الخطط، وتنفي السلطات الصينية وجود مشكلة في حرية الملاحة، كما تشير بكين إلى أن 60% من حجم التجارة الخارجية للصين يمر عبر هذه المياه، وبالتالي فإن بكين مهتمة أكثر بحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي.
ما دور الولايات المتحدة بالمنطقة؟
رغم بُعدها الجغرافي تلعب الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في النزاع على هذه المياه، فلا تطالب واشنطن بالجزر، لكنها تتهم بكين بعسكرة المنطقة وتهديد الملاحة الدولية، وفي العام الماضي شددت الولايات المتحدة سياستها الخاصة بتتبع الصين، وأيدت حكم محكمة لاهاي لعام 2016، الذي وصف المزاعم البحرية الصينية بأنها "غير قانونية تماماً"، ولضمان "حرية الملاحة" ترسل الولايات المتحدة وحلفاؤها سفناً حربية بانتظام إلى المنطقة، الأمر الذي يتسبب دائماً في احتجاج وغضب في بكين.
في أول خطاب له أمام الكونغرس بعد فوزه بالرئاسة الأمريكية، أشار جو بايدن إلى أن الولايات المتحدة تنوي الحفاظ على وجود عسكري قوي في المحيطين الهندي والهادئ. ومع ذلك يصعب أحياناً التمييز بين هذه التطلعات، ولهذا السبب لا يزال الوضع في المنطقة متوتراً، بصفتهما أكبر اقتصادات العالم، فتتنافس كل من الصين والولايات المتحدة بشكل أساسي على النفوذ في منطقة ذات أهمية استراتيجية وواعدة مالياً واقتصادياً.
مشاكسات الصين مع جيرانها
رغم حقيقة أن النزاع في بحر الصين الجنوبي مستمر منذ أكثر من عقد، فقد اشتد الوضع هناك في الأشهر القليلة الماضية، خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ففي أوائل مايو/أيار غضبت وزارة الخارجية الفلبينية من الصين، معبرة عن ذلك بأن تذهب إلى الجحيم بعد ظهور مئات القوارب الصينية في المنطقة الاقتصادية للبلاد، وفي بكين قالوا رداً على ذلك إنهم لم ينتهكوا الحدود.
وفي يونيو/حزيران اضطر الجيش الماليزي إلى رفع طائرات مقاتلة لمرافقة الطائرات الصينية التي تغزو مجالها الجوي، وأشارت بكين إلى أن الطيارين أجروا مناورات منتظمة، وتصرفوا وفقاً للقانون الدولي.
تصعيد على نار هادئة
في يوليو/تموز احتجت وزارة الدفاع الصينية لدى الولايات المتحدة، بشأن "غزو المدمرة الأمريكية" بينفولد المياه الإقليمية الصينية قبالة جزر باراسيل، وفي أغسطس/آب، أجرت قوات جمهورية الصين الشعبية مناورات عسكرية بالمنطقة، يأتي ذلك بعد أيام فقط من إطلاق الولايات المتحدة أكبر مناورات عسكرية منذ 40 عاماً، شاركت فيها بريطانيا وأستراليا واليابان في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وللمرة الأولى منذ ما يقرب من 20 عاماً أرسلت ألمانيا سفنها الحربية إلى بحر الصين الجنوبي، وأواخر العام الماضي أطلقت سفن من البحرية الهندية واليابانية والأسترالية والأمريكية تدريبات مشتركة في منطقة مالابار غرب المحيط الهادئ.
في الغرب يُعتقد أنه إذا ما قامت بكين ببناء موانئ ومطارات وخطوط اتصالات ومحطات حديثة في جزر سليمان أو فانواتو أو في أي مكان آخر في أوقيانوسيا أو جنوب شرق آسيا، فإنها ستستخدم هذه المرافق فوراً لإغلاق الخطوط البحرية في الاتصالات وعسكرة الأنشطة الجوية لزيادة إمكاناتهم العسكرية، وبالتالي تشك الولايات المتحدة وأستراليا في أن شركة Huaweiالصينية قد تستخدم شبكات 5G وكابلات تحت الماء للاستخبارات الإلكترونية، لصالح وزارة الدفاع الصينية ووكالات الاستخبارات الصينية.
في مايو/أيار 2022، وقّع وزير الخارجية الصيني اتفاقية تعاون مع جزر سليمان، لم يتم الإعلان عن النص الكامل للوثيقة، ولا يَعرض الجزء الخاص بوسائل الإعلام سوى أحكام عامة بشأن تبادل المعلومات بين قوات الشرطة، ومكافحة التهديدات الإلكترونية، وتبسيط الإجراءات الجمركية، وتعزيز التقدم التكنولوجي.
ومع ذلك وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، فإن الاتفاقات التي تم التوصل إليها تنص على إمكانية استخدام القوة لحماية الاستثمارات والممتلكات والمواطنين الصينيين، وبناء ميناء لأغراض تجارية وربما عسكرية، يسمح أيضاً بزيارات سفن البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي، والدعم اللوجستي وإعادة الإمداد.
رسميّاً ينفي الجانب الصيني وجود أي جزء سري يتعلق بالأمور العسكرية، لكن في الوقت نفسه يشار إلى أنه خلال الاضطرابات التي شهدتها جزر هونيارا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، كان الحي الصيني هو الأكثر معاناة، وهو ما جذب انتباه القيادة الصينية من حيث الحاجة إلى حماية مواطنيها، وعلى الأرجح سيتطور التعاون الأمني.
هل تصبح المنطقة ساحة حرب عالمية؟
يقارن الخبراء الغربيون بين نوايا الصين وخطط اليابان الإمبريالية لإنشاء مجال الرخاء المشترك في شرق آسيا، والذي أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية في آسيا.
لقد ألقى رئيس ولايات ميكرونيزيا الموحدة ديفيد بانويلو كلمة لزعماء دول المنطقة بدعوة إلى عدم قيادة الصين، لأن التوقيع على وثائق مع الجانب الصيني سيغير ميزان القوى، ومصير كل الدول التي ستصبح تابعة للجانب الصيني، الأمر الذي سيدمر سيادتها، وحثَّ رئيس ميكرونيزيا زملاءه على اتخاذ خيار لصالح الولايات المتحدة وأستراليا.
ولدى ولايات ميكرونيزيا الموحدة اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة، واتفاقية تعاون اقتصادي مع الصين، ولا تنوي معظم الدول الجزرية في جنوب المحيط الهادئ الانحياز إلى أي جانب في المواجهة الناشئة بوضوح بين الولايات المتحدة والصين، حتى لا تصبح ضحية لصراع الكبار.
إن المواجهة بين الصين والولايات المتحدة على الأرجح ستستمر لأكثر من عقد، ومعها سيستمر الوضع في بحر الصين الجنوبي في التصاعد، ويؤثر التوتر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ أيضاً على الدول التي لا تشارك بشكل مباشر فيها، مثل روسيا واليابان والهند. والصراع العسكري وإن كان محدوداً ليس في مصلحتهم على الإطلاق.
ويخشى أن تصل التوترات إلى ذروتها في نهاية عشرينيات وثلاثينيات القرن الحالي، بسبب المحاولات المحتملة من قِبل الصين لإعادة تايوان بالقوة، والإفراط في القومية والغطرسة لدى القادة العسكريين الصينيين قد يؤدي بهم إلى سوء التقدير من خلال تحدي الولايات المتحدة بشأن الأزمة في تايوان.
ونظراً لأن معظم دول جنوب المحيط الهادئ هي دول ديمقراطية فسيكون من الأسهل عليها إقامة علاقات مع واشنطن الليبرالية مقارنة ببكين الشيوعية، وبسبب الوجود العسكري المتزايد باستمرار هناك فإن خطر حدوث تصادم قريب جداً، خصوصاً أن تصاعُد التوتر يأتي تزامناً مع الزيارة المرتقبة لرئيسة الكونغرس الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان، وتحذيرات الصين التي قد تلمح فيها إلى رد عسكري، والتأهب الأمريكي ورفع حالة القلق والانتظار.
وعليه فإننا ننتظر أياماً قد تحمل الأسوأ الذي لم يكن أتى بعد، ولدى كل من الصين والولايات المتحدة خطط عسكرية مدروسة جيداً في حالة وقوع قتال حقيقي، وفي رأيي قد يكون مثل هذا السيناريو بداية حرب عالمية ثالثة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.