في ذكرى انقلاب 23 يوليو/تموز 1952 والنتائج التي ترتبت عليه، ومدى تأثيره علينا، وخصوصاً وأنا من مواليد هذه الحقبة، وعاشرت وعايشت هذه الفترة وحتى الآن، أعرض عليكم من خلال هذه القصة، قصة حقيقية مررت بها، قصة كتبتها محاولاً فيها تدوين مشاعري وأفكاري وتأثري، وما اختلج بداخلي أثناء هذه الحقبة وبعدها.
لماذا لم يشيد تمثال للرئيس جمال عبد الناصر كتمثال رمسيس الثاني؟
كنت في الصف الأول بمدرسة سوادة الإعدادية آنذاك، عندما توجهت بهذا السؤال إلى مدرسي في التاريخ الأستاذ حامد. كنت منبهراً جداً بتاريخ مصر القديم والحضارة المصرية القديمة، وزاد انبهاري عندما شاهدت أهرامات الجيزة عندما اصطحبني والدي إلى المناطق الأثرية.
وقفت حينها مشدوهاً أمام هذا الصرح الضخم، وجلست أتأمل كيف استطاعوا تشييد هذا! وتساءلت: كيف استطاعوا نقل هذه الحجارة الضخمة ورفعها إلى هذا العلو الشاهق! إنها حقاً من عجائب الدنيا. وأيضاً عندما وصلنا محطة مصر وقفت أمام تمثال رمسيس الثاني مبهوراً لأشاهد الكبرياء والقوة.
كان الأستاذ حامد يشرح لنا كيف انتصر رمسيس الثاني على الحيثيين في موقعة قادش بعد أن لاحقهم إلى خارج الحدود المصرية في الشرق، وذلك بعد أن أعد جيشاً وبنى أول مركبة حربية في التاريخ وهي العجلة الحربية، وذلك ليحمي مصر والمصريين.
وقد وقعت هذه المعركة بين قوات الملك رمسيس الثاني ملك مصر والحيثيين بقيادة الملك مواتللي الثاني بمدينة قادش، التي تقع على الضفة الغربية لنهر العاصي في سوريا جنوب بحيرة حمص بعدة كيلومترات، وهذه المعركة مؤرخة بالعام الخامس من حكم الملك رمسيس الثاني، أي حوالي عام 1274 ق.م على وجه التقريب.
عبد الناصر وصناعة "الأسطورة"
كنت متابعاً جيداً للأخبار، وأقلب محطات الراديو لأتابع إنجازات جمال عبد الناصر عن طريق محطات "هنا القاهرة"، و"صوت العرب"، وكم كنت معجباً ومبهوراً بالرئيس جمال عبد الناصر وكأنني أرى من خلاله امتداداً لأمجاد الفراعنة، وخصوصاً عندما كنت أسمع المذياع لا يكف عن ترديد الأغاني الوطنية وخصوصاً للرئيس عبد الناصر مثل أغنية "أمجاد يا عرب أمجاد"، أو "ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية"، وغيرها وغيرها.
كنت محباً للرئيس عبد الناصر للنخاع، وكنت أرى فيه عزة وكبرياء وكرامة مصر، وكنت أرى إنجازاته كما يلي:.
• لقد تحدى الغرب بعد أن خذله، واتجه للاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي، وتم بناء السد العالي.
• انتصر على العدوان الثلاثي في 1956 بتأميمه لقناة السويس.
• قام بمساعدة الدول العربية في التحرر من الاستعمار.
• كان مؤثراً في المحيط العربي لدرجة أنه ساعد بعض الدول العربية للتخلص من الحكم الملكي.
• كان يريد تحقيق حلمه بإقامة وحدة عربية يطلق عليها الجمهورية العربية المتحدة، وتسمى الدول بالأقاليم أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية، وبدأ بالوحدة مع سوريا.
• وإنجازات أخرى مثل الإصلاح الزراعي والاتجاه للتصنيع وتأسيس منظمة عدم الانحياز مع نهروا وتيتو وسوكارنو، وغيره… إلخ.
اندهشت لرد فعل أستاذي عندما رأيته يقف برهة مشدوهاً ينظر إليّ بعدما وجهت له هذا السؤال: "لماذا لم يبنوا تمثالاً مثل رمسيس الثاني لجمال عبد الناصر؟". أدار لي ظهره متجهاً ناحية السبورة دون أن يفتح فاه بكلمة واحدة. لازمتني علامة استفهام كبيرة ولفترة طويلة لم أجرؤ على توجيهها إلى أستاذي الأستاذ حامد.
هزيمة الجيش المصري القاسية في عام 1967
وفي يوم وأنا أنصت للمذياع، انقطعت الأغنية وسمعت المذيع يقول: جاءنا الآن ما يلي، (وبدأت حرب 1967)، وتوالت البيانات التي تشيد بتقدم القوات المصرية وتعدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها، وخصوصاً عن طريق المذيع الأستاذ أحمد سعيد، مؤسس إذاعة صوت العرب، والذي اشتهر بإذاعة البيانات العسكرية.
ثم أفقنا على الكارثة والحقيقة المُرة، بأن الجيش المصري لم يحارب ولم يأخذ الجندي المصري الفرصة ليخوض حرباً حقيقية فعلية بسبب الفشل الذريع للقيادة العسكرية والسياسية، فقد تحطم السلاح الجوي المصري على الأرض، والأدهى والأمر أن لم تكن هناك خطة حقيقية لدى القيادة للانسحاب التدريجي بتشكيل خطوط دفاع تبادلية تحمي انسحاب القوات بأقل عدد من الخسائر.
بل تم إعطاء الأمر بالانسحاب الكامل من سيناء إلى غرب القناة لحماية العمق المصري، الذي تم بطريقة ارتجالية عشوائية أدت إلى أن فقدت مصر معظم قواتها العسكرية بجنودها وعتادها في سيناء، والتي كلفت المصريين أموالاً طائلة دفعوها من قوتهم لسنين طويلة، وفقدت مصر أعز وأغلى أولادها، وعم البكاء والحزن في كل بيت مصري.
سعد الدين الشاذلي بطلاً وقائداً عسكرياً مخضرماً
ولكن وسط هذا الظلام الدامس بصيص نور انطلق ليثبت أن هناك في مصر أبطالاً لا يرضخون للهزيمة، ولا يحنثون بالقسم والعهد مثل الفريق سعد الدين الشاذلي (رحمة الله عليه)، وكان لواء أركان حرب في ذلك الوقت، كان رجلاً بمعنى الكلمة، كان بطلاً نفتخر به كمصريين جميعاً، فلم يفرط في سلاحه، وعبر بقواته بأقل الخسائر إلى غرب القناة.
الوهم الكبير
بعد هذا كله أصبت بدهشة شديدة وكأنني أتعرض لزلزال شديد قلب كل أفكاري وهدم كل أحلامي. شعرت بأننا كنا نعيش في وهم كبير وحلم لا يرتبط بالواقع بأي شيء، حلم خيالي نسج خيوطه العلم المصري وما زال وإلى الآن يقوم بحملات التضليل للشعب بنجاح وبامتياز، وكأنها وراثة يتوارثها الأبناء والأحفاد بالرؤى والمفاهيم نفسها.
يعيشون في جمود فكري، ولا يشعرون بأن هناك تغييراً وتطويراً متسارعاً في الثقافة والمفاهيم والإدراك في العالم كله وليس في مصر فحسب، وخصوصاً بعد دخول عصر المعلومات الإلكترونية، والتي عن طريقها يحصل كل مواطن في مصر على المعلومة الحقيقية ومن مصادر متعددة وفي لحظة وقوعها.
عقدت العزم على أن أعرف الحقيقة، وقمت بالبحث عنها، اطلعت وقرأت مذكرات من عايشوا الأحداث وكتابات المؤرخين ومن مصادر متعددة، حتى لا أتعرض للتشويش المعلوماتي مرة أخرى.
فوجدت ما يلي:
انكشاف الحقيقة
السياسة الداخلية
كان هناك صراع على السلطة بين أقطاب ثوار 1952 أدت إلى عزل أول رئيس جمهورية بعد الثورة، وذلك بعد ما يقارب العام من حكمه (من 27 فبراير/شباط 1954 إلى 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954)، ووُضع تحت الإقامة الجبرية.
انتقل الصراع واستمر بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وخصوصاً بين الرئيس جمال بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، والذي كان برتبة بكباش (مقدم) عند قيام الثورة، وبين المشير عبد الحكيم عامر، والذي تمت ترقيته في سنة 1953 من رتبة صاغ (رائد) إلى رتبة لواء وهو لا يزال في سن الـ34 من العمر، متخطياً 3 رتب ليصبح القائد العام للقوات المسلحة.
أدى الصراع على السلطة إلى مشاحنات داخلية غير معلنة شتتت الأفكار وأضعفت الجهود في الدولة، وكانت إحدى نتائجه نكسة 67.
السياسة الخارجية
كان الرئيس عبد الناصر ثورياً قومياً بمعنى الكلمة، وكان مؤثراً قوياً في محيطه العربي، ما أكسبه قلوب كل الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، وبالتالي اكتسب كذلك كرهاً شديداً من بعض الأنظمة العربية، فدبرت له المؤامرات، وكان صدوداً مع الغرب، يتعامل معهم بكبرياء وكرامة العربي الأصيل، لا يخضع للتهديدات، ولا يحب أن يكون تابعاً، كانت سياسته الخارجية تمثل الإرادة العربية الحقيقية.
ولكنه في الوقت نفسه كان يميل إلى الخطب الرنانة، خصوصاً بترديد المذيع أحمد سعيد للمقولة التي قالها الزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري بأنه سيلقي إسرائيل في البحر، والتي التقطتها وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية فأدت إلى إعطاء إسرائيل تعاطفاً دولياً، وحصلت على مساعدات عسكرية واستخباراتية من الغرب؛ ما مكنها من الانتصار واحتلال أجزاء من الأرض في حرب خاطفة في 67.
مغامرات عبد الناصر وأخطاؤه التي كلفت مصر الكثير
بسبب انقلابيْ ليبيا واليمن، وخصوصاً عندما أرسل جمال عبد الناصر ما يقارب 70 ألف جندي مصري لمساعدة الفصائل الجمهورية التي قامت بثورة ضد المملكة المتوكلية اليمنية، وذلك في عام 1962، في الوقت الذي قامت فيه بريطانيا والأردن والسعودية بتقديم الدعم للإمام البدر، ما أدى إلى العداء الشديد معظمه خفي بين القيادة السعودية والقيادة المصرية.
أما داخل البلاد فقد شرع جمال عبد الناصر في الاتجاه للتصنيع، فقام بالعمل على تشييد المصانع، وهذا شيء مطلوب ومهم، ولكن الخطأ الذي وقع فيه هو إنشاء المصانع في حلوان على أطراف القاهرة وفي المحلة الكبرى، (أي في وادي النيل)، ما ترتب عليه الجذب السكاني لهذه المناطق، فنتج عنه الهجرة السكانية من الريف للحضر، ما ترتب عليه التكدس السكاني في هذه المناطق، فنتج عنه توسع سكاني أفقي على حساب الرقعة الزراعية الخصبة.
فتعرضت مصر لمشكلة متفاقمة وهي الزيادة السكانية والتوسع السكاني، في حين أن هناك انكماشاً مستمراً وسريعاً للرقعة الزراعية، فكانت نتائجه بأننا أصبحنا نستورد المنتجات الزراعية والحيوانية من الخارج بعد أن كانت مصر من الدول المصدرة لها.
فكان يجب ومن البداية الاتجاه شرقاً وغرباً في الصحراء، وإنشاء مدن صناعية متكاملة هناك داخل العمق الصحراوي، والتي تمثل أكثر من 90% من المساحة الإجمالية لمصر لجذب الامتداد السكاني إليها بدلاً من الدلتا، لتنتج عنه الهجرة إلى المناطق الصحراوية شرقاً وغرباً لتعميرها، وأيضاً حماية العمق المصري بالامتداد السكاني، وخصوصاً شبه جزيرة سيناء.
كان موقف مصر الاقتصادي قبل الثورة قوياً جداً، وكانت تعتبر من أغنى دول المنطقة، حيث كانت مصر من الدول الغنية، وكان الجنيه الإسترليني يشترى بـ97.5 قرش مصري، وكانت هناك عمالة وافدة من اليونان إلى مصر للبحث عن العمل.
وقد جاء بموقع جريدة الوفد المصرية أن مصر كانت غير مديونة بمليم واحد خارجياً قبلها، بل إنها كانت دائنة لإنجلترا بـ539 مليوناً و288 ألف جنيه إسترليني، وبالبنك الأهلي 154.5 طن ذهب.
ونتيجة الصراع الداخلي وأيضاً الصراعات الإقليمية والبحث عن الزعامة واللهث خلف شعارات القومية العربية، زج بمصر في حرب اليمن؛ ما ترتب عليه استنزاف قدرات مصر وتدمير اقتصادها، واستنفذ الاحتياطي من الذهب، ما جعل مصر تنضم إلى مصاف الدول الفقيرة المكبلة بالديون بعد أن كانت من أغنى وأقوى الدول، ليس في محيطها العربي فحسب، بل على مستوى العالم.
كم كنت ساذجاً!
عرفت الآن لماذا لم يجب الأستاذ حامد مدرس التاريخ على سؤالي؛ لأنه كان سؤالاً ساذجاً، وعلمت كم كنت أنا ساذجاً، وكيف يمكن للإعلام أن يؤثر علينا كمواطنين مستقبلين للمعلومة، وكيف يستطيعون نسج أوهام حول أي شخص وجعله أسطورة.
فالآن وبعد ما يقرب من 70 عاماً من الحكم العسكري لمصر يهرب المصريون للخارج للبحث عن العمل بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية وعن طريق قوارب الموت، يبحثون عن وطن آخر يحميهم لأنه لم يعد لهم مكان في مصر، وبعدما لم يجدوا لقمة عيش أو حياة كريمة في وطنهم.
فمنهم من لقي حتفه في الطريق، ومنهم من ضاع، ومنهم من انحرف، ومنهم من التقطتهم أنظمة في الخارج لتجنيدهم واستخدامهم كأداة لزرع الفتن بين أطياف الشعب الواحد وتدمير الوحدة الوطنية، أو افتعال مشكلة ضد شريحة من أبناء الشعب المصري للصق تهمة الإرهاب بهم لقتل مَن يُقتل منهم، ويزج بالباقي في السجون.
مصر لا تتحمل "أسطورة" أخرى
أقول لهؤلاء وأولئك: إن مصر لا تتحمل أسطورة أخرى، كفانا أسطورة واحدة وقد تعلمنا الدرس، فمن يحب مصر يجب أن يعلم أن مصر تحتاج لرئيس مدني اقتصادي ليست له أصول عسكرية، ليس كرهاً في القيادات العسكرية أو اعتراضاً، ولكن لكل منا مهنته التي يبرع فيها، فالقائد العسكري يتفرغ للعمل العسكري كرجل محترف عسكرياً، وإذا خرج على المعاش المبكر أو غير ذلك فلا يجب أن يشغل مراكز قيادية في الشركات أو المصانع، ليعطَ المجال لأصحاب الخبرة والتخصص في العمل، كل في مجاله، أما رئاسة مصر فيجب أن تكون لرجل أكاديمي وسياسي واقتصادي. ولدينا مثل محلي يقول: "أعطِ العيش لخبازه". فنرجو تحقق ذلك، وألا نصنع أسطورة من جديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.