أعاد توقيف راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية بالطائفة المارونية، المطران اللبناني موسى الحاج، كشف الانقسامات الطائفية والسياسية الكبيرة داخل المجتمع اللبناني، لا سيما لجهة استنسابية اللبنانيين، كل حسب انتمائه الطائفي أو السياسي، في إدانة الممارسات القضائية الاعتباطية، والاستنسابية في الملاحقات الجزائية.
تم التحقيق مع المطران الحاج عند معبر الناقورة الحدودي (جنوب لبنان) من قبل الأمن العام اللبناني، وذلك عند عودته من الأراضي الفلسطينية المحتلة التي يزورها بشكل دوري بعلم وموافقة الحكومة اللبنانية المسبقة، (وهو استثناء تجيزه المادة 285 من قانون العقوبات اللبناني)، لخدمة الأبرشيات الواقعة ضمن نطاق صلاحيته المكانية التي حددتها له البطريركية المارونية في لبنان، وللاطمئنان عن أحوال الرعايا المسيحيين في "الأراضي المقدسة".
وقد تم توقيف المطران الحاج بإشارة من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، القاضي فادي عقيقي، وقد أخلي سبيله بعد مصادرة جواز سفره والمساعدات العينية والمالية التي كان ينقلها الحاج من لبنانيين يقيمون في الكيان الإسرائيلي، ومنهم على ما يبدو عملاء سابقون في جيش لبنان الجنوبي (أنطوان لحد) الذي كان بإمرة الجيش الإسرائيلي أثناء احتلاله لجنوب لبنان، والذين فروا إلى إسرائيل بعد انسحاب جيشها سنة 2000، وهذه المساعدات -على ما يبدو- مرسلة لأقربائهم في لبنان، نظراً للأحوال الاقتصادية الكارثية التي تمر بها بلاد الأرز.
وقد تم إبلاغ المطران الحاج بضرورة التوجه إلى مقر المحكمة العسكرية في بيروت في اليوم التالي لاستكمال التحقيق. أثار ما جرى مع المطران الحاج حفيظة البطريركية المارونية وصولاً إلى الفاتيكان، وتوالت المواقف المنددة بالملاحقة، وقد رافق ذلك ضجة إعلامية كبيرة في لبنان.
وإذا كان تصرف المطران الحاج يطرح علامات استفهام قانونية كبيرة ومشروعة لجهة خرقه قانون العقوبات اللبناني، بالإضافة إلى قانون مقاطعة إسرائيل، إلا أنه تفوح من حيثيات الملاحقة، ومن توقيتها، ومن شكلها (التحقيق استغرق وقتاً طويلاً، وقد جرى دون إعلام البطريرك مسبقاً كما هو متعارف عليه)، رائحة السياسة وتصفية حساباتها، لا سيما ممارسة الضغط على البطريركية المارونية قبيل الانتخابات الرئاسية.
في هذا السياق، يبدو أنّ حزب اللّه قد اختار مرشحه لرئاسة الجمهورية، وهو شخصية من 8 آذار (سليمان فرنجية على الأرجح)، وأنه بصدد تذليل آخر عقبات أمام هذا الترشيح ضمن قوى 8 آذار، لا بل إنّ الحزب قد تخطى مرحلة الحلفاء إذ بدأ بالضغط، عبر وسائل ترهيبية تمثلت بملاحقة وتوقيف المطران الحاج والخطاب التخويني الذي رافقه، على من لديه الكلمة الأولى في هذا الاستحقاق في لبنان، أي البطريرك الماروني بشارة الراعي، في محاولة لإرغامه على السير بمرشحه، لا سيما أنّ البطريرك كان قد حدد في إحدى عظاته التي ألقاها منذ أسابيع قليلة مواصفات على الرئيس الجديد أن يتمتع بها (الوسطية، الاعتدال، النزاهة، الإيمان بحياد لبنان وبضرورة إبعاده عن سياسة المحاور الإقليمية وصراعاتها)، وهي مواصفات لا تنطبق على مرشح حزب اللّه.
ما يهمنا في هذا المقال ليس الغوص في الحيثيات القانونية أو السياسية للقضية، بقدر استعراض سلسلة المفارقات السياسية، وخصوصاً الأخلاقية التي أظهرتها هذه القضية في المجتمع اللبناني، ومحاولة تحليلها.
أكثر ما يلفت الانتباه هو، من جهة أولى، نسبية اللبنانيين في إدانتهم "للاعتباطية القضائية"، كل حسب انتمائه الطائفي أو ميوله السياسية، بالإضافة، من جهة أخرى، إلى أنّ التضامن مع المطران الحاج كان غالباً من منطلق طائفي وبعناوين هوياتية محضة.
إنّ التضامن مع المطران الحاج، أو مع أي شخص ممكن أن يتعرض لـ"الاعتباطية"، أو أن يكون ضحية لتسييس القضاء في لبنان، يجب أن يكون من منطلق مبدئي وطني وحقوق إنساني جامع وشامل، تضامن يهدف إلى الدفاع عن الحريات العامة والفردية، واستقلالية القضاء، ودولة القانون والمؤسسات، بمعنى أن يكون رفض الاعتباطية والاستنسابية وتسييس الملاحقات القضائية بمجملها وبشكل مطلق، لأنه أمر يخص كل اللبنانيين، بغض النظر عن الانتماء الطائفي أو السياسي لضحية هذه الاعتباطية، فالأخيرة سيف مسلط على رؤوسهم جميعاً بمختلف طوائفهم.
أما القانون، فيجب أن يطبّق بعدل على الجميع وبالتوازي، وبموضوعية، دون تفرقة، ودون تحوير، ودون اعتباطية، ودون تركيب ملفات وأفلام، ودون تمييز، لأنّ الاعتباطية والتفرقة في تطبيق القانون هما أكبر ضربة للعدالة ولحكم القانون.
اختلاف اللبنانيين في إدانتهم لاعتباطية بعض الإجراءات القضائية
ولكن نلاحظ أنّ من يتضامنون مع المطران الحاج اليوم، ويطالبون بأشد العبارات بضرورة إقالة القاضي عقيقي على وجه السرعة، غالباً ما كانوا من المصفقين للقضاء اللبناني في ممارسات اعتباطية واستنسابية أخرى جرت، في قضايا وملفات أخرى، في الماضي القريب، وممن كانوا ينظمون المعلقات في مدح قضاة آخرين لا تقل إجراءاتهم استنسابية أو اعتباطية، على الأقل في بعض جوانبها الأساسية، فهؤلاء قد صح فيهم قول: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
وبالمقابل، نلاحظ أنّ من يصفّق للقاضي عقيقي اليوم، غالباً ما كانوا يتظلّمون من غيره من القضاة بسبب إجراءات لا تقل استنسابية، وقد أصبحوا اليوم من كبار المدافعين عن القضاء اللبناني؛ لأن في ذلك مصلحة طائفية سياسية لهم، وذلك بعد أن كانوا بالأمس القريب من أكبر لاعنيه.. فسبحان مغيّر الأحوال!
هذه الاستنسابية التي دأب عليها اللبنانيون، كل حسب انتمائه الطائفي أو السياسي، في إدانة الاعتباطية القضائية، وذلك فقط عندما تكون الطائفة أو الحزب الذي ينتمون إليه هو الضحية، والتصفيق لهذه الاعتباطية عندما تستهدف "جماعة" طائفية أو سياسية أخرى، هو قصر النظر بعينه، وهو كمن يلف حبل المشنقة حول عنقه بنفسه.
فالأنظمة القمعية تعيش على سياسة فرق تسد التي تنتهجها، لا سيما من جراء سياسة الملاحقات الاستنسابية التي ترهب بها مداورة كل من يتجرأ على الوقوف بوجهها.
وعليه، يشكل تفرق اللبنانيين بسبب ازدواجية المعايير هذه المبنية على عصبيات طائفية وسياسية عند كثير منهم، لا سيما بالنسبة لموقف كل منهم من الاعتباطية القضائية التي تجري بدوافع سياسية، أكبر خدمة ممكن أن تقدّم لأي نظام قمعي، فذلك هو تحديداً ما تراهن عليه السلطة، وهذا هو الوقود الذي تستعمله للاستمرار في نقل القمع مداورة من شخص إلى شخص، ومن جماعة إلى أخرى.
"طائفية" حملة التضامن
أولاً لا بد من التأكيد على أنه، وبغض النظر عن كل الحيثيات القانونية والسياسية، لا بد من رفع القبعة أمام التضامن الواسع الذي حصل داخل الطائفة المارونية مع المطران الحاج ومع بكركي. وضعت القوى السياسية المارونية خصوصاً، والمسيحية عموماً، خلافاتها السياسية جانباً، وذهبت إلى المقر الصيفي للبطريرك الماروني للتعبير عن التضامن معه في هذه القضية.
وفي هذا درس يجب أن تتعلّم منه باقي الطوائف، لا سيما الطائفة السنية، ومفاده أنه لا يمكنك أن تطالب الآخرين بالتضامن معك إن لم تكن أولاً متضامناً مع نفسك.
بكلام آخر، لو كان الملاحق اعتباطياً شيخاً سنياً (كما حصل مراراً في السابق من تركيب للملفات)، لكان السياسيون السنة أول من تبرأ منه وتركوه وحيداً لقدره، ولكانت المؤسسة الدينية السنية قد نحت المنحى نفسه، ولكان مثقفو تبييض الوجه والتزلف قد أبدعوا في هجاء هذا الشيخ وفي الدفاع عن توقيفه كأمر حضاري عظيم، ولكان قبع في السجون دون محاكمة لسنين عديدة.
ولكن من المؤسف أنّ التضامن مع المطران الحاج لم يكن بعناوين وطنية جامعة، بل جاء غالباً تحت عناوين طائفية، وقد كان قائماً بشكل أساسي على اجترار قامت به وسائل إعلام لبنانية، وامتلأت به وسائل التواصل، لما يسميه المؤرخ الفرنسي جيرار نوارييل "صناعة التاريخ الهوياتي" (كتاب "السم في القلم"، غير مترجم للعربية، الذي خصصه لنقد خطاب اليميني الهوياتي المتطرف إيريك زيمور).
والمقصود هنا هو التاريخ الهويّاتي للجماعة الطائفية التي ينتمي إليها المطران الحاج في هذه الحالة، هذا التاريخ الهوياتي الذي أبدع المؤرخ اللبناني كمال الصليبي في تفنيطه ونقده وتعريته، لا سيما في كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، سواء كان ذلك لدى مسيحيي لبنان أو لدى مسلميه.
وقد جاء تسعير سرديات التاريخ الهوياتي، فيما يتعلق بقضية المطران الحاج، بهدف شد العصبية الطائفية بوجه حزب اللّه بشكل خاص، وقد كان السبيل لذلك إحياء مظلومية تاريخية مسيحية، والغرف في ميثولوجيا طائفية قوامها سرديات بطولية مسيحية قامت بها بكركي ضد المماليك والعثمانيين المسلمين.
بغض النظر عن صحة هذه السرديات من عدمها، فإنّ المشكلة الكبرى التي يطرحها هذا النوع من السرديات، هو أنه يخدم نظرية صراع الحضارات وينبثق من ذهنيتها، وهو بذلك يسعّر الانقسام والمشاكل والاقتتال عبر اجتراره لأحقاد الماضي والعيش حاضراً في آلامه، ومن شأنه أن ينفّر كل من يريد التضامن مع قضية المطران الحاج من اللبنانيين المسلمين.
المشكلة الأكبر هي عندما تتبنى وسائل إعلامية، تدعي أنها تحمل لواء المدنية والانفتاح والتغيير، في بلد متعدد طائفياً والوضع فيه قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، هذا النوع من السرديات، وعندما تعتمد أحزاب سياسية تدعي أنها خلعت رداء الحرب الأهلية، وأنها أصبحت رأس حربة التغيير، هذا النوع من الخطاب الهوياتي المنغلق.
امتياز قضائي يدحض خطاب "استرداد الحقوق"
وفي السياق الطائفي نفسه، من الجدير ذكره أنّ كثير من اللبنانيين، حتى من الحقوقيين المخضرمين، قد اكتشفوا، على هامش قضية المطران الحاج، مفارقة قانونية من العيار الثقيل من شأنها أن تدحض خطاب "استرداد الحقوق"، أي حقوق المسيحيين التي يدّعي التيار الوطني الحر أنّها مسلوبة من قبل المسلمين.
فقد تبيّن أنه إذا كان يمكن في لبنان ملاحقة الأساقفة اللبنانيين التابعين للفاتيكان، فإنه لا يمكن محاكمتهم أمام المحاكم اللبنانية أو اتخاذ أي قرار ذي طابع قضائي بحقهم، بل إنّ محاكمة الأساقفة الملاحقين بقضايا جزائية في لبنان من اختصاص بابا الفاتيكان حصراً، وذلك عملاً بالمادة ١٠٦٠ من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الصادرة عن الفاتيكان سنة ١٩٩٠، والتي أصبحت نافذة في لبنان منذ ١٩٩١.
يطرح هذا النص إشكاليتين مهمتين جداً، الأولى تتعلق بسيادة الدولة اللبنانية على أراضيها، لا سيما خرق مبدأ سيادتها القضائية في القضايا الجزائية (الاختصاص الجزائي بشقيه المكاني والشخصي)، والثانية تتعلق بخرق هذا النص لمبدأ المساواة أمام القانون، إذ إنه يمنح امتيازاً (حصانة قضائية في لبنان) لمواطنين لبنانيين دون غيرهم، وذلك تبعاً لمهنتهم (رجال دين)، لا بل يعطي امتيازاً قضائياً لرجال دين من طائفة معينة، دون أن يعطي الحصانة نفسها لرجال الدين من غير طوائف (حتى ضمن الطائفة المسيحية مثلاً فيما يخص المذاهب غير التابعة للفاتيكان)، وهو تمييز في التعامل على أساس الانتماء الطائفي.
بكلام آخر، يشكل هذا النص الجاري المفعول في لبنان، والذي يميّز بعض الطوائف المسيحية عن غيرها من الطوائف اللبنانية، خللاً قانونياً فادحاً على أكثر من مستوى، وهو نص لا بد من إلغائه بقانون عصري يتلاءم مع القرن الواحد والعشرين، وقد فضح اكتشافه من قبل كثير من اللبنانيين، على هامش قضية المطران الحاج، زيف ادعاء بعض القوى السياسية المسيحية، كالتيار الوطني الحر، التي بنت كل خطابها السياسي على مقولة "استرداد حقوق المسيحيين"، وهي تقصد، بحسب هذا الخطاب الطائفي، أنّ هذه الحقوق مسلوبة من قبل المسلمين.
الخلاصة
بالمحصلة، إنّ تسخير القضاء لتصفية الحسابات السياسية، وتوجيه الرسائل السياسية أمر مرفوض ومدان، وذلك مهما كان الشخص المقصود، ومهما كانت الطائفة المستهدفة.
كما أنّ مجابهة الاعتباطية القضائية والاستنسابية في الملاحقة لا تكون عبر عناوين طائفية، ولو كان المستهدف رجل دين، لا بل خصوصاً إذا كان المستهدف رجل دين؛ لأنّ الاستنسابية في الملاحقة والاعتباطية القضائية سيف مسلط على رؤوس جميع اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم الطائفية بمجرد أن يرفضوا الرضوخ لسلطة الأمر الواقع ويعلون الصوت بوجهها.
كما أنه لا يصح أن يكون التضامن مع المطران الحاج من منطلق ضرورة تعميم القمع، وهو ما دأب على المطالبة به من يدورون في فلك السلطة. فمطالبة السلطة بتركيب الملفات لأشخاص ورجال دين من طوائف أخرى، أو لناشطين من المجتمع المدني، بداعي "التوازن" والعدالة"، ليس الوسيلة لمعالجة الاستنسابية والاعتباطية القضائية إطلاقاً، بل هو تحديداً ما تراهن عليه السلطة من أجل استمرارها في نقل دائرة الاعتباطية من شخص إلى شخص، ومن طائفة إلى طائفة، ومن حركة سياسية إلى أخرى. وهكذا موقف ينم عن نفسية طائفية محضة ولو ادعت العكس، وعلى ذهنية "الواشي" (أو "الفسّيد" في الدارجة اللبنانية) الذي يتبرع للوشاية ضد غيره للإفلات من العقاب (أو لإفلات من يدعم من العقاب).
المواجهة تكون بعناوين وطنية جامعة توحد اللبنانيين حول دولة القانون والمؤسسات واستقلالية القضاء، لاسيما أنّ السلطة الحاكمة فعلياً، حزب اللّه وحلفاءه، تراهن تحديداً على هذا النوع من الانقسام الطائفي بين اللبنانيين كي تنقل استنسابيتها من شخص إلى شخص، ومن طائفة إلى طائفة، ليكونوا قد قدموا أكبر خدمة لها.
الحكمة والروية مطلوبتان، وليست حميّة العصبيات الجاهلية، وقطعاً ليس الصمت المطبق عن الحق الذي أتحفنا به بعض أشاوس "التغييريين" (القوى المنبثقة من المجتمع المدني).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.