شارك أكثر من مليوني تونسي من جملة تسع ملايين ناخب، في الخامس والعشرين من يوليو/تموز من سنة 2022، في الاستفتاء على الدستور الجديد، الذي صاغه قيس سعيّد وأراده وثيقة مرجعية في جمهوريته الجديدة (حسب البيانات الرسمية).
ومثل الاستفتاء حدثاً جديداً يضاف لهذا التاريخ إلى جانب ذكرى إعلان الجمهورية (25 يوليو/تموز 1957) وذكرى اغتيال النائب الحاج محمد البراهمي (25 يوليو/تموز 2013) وذكرى وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي (25 يوليو/تموز 2019) وذكرى الانقلاب الدستوري (25 يوليو/تموز 2021).
ومع أن نسبة المشاركة المقدرة بـ27%، حسب أرقام الهيئة العليا للانتخابات، هي الأضعف منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، فإن الرئيس التونسي لم يتأخر في الخروج للاحتفال مع أنصاره وإعلان انتصار آخر له ضمن مسار متواصل، يبدو أنه واضح في ذهنه على قدر غموضه في أذهان غيره.
ليكون سؤال "ما هي خطوات قيس سعيد القادمة؟" هو الأكثر إلحاحاً لفهم وتفكيك المشهد التونسي.
دخول دستور "السلطان" حيز التنفيذ
رغم الغموض المعتمد من قِبل الرئيس التونسي منذ توليه الحكم سنة 2019، فإن المتابع للشأن التونسي صار على يقين بأنه مواصل في خطواته دون تراجع ولا مراجعة.
وإن حصل جدل في تقييم جدوى مقاطعة الاستفتاء من قِبل المعارضة من عدمه، فالجميع متفق على أن سعيد سيعلن نجاحه مهما كانت نسبة المشاركة "رغم محاولات العرقلة والتشويش"، كما يردد دائماً.
الآن وبعد نهاية التصويت يمكن القول إن سعيد نجح مرة أخرى في فرض الأمر الواقع، حيث يدخل دستوره الجديد حيز التنفيذ منذ إعلان هيئة الانتخابات النتائج النهائية، فيتحول حينها من رئيس منقلب على دستور، يغتصب صلاحيات لا يملكها، إلى سلطان يحكم تونس بمفرده بحكم الدستور.
أيضاً وبعد الانطلاق في تطبيق الدستور الجديد، ستصير المعارضة الداخلية والخارجية أكثر حرجاً في توصيف ما حصل في تونس على أساس أنه غير قانوني وغير شرعي.
والمؤسف أن مئات الآلاف من التونسيين ورغم ضعف نسبة المشاركة، وما حصل من تشكيك في نزاهة العملية الانتخابية من قبل المعارضة، توجهوا إلى صناديق الاقتراع وارتضوا المصادقة على دستور يضع كل السلطات بين يدي فرد لم يتردد، منذ أكثر من سنة، في إعلان خطوات وصفها مراقبون محليون ودوليون بالديكتاتورية.
وإن يطول الحديث حول أسباب ودلالات سلوك أنصار الدستور الجديد فالمهم أن الرئيس التونسي، وبهذه الخطوة، ورغم تواصل ارتفاع صوت المعارضة وإعلانها تمسكها بدستور 27 يناير/كانون الثاني 2014، قد مضى قدماً في إقفال باب الاحتجاج على شرعية خطواته، وينطلق من جديد في مواصلة مسيرة إنجاح مشروع "البناء القاعدي" من خلال سن قوانين جديدة قبل محطة الانتخابات التشريعية.
مزيد من القوانين على المقاس
يفصل تونس على محطة الانتخابات التشريعية القادمة خمسة أشهر، حسب خارطة الطريق التي أعلنها سعيد في 13 ديسمبر/كانون الأول 2021.
والأكيد أن قيس سعيد لن يذهب في إنجاز الانتخابات في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، قبل إزاحة ما تبقى من "عراقيل" قانونية تحولُ دون نجاح بقية الخطة، والأرجح أن يكون تنقيح قانون الأحزاب وقانون الانتخابات من الأولويات الملحة هنا، حيث من المنتظر أن تكون الخطوة القادمة إعلان قانون جديد للأحزاب، يعلن من خلاله وضع جملة من الشروط الجديدة المقيدة لتكوين الأحزاب السياسية، والمرتبطة أساساً بعلاقتها بالدين وأيضاً بعض الشروط الأخرى التي تزيد من التضييقات حول تمويلها وشكل إدارتها.
ثم من المرجح أن يذهب في سَن قانون انتخابي يقوم على إقصاء الأحزاب التي ارتكبت مخالفات ذات علاقة بالتمويل الأجنبي في سابق المحطات، حسب ما يتوقع أن يصدر عن محكمة المحاسبات من أحكام في الجرائم الانتخابية في قادم الأسابيع أو الأشهر.
ومن المتوقع أيضاً أن يتضمن القانون الانتخابي الجديد بنوداً تغيّر من نظام الانتخابات المعتمد منذ سنة 2011، والقائم على انتخاب قائمات حزبية وائتلافية ومستقلة باعتماد نظام التمثيل النسبي، إلى نظام قائم على التدرج في الانتخاب من القاعدة (انتخابات محلية) إلى المركز (انتخاب البرلمان ومجلس الأقاليم والجهات) وأن يكون ذلك على الأفراد باعتماد نظام الأغلبية حيناً والقرعة أحياناً، مع إمكانية سحب الوكالة من الفرد المنتخب كلما رأى الناخبون إخلالاً من قبله في تنفيذ وعوده، وإن كان ذلك نهاية ولايته الانتخابية.
وإن كان في التعديلات المرتقبة توجه واضح نحو إقصاء منافسين محتملين في الانتخابات التشريعية القادمة، والمقصود هنا حركة النهضة وحزب قلب تونس تحديداً، فإن الإصرار على تنفيذ مشروع البناء الديمقراطي القاعدي الذي طالما بشر به سعيد وأنصاره هو جوهرها بالأساس.
لكن وحسب نص الدستور، لا يمكن لهذا المشروع أن ينجح دون وجود حاكم في قرطاج يسهر على نجاح تنزيله، ويطرح السؤال هنا هل ينتظر سعيد 2024 لإنجاز الانتخابات الرئاسية أم يذهب في إعلان انتخابات رئاسية مبكرة تزامناً مع الانتخابات التشريعية أو قبلها؟
انتخابات رئاسية مبكرة ممكنة
وإن غابت عن الساحة التونسية كل المؤشرات عن إمكانية إنجاز انتخابات رئاسية مبكرة، فإن سعيد عودنا على القيام بخطوات غير متوقعة، وهو ما يجعل التفكير خارج صندوق المتداول في الساحة ضرورياً لاستشراف ما يمكن أن يحدث.
وهنا تقفز فكرة إمكانية استثمار سعيد حالة التنظيم التي انتهجها أعضاء تنسيقياته في "إنجاح" الاستفتاء وانتشاء أنصاره بالإنجاز الجديد ليعلن انتخابات رئاسية مبكرة، خاصة في ظل غياب مرشح قادر على منافسته الآن من المعارضة، وكذلك في ظل ما تعرفه هذه الأخيرة من تشتت وتفكك.
أيضاً ومع عجز سعيد عن تحقيق إنجازات تنموية وفي ظل تواصل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي مع غياب دلالات لتحقيق انفراج في هذا المستوى، قد يفكر سعيد في حال البلاد بعد سنتين، وإمكانية توسع رقعة الغضب عليه، بما يجعل تقديم الانتخابات قبل الوصول لتلك المرحلة أسلم بالنسبة إليه.
يبدو أن الرئيس التونسي، وعكس ما يظنه بعض معارضيه، يشتغل وفق خطة أحكم صياغتها منذ إعلان نية الترشح للرئاسة في 2019، ويبدو أيضاً أن جزءاً من المعارضة من خلال ما قامت به من أخطاء سابقة، انطلاقاً من عدم انتباهها لخطورة سعيد ومشروعه مروراً بإسقاط حكومة حبيب الجملي إثر الانتخابات التشريعية ثم حكومة إلياس الفخفاخ وصولاً إلى حالة التشتت والتفكك التي سبقت الانقلاب ولحقته، تساعده على إنجاح مخططه.
ورغم محاولات الضغط على سعيد وتحشيد الرأي العام الداخلي والخارجي ضده ورغم ما تشهده المعارضة من تحالفات وتكتلات، فإن مواصلة تصدر وجوه فشلت سابقاً في تحقيق وعودها ولا تحظى بثقة التونسيين صفوفها، وحالة الاستقطاب الحاصلة بين هذه الوجوه وقيس سعيد، ساهمت في التفاف جزء منهم حول هذا الأخير كما ساهمت في نجاح خطواته السابقة.
فهل يستغل الرئيس التونسي هذه النقطة في قادم خطواته وخاصة في الانتخابات الرئاسية إن أعلنها قريباً بصفة مبكرة؟ أم إن المعارضة تنتبه لهذا القصور وتحقق التجديد المطلوب منها في مستوى الوجوه وآليات العمل؟
ومهما حصل من تحسينات في مستوى عمل المعارضة يبقى السؤال المركزي هو: هل يمكن لها أن توقف خطوات قيس سعيد في ظل تواصل انحياز المؤسسات الصلبة له وفي ظل عدم التحاق الاتحاد العام التونسي للشغل بالمعارضة المطالبة بإسقاط الانقلاب بشكل واضح حتى الآن؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.