مما رسخ في ذاكرتي وساهم في مرحلة من مراحل حياتي في تحديد طريقة تفكيري عبارة "العلم سلاح ذو حدين"، التي يكاد يجمع عليها الناس باعتبارها حقيقة مطلقة وقاعدة فكرية مقدسة، فكنا (ونحن في مراحل ما قبل الجامعي) ننطلق منها عند الحديث عن موضوع العلم وأهميته في حياة الناس ونحاول من خلالها إثبات أن للعلم سلبيات وجب تفاديها، ونركز بطبيعة الحال على اعتبار صناعة الأسلحة (خاصةً أسلحة الدمار الشامل) من سلبيات العلم القاتلة التي وجب تجنب البحث والاهتمام بها، وكنا نختم مواضيعنا دوماً (بكل فخر وثقة)، بالدعوة إلى التركيز على الجانب السلمي من العلم مثل الطب وصناعة الأدوية.
وبطبيعة الحال كل هذا بمباركة وتشجيع أساتذتنا الكرام حينها. فينشأ الواحد منا مقتنعاً بأن صناعة الأسلحة وما ارتبط بها من المكروهات إن لم تكن حراماً فمن الواجب الابتعاد عنها وعدم التفكير فيها بالمطلق! والذي أحزنني أكثر أن هذا التصور ما زال سائداً وما زال الطلبة بتشجيع من أساتذتهم يفكرون ويحررون كتاباتهم بالمنطق نفسه.
التجربة الباكستانية
"حتى تبقى باكستان دولة مستقلّة فإن عليها إنشاء برنامج نووي".
هذه العبارة هي ملخص رسالة عبد القدير خان (أبو القنبلة النووية الباكستانية) إلى رئيس بلاده حينها في 1974، بعد أن أجرت الهند (العدو التاريخي لباكستان) تجربتها النووية. وحقق "خان" حلمه بصناعة النووي في وقت قياسي فاجأ العدو الغربي البعيد جغرافيّاً قبل العدو الجار، وانطلاقاً من المنطق الذي ضُللنا به (السلاح النووي شر) سأله صحفي فلسطيني عما حققه من صناعته للقنبلة النووية فأجابه: لقد جنّبت بلادي والمنطقة حرباً رابعة! وهو يشير بذلك إلى الاتفاق الروسي-الهندي في صيف 1986 بحشد قواتهما على حدود باكستان، واحدة من الشرق وأخرى من الغرب، وتخطيطهما لوضعها بين فكَّي كماشة بهدف إنهاء قضيتي أفغانستان وكشمير في الوقت نفسه وإلى الأبد، ولو بتفكيك باكستان.
مع ملاحظة أن التحرك الهندي خاصة (حشد أكثر من مليون جندي على الحدود مع باكستان)، تم بضوء أخضر من أمريكا حينها، ورُفضت جميع مساعي باكستان الدبلوماسية ومحاولاتها لحل المشاكل ودياً، وبقي الجميع يترقب ساعة الصفر لتدمير باكستان.
حينها دعا الدكتور "خان" ثلاثة صحفيين لتناول الغداء بمنزله (اثنان منهم يمثلان وكالتي أنباء دوليَّتين). وفي لقاء كان يبدو غير رسمي ولا يحمل بعداً سياسياً وفي خضم دردشته مع الصحفيين، أعلن خان (بما يشبه زلة اللسان) ببساطة وبكل هدوء، عن توصلهم لصناعة النووي، بقوله: "لقد صنعنا الكثير".
وكانت لزلة اللسان هاته أثرها المباشر في إفشال استراتيجية الكماشة وتغير حسابات الكل بين وجبتي الغذاء والعشاء، وأعلنت نيودلهي سحب قواتها واستعدادها للحوار مع باكستان!
وهنا دعونا نلخص الأمر في نقاط محددة:
1- ماذا لو لم تتوصل باكستان لكسب قوة الردع، هل كنا سنرى اليوم على خريطة العالم دولةً اسمها "باكستان"؟!
2- ماذا لو كان عبد القدير خان خُدر بالثقافة العليلة التي تقوم على فكرة أن السعي لكسب السلاح هو الوجه السيئ -اللاأخلاقي- للعلم؟!
3- مما أكده "خان" أن مشروعه لم يقم على أساس توفير أموال ضخمة وإنما على علاقات عامة في السوق الدولية (المقايضة بالمعلومات والمعدات)، ويَروى أنه وقف ذات يوم على سطح ناطحة سحاب في دبي وحسَبَ بمساعدة مرافقه ثمن مجموع السيارات الفارهة التي تحيط بالمبنى، ثم علَّق بأن ثمنها كافٍ لصناعة ما يكفل حماية البلاد ومدخراتها، فلو تبنينا- نحن العرب- هذا المنطق الإيجابي ما كنا لنرى الإمارات وغيرها ترتمي في أحضان الصهيونية طالبةً حمايتها.
4- أكد "خان" أن العلم ملك للإنسانية، وليس حكراً على الدول القوية.
5- في هذا المسعى، من المهم قطع الطريق عمن يحتج بالاختلافات السياسية أو الفكرية مع السلطة، فعبد القدير لم يكن راضياً بحكام بلاده وسياساتها، لكنه تعايش معهم بما يحقق المصلحة العليا للأمة وعلى رأسها مشروعه الاستراتيجي "البرنامج النووي"، وهنا أرى أن هذه النقاط الخمس مهمة جداً لسلطتنا ولعلمائنا للانطلاق في مشروعنا لاكتساب القوة.
تفكيك السلاح النووي خطأ أوكرانيا القاتل
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي (1991) احتفظت أوكرانيا بنحو ثلث ترسانة الأسلحة النووية السوفييتية على أراضيها (ثالث أكبر ترسانة في العالم حينها)، إضافة إلى معدّات مهمة لتصميمها وإنتاجها، وفي ظل غياب الحس الاستراتيجي لدى قادتها آنذاك (1994) ونظرتهم الساذجة، وافقت أوكرانيا (اتفاق لشبونة) على تدمير ما تملكه من قوة ردع (قنابل نووية وصواريخ) مقابل ضمانات أمريكية-بريطانية بحمايتها والدفاع عنها وتعهد روسي بعدم الاعتداء! وبعد تفكير طويل لم أجد ما أفسر به هذه الحماقة إلا بهذه الأمور:
1- أن حكام أوكرانيا الذين قرروا التخلي عن قوتهم درس أغلبهم في مدارسنا وتَشرَّبوا لوثة تفكيرنا بأن صناعة النووي عمل لا أخلاقي.
2- الظاهر أنهم لم يستفيدوا من دروس التاريخ، فأمريكا التي دمرت العراق بحجة (ثبث كذبها لاحقاً) امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، في الحقيقة لو كان عندها شك بسيط في امتلاكه قنبلة واحدة ما تجرأت وحلفاؤها على إطلاق رصاصة واحدة باتجاهه، فها هي كوريا الشمالية تتحدى أمريكا وحليفتها اليابان وتستفزهم بصواريخها ولم يجرؤ الغرب على محاولة تأديبها وزجرها، لسبب بسيط، وهو يقينهم من امتلاكها للنووي.
3- بأي منطق فكَّر الأوكرانيون حين تخلوا عن قوتهم وسلاح ردعهم وسلموا رقابهم لغيرهم، حلفاء أو أعداء؟! فأين ضمانات أمريكا وبريطانيا بالدفاع عنهم لما خان الروس العهد وهاجموهم في 2014 واقتطعوا جزءاً كبيراً من شرقهم، ثم غزوهم غزواً شاملاً اليوم؟
دعوة للتصحيح
انطلاقاً من خطورة الفكرة وأن الأفعال في الواقع انعكاس لما نعتقده (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، أدعو إلى تصحيح فكرتنا عن العلم.. فللعلم حد واحد هو القوة.
– وأظن هذا ما عبَّرت عنه القاعدة القرآنية في قوله تعالى (الأنفال: 60) "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…"، وقد جاءت نكرة تعبيراً عن واجبنا في السعي لكسب القوة بنوعيها (خشنة أو ناعمة) وبجميع أشكالها وصورها (قوة الفكر، قوة السلاح، قوة الاقتصاد، قوة المال، قوة الإعلام،… إلخ).
– وفي الآية نفسها يعقّب سبحانه وتعالى، بقوله "تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، فالهدف الاستراتيجي هو لردع العدو وليس للتعدي وظلم الناس.
– أما الجانب الأخلاقي الذي طغى عند بعضهم فمضمون في تراثنا وثقافتنا دون المساس بالأصل، وقد جاءت قواعد ووصايا قرآنية ونبوية كثيرة في هذا الباب مثل: لا تقطعوا شجرة.. ولا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً ولا مريضاً.. لا تمثلوا بالجثث.. ولا تسرفوا في القتل.. ولا تهدموا معبداً ولا تخربوا بناءً عامراً.. حتى البعير والبقر لا تُذبح إلا للأكل. كما دعينا إلى الإحسان إلى الأسير وإكرامه وإطعامه، وأن نوفي بالعهد، وألا نجبر أحداً على الإسلام.
فهذه منطلقات ثلاثة أساسية أظنها كافية لبناء قواعد تفكير جديدة حول العلم وأهميته، نبدأ في تلقينها لأبنائنا متى أمكنهم التعبير عن أفكارهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.