منذ فترة ليست بالطويلة، وصلت لمسامعي قصة دُفنت بين الرمال، عن جنود مصريين اختفوا في مهمة سرية وسط الأرض المحتلة منذ عام 1967، ومع دفن قصتهم، دُفنت أسماؤهم وهوياتهم كذلك، وغفل عنها التاريخ، متخلياً عنهم وسط وحدة النسيان، بلا ذكر أو ذكرى، هكذا خبت شموعهم من الحياة، ليكشف عنها المحتل أخيراً بعد مرور العقود الطويلة ويخبرنا أنه دفنهم سراً وبنى فوقهم حديقة عامة سياحية، تتغذى أشجارها على دمائهم، فترث كرههم لذات المحتل الذي يختال فوق الأرض المسروقة فرحاً.
لست هنا لأتحدث في هذه القضية أو ذاك الخبر، بل لأحكي تجربة شخصية مأساوية ألمَّت بي بسبب هذه القصة.
البحث عن الزمن المفقود
منذ أن علمت بتلك القصة، ويغمرني شعور غريب، إحساس غير مفهوم، صوت يهمس بين أذنيّ، ويخبرني بأنني متخاذل، أسأل الصوت: "متخاذل عن ماذا؟"، فيجيبني: "متخاذل عن تذكّر من فدوا أرضك ودينك وحياتك بحياتهم، فإن نسيهم التاريخ، بل إن نسيهم كل البشر، اذكرهم أنت ولو في نفسك، فهذا أضعف الإيمان".
حينها أدرك عقلي ما كنت غافلاً عنه، مطلقاً العديد من التساؤلات، باحثاً عن إجابات كل منها تزيدني حزناً ويأساً، فهل نحن نعطي شهداءنا حقهم في الذكرى كما يستحقون؟
دفعني هذا السؤال للقيام برحلة بحث على الإنترنت عن حرب عام 1967 أو كما نسميها حرب النكسة، أو كما يسميها أعداؤنا حرب الستة أيام، وحين لم أجد ما أبحث عنه من ذكرى لأبطالنا ممن قضوا فيها شعرت بالأسى.
لا تسئ فهمي، فلا أقصد بالطبع أنني عجزت عن إيجاد معلومات عن الحرب، فالمعلومات المتوفرة عنها كفيلة بجعلي أحضر ماجستير في أسبابها وأحداثها، ولكن ما أقصده هو القصص الفردية، التجارب الشخصية، المآثر البطولية للجنود الذين قضوا خلال تلك الأيام الست.
قضيت عدة أيام في رحلة البحث عن تلك القصص، أردت أن أخلّدها في ذكرياتي كما تُخلد أساطير الأبطال العظيمة، لكن للأسف عدت في النهاية بخفيّ حنين، حين لم أجد منها ما يتعدى القصص المتناقلة والحكايات المتكررة بلا توثيق أو تأريخ لها.
أمثلة على تلك القصص
إحدى تلك القصص تحكي عن بطل مجهول الاسم، مجهول السن والعنوان والرتبة، يسمونه بطل تبة العريش، حيث يقال إنه كان شاباً يقترب عمره من الثلاثين وكان قد وصل العريش من اتجاه غزة منفصلاً عن رفاقه، ولم يكن معه في ذلك الوقت سوى سيارة بها مدفع مضاد للدبابات والعديد من الطلقات والذخيرة.
يقال إن ذلك البطل المجهول طلب من أهالي العريش مساعدته على حمل ذلك المدفع فوق تبة عالية، ثم حمل الذخيرة والعديد من أكياس الرمال معه فوقها وتمركز هناك وحيداً منتظراً زحف الغزاة.
وبمجرد أن ظهرت الكتيبة الأولى من كتائب المحتلين القادمين، استطاع تدمير أول دبابة وآخر دبابة في صف الكتيبة محاصراً بقية الدبابات بين حفرتين من نار ومرغماً إياهم على التفرق عبر الرمال؛ مما جعل استهدافه لهم سهلاً، وهكذا استمر هذا الشاب مرابطاً حتى كبّدَ العدو خسائر فادحة، مما دفعه لإرسال فرقة قوات خاصة وإنزالها خلف التبة لقتله.
وبالفعل نجحت الفرقة في قتل هذا البطل بالقنابل، واستشهد وحيداً فوق تبته التي دافع عنها، وهكذا نُسي اسمه ودُفنت هويته معه.
هناك أيضاً قصة العميد أسامة علي صادق والذي كان برتبة ملازم أثناء النكسة، حيث يقال إنه وجد نفسه مع كثير من الجنود الآخرين تائهين وسط صحراء سيناء بلا هدى، أسر العدو منهم الكثير وقتل منهم أكثر، مات منهم العديد جوعاً وعطشاً، ونهشت لحومهم النسور وهو حي شاهد على تلك المشاهد البشعة.
وفي النهاية استطاع العميد أسامة النجاة مع خمسة جنود فقط بسبب عثورهم على بدوي من بدو سيناء ساعدهم على الهرب وأرشدهم عبر الصحراء، ويقال إنهم لم يرغبوا في الهرب دون رد، فاشتبكوا بما تبقى لهم من سلاح خفيف مع العدو الإسرائيلي، ودمروا بالفعل العديد من المدرعات والعربات، حتى تم في النهاية حصارهم في كهف لمدة ثلاثة أيام وسط قصف إسرائيلي متواصل.
خرجوا من الكهف ليشهدوا دبابات العدو وهي تدهس مئات الأسرى من رفاقهم، هربوا وأكلوا الغربان وشربوا بولهم وعبروا ألف كيلومتر على أقدامهم حتى كتبت لهم النجاة في النهاية.
وهناك بالفعل غيرها من مئات القصص والشهادات عن الكابوس الذي عاشه الجنود وعن البطولات التي شهدوها خلال تلك الأيام المأساوية، ولكن جميعها قصص بلا توثيق أو تاريخ؛ مما يجعلنا نتساءل عن حق هؤلاء الجنود علينا.
مأساة التوثيق والتاريخ
نعم هناك العديد والعديد من القصص، بالفعل هناك العديد والعديد من الشهادات، ولكن لماذا معظمها ليست موثقة؟ بل لماذا لم نوثق أحداث هذه الهزيمة ومعاناة جنودنا وأسماء شهدائنا لنحفظ ذكراهم؟
فإن قمت اليوم بالبحث في شبكة الإنترنت عن تفاصيل المآسي التي عاشها جنودنا في تلك الأيام الستة، في الأغلب لن تجد شيئاً بتلك الدقة التي ترغبها، ولكن إن قررت البحث عن تاريخ الكرة المصرية منذ ما قبل عام 67 فربما تجد تأريخاً منظماً وبكل التفاصيل المملة لتلك الرياضة بأنديتها وأسماء أفراد فرقها وتاريخهم وما حدث لهم.
ولكن حين يأتي الأمر لتلك الهزيمة، ولهؤلاء الشهداء، تجد فقراً ملحوظاً في عملية التوثيق والتاريخ، بل حتى في الإنتاج السينمائي والوثائقي، وكأن تلك الأيام الستة ومآسي جنودنا وشهدائنا فيها، قد أُريد لها النسيان.
مأساة السرد الوطني
في إحدى المقالات السابقة، تحدثت باستفاضة عن مأساة السرد في عالمنا العربي، في عالم يتحكم فيه مستعمروه الغربيون وغزاته الإسرائيليون في منافذ القوى الإعلامية.
فتجد أن الأمريكيين يصنعون آلاف الأفلام السينمائية والوثائقيات العاطفية عن بطولات وهمية قام بها جنودهم أثناء غزوهم لبلاد أخرى وترويعهم لمنازل الآمنين وقصفهم للأطفال في أحضان أمهاتهم، بينما نتناسى نحن أسماء شهدائنا، بل نتجاهل بطولاتهم، وتجد إنتاجنا الإعلامي شديد الفقر مقارنة بمن حولنا.
هل نحن نريد حقاً لأبطالنا أن ينساهم التاريخ؟ أليس واجباً علينا أن نذكرهم ونتذكرهم في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل دقيقة، بل في كل لحظة؟ فأبطالنا ممن استشهدوا على يد المحتلين الإسرائيليين غدراً في تلك الأيام الستة، وجب علينا أن نخلّد أسماءهم وذكراهم وقصصهم منذ الدقيقة الأولى لتلك النكسة، والآن لا ينفك ذلك الشعور بأننا قد خنّاهم عن مراودتي.
لذا أتمنى منذ هذه اللحظة التي أخط بها هذه الكلمات، أن نتدارك الأمر، ليس بمجرد فيلم سينمائي نصنعه كل بضع سنين، ولا بكتاب يخطه جندي قديم حزين على رفاقه يتم إلقاؤه في النهاية على رف مغبّر وسط ملايين الكتب، ولا حتى بلقاء تلفزيوني سنوي.
بل بتحويلهم لأيقونات حقيقية، وبسرد قصصهم كأعظم قصص الأساطير القديمة، وتعليمها لأجيال وأجيال من الأطفال، حتى يتعلم كل طفل ألا ينسى فضل أجداده، وأن يتذكر شهداءه وأبطاله، وألا يخون تضحياتهم وقضيتهم وهويتهم أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.