يعيش لبنان منذ أواخر عام ٢٠١٩ أزمة مالية غير مسبوقة، وانكماشاً حاداً في الاقتصاد لم يسبق له مثيل في تاريخه، ويرزح الشعب اللبناني تحت أعباء هذه الأزمة، حيث بلغت مستويات الفقر ما يقارب ٨٨٪ من تعداد السكان بعد أن كانت في حدود ١٥٪، تجلت الأزمة بانهيار سعر صرف العملة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي وسائر العملات الأجنبية، حيث إن السبب الأساسي لهذه الأزمة هو افتقار لبنان إلى كميات كبيرة من الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية لسد حاجات الشعب اللبناني، بالإضافة إلى حاجات اللاجئين على أرضه من فلسطينيين وسوريين وعراقيين هاربين من أزمات بلادهم.
من الصحيح أن السبب الرئيسي لهذه الأزمة هو فشل الإدارة السياسية وسوء الإدارة المالية والاقتصادية للبلاد، في بلد مثل لبنان اقتصاده ريعي يقوم على المصارف والسياحة والخدمات، إلا أن ذلك لا يعني أن هذا هو السبب الوحيد للأزمة، فقد أدت الظروف السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط إلى زعزعة الأوضاع في لبنان من دون أن يكون قادراً على تفاديها أو مواجهة انعكاساتها، لا سيما الثورة السورية والحرب الطائفية في العراق ونشوء داعش كمنظمة إرهابية.
لقد لعبت بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية دوراً مهماً في محاولة إسقاط نظام الأسد في سوريا عبر دعم مجموعات من الثوار بالمال والسلاح، وذلك بالتعاون مع بعض دول المنطقة، كما رأت بعض الدول الأوروبية أن الأوضاع في سوريا فرصة مناسبة للتخلص من إرهابيين محتملين موجودين على أراضيها، فقامت بتسهيل نقلهم وعبورهم إلى سوريا عبر لبنان وتركيا، ما ساهم بشكل أو بآخر بجعل سوريا أرضاً لأكبر عدد من الإرهابيين، وأدى ذلك لاحقاً إلى قيام تنظيم داعش أحد أسوأ التنظيمات الإرهابية في التاريخ.
لقد اتخذ بعض هؤلاء من سلسلة جبال لبنان الشرقية مراكز لهم، وهددوا الأمن اللبناني، واختطفوا وأعدموا جنوداً لبنانيين، وكانت لوجودهم ارتدادات سلبية على الواقع الأمني في لبنان، خصوصاً سلسلة التفجيرات بسيارات مفخخة التي نفذتها هذه المجموعات في أماكن وجود حزب الله الداعم لنظام الأسد في سوريا.
وقد أدت الأحداث في سوريا إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى دول الجوار، وكان لبنان من الدول التي استقبلت العدد الاكبر من النازحين وذلك نظراً لعدد سكانه، إذ بلغت نسبة اللاجئين المسجلين في السنتين الأولى والثانية مليوناً ومئتين وخمسين ألف لاجئ، وتؤكد المصادر أن هناك أعداداً كبيرة من اللاجئين غير المسجلين؛ حيث يصبح تعداد هؤلاء أكثر من مليونين (رقم تقريبي غير دقيق كليّاً)، وهذا رقم كبير جداً بالنسبة إلى بلد يبلغ تعداده السكاني ٤ ملايين نسمة فقط، يضاف إليهم مليون لاجئ فلسطيني وبضع عشرات الآلاف من النازحين العراقيين.
لقد أدى هذا الواقع إلى ازدياد الطلب على الاستيراد في بلد لا ينتج حاجاته الغذائية أصلاً، وارتفعت فاتورة الاستيراد من ١٢ مليار دولار سنوياً إلى ٢٢ ملياراً، كان لبنان يؤمن حاجاته من الدولار قبل الأزمة السورية عبر تحويلات المغتربين من الدولار والعملات الصعبة التي كانت تبلغ قيمتها ٨ مليارات دولار بالإضافة إلى عوائد بعض الصادرات الزراعية والصناعية التي كانت تبلغ ٤ مليارات دولار سنوياً، وكان هذا الأمر يؤدي إلى الحفاظ على استقرار البلاد.
لكن مع بداية اللجوء السوري إلى لبنان وازدياد الطلب على الاستيراد استطاع لبنان تأمين حاجاته من الدولار من خلال مساعدات الأمم المتحدة للاجئين بالإضافة إلى مساعدات لا بأس بها من دول الاتحاد الأوروبي لا سيما فرنسا وألمانيا وهولندا والدنمارك، يضاف إليها بعض المساعدات من دول عربية كقطر والسعودية، ولكن مع استمرار الأزمة إلى أكثر من سنتين بدأت هذه المساعدات بالتراجع إلى حد كبير، وبدأ الاقتصاد اللبناني لأول مرة منذ أزمة اللجوء السورية يرزح تحت وطأة ضغط كبير.
ولنقِس حجم تأثير هؤلاء اللاجئين في بلد مثل لبنان وفي ظل غياب الأرقام الحكومية الرسمية، يكفي أن نعرف أن الاقتصاد الألماني على سبيل المثال سيتباطأ نموه بنسبة 11% بعد دخول اللاجئين الأوكرانيين إلى ألمانيا، مع أن عدد هؤلاء لم يتخطَّ بعد المليون لاجئ في ألمانيا، وعدد سكان ألمانيا 83 مليوناً، وهي تملك أكبر اقتصاد في أوروبا وأحد أكبر الاقتصادات في العالم.
لقد تعامل لبنان بطريقة كريمة جداً مع اللاجئين الذين تدفقوا إلى لبنان؛ حيث سمح لهم بالاندماج في المجتمع اللبناني، وقد كان اللبنانيون يلجأون كذلك بسبب حروبهم إلى سوريا من قبل، والحصول على فرص عمل والسكن في المدن اللبنانية، وذلك على العكس من الدول المجاورة ذات الاقتصاد الأكبر مثل الأردن الذي حصر كثيراً من وجود اللاجئين في مخيمات مغلقة، ولم يسمح لهم بالدخول إلى البلاد إلا في حالات معينة، كأن يكونوا من كبار المستثمرين الذين هرّبوا أموالهم إلى هذه الدول، الأمر الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس خلال زيارته الاخيرة إلى لبنان إلى شكر اللبنانيين على كرمهم وحسن ضيافتهم للاجئين.
ولقد طالب لبنان مراراً بتقديم المساعدة المالية له لكي يستطيع الصمود، أو إعادة اللاجئين إلى "المناطق الآمنة فقط" في سوريا، مطالبات بقيت دون صدى، بينما الدول الأوروبية استقبلت الأعداد التي تراها مناسبة من اللاجئين قبل أن تغلق أبوابها أمامهم وتشدد الرقابة على منافذها البرية والبحرية، حتى رأينا اللاجئين يموتون غرقاً في البحر أو متجمدين من البرد في غابات أوروبا الشرقية.
لقد رفضت الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية مطالب لبنان المتكررة لدعمه في تحمل موجة المهاجرين أو وضع خطة لإعادة البعض إلى المناطق المحررة، لأنها أرادت استعمال ورقة اللاجئين للضغط على النظام السوري ومارست الضغوط على الحكومة اللبنانية لكي لا تعيدهم قسرياً، وذلك مع أنها كانت تخفض دائماً من قيمة مساعدتها المالية المقدمة لهؤلاء.
كما أن الدول الأوروبية تضغط بقوة على لبنان لمنع الهجرة غير الشرعية من خلال أراضية وعبر المتوسط باتجاه أوروبا، وبالفعل فإن لبنان يضبط يومياً عشرات المراكب الصغيرة التي تحمل مهاجرين غير شرعيين عرباً ضاقت بهم ظروف الحياة في وطنهم، ومنذ بضعة أشهر أغرق الجيش اللبناني عن طريق الخطأ أحد هذه المراكب، ما أسفر عن عشرات القتلى.
ترافق ذلك مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في محاصرة النظام السوري الذي وجد في لبنان المتنفس الوحيد لتأمين حاجاته للبقاء، ما شكل ضغطاً إضافياً على الاقتصاد اللبناني المنهك أساساً، وكان قانون قيصر الأمريكي الذي يفرض عقوبات على نظام بشار الأسد كارثة أخرى على الاقتصاد اللبناني؛ حيث نشطت عمليات تهريب السلع المدعومة إلى سوريا، ما أدى إلى استنفاد الدولارات الباقية في مصرف لبنان، وخسر المواطن اللبناني سلعاً مدعومة كان بأمس الحاجة إليها.
كما لا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس ضغوطاً كبيرة على لبنان لعدم تلقي مساعدات من دول تعتبرها مارقة كإيران والصين وروسيا، في وقت يحجم فيه أصدقاء الولايات المتحدة في الخليج العربي عن مساعدة لبنان لأسباب خاصة لها علاقة بتعقيدات الواقع السياسي في الشرق الأوسط.
كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً شديدة على الحكومة اللبنانية لعدم استخراج النفط والغاز الموجودين في مياه لبنان الإقليمية قبل إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وذلك يؤخر حصول لبنان على أموال يحتاجها بشدة وبأسرع وقت ممكن.
وصحيح أن فرنسا تسعى للعب دور فعال على خط الأزمة اللبنانية، إلا أنها تبدو غير قادرة على تقديم مساعدة حقيقية وفعالة، كما تبدو عاجزة عن إقناع الأمريكيين والعرب بمساعدة لبنان.
لقد بات الشعب اللبناني يرزح بأغلبيته تحت خط الفقر، وأصبح عاجزاً عن تأمين حاجاته من الطعام والدواء بسبب الغلاء الفاحش، وبدأ التميّز اللبناني في حقول الطبابة والتعليم بالتراجع، ما سيفقد لبنان مركزه المرموق في الشرق الأوسط والعالم، وتشير التقارير الأكثر رعباً إلى أن ١٥٪ من أطفال لبنان بدأوا يعانون من سوء التغذية، والأرقام مرشحة للارتفاع.
فهل ستترك الدول الأوروبية والولايات المتحدة الشعب اللبناني يعاني بسبب أزمة كان لهم دور كبير في اشتدادها؟ أم أنهم سيسارعون إلى مد العون إلى شعب لبنان واللاجئين على أرضه كي يتجنبوا كارثة إنسانية محتمة لن تنجو أوروبا منها، بل سيستمر تدفق اللاجئين إليها، والذين سيموت بعضهم طبعاً في الطريق عبر البر والبحر!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.