كثيراً ما لاقيت أبناء الهوسا في تجوالي داخل السودان، فهم يكثرون في أقاليم دارفور وكردفان وتجدهم في القضارف وفي سنار وفي كسلا وفي النيل الأزرق، كما تجد حضوراً كبيراً لهم في ولاية الخرطوم التي زحفوا إليها كما زحف ملايين النازحين بسبب ظروف البلاد.
وكنا نحب أن نتعامل معهم لاجتهادهم وخبرتهم في الزراعة المروية والمطرية، وهي الخبرة المتوارثة عن أجدادهم، فهم لم يدخلوا أرضاً إلا عمروها، ولذلك تجد أكبر تجمعاتهم في المشروعات الزراعية الكبيرة، وعلى امتداد الأنهار والخيران في المناطق الخصيبة، وعلى امتداد الشريط النيلي، ويشتغلون أيضاً في القطاعات القريبة من الزراعة ولاسيما صيد السمك والصناعات الغذائية، وكثيراً ما شاركناهم طعامهم التقليدي الذي انتشر في أنحاء السودان، ولاسيما أقاشي اللحم والدجاج المصنوع بطريقتهم المبتكرة وتوابلهم الخاصة.
قبائل الهوسا هذه، يعلم الجميع أنها تعود في أصولها إلى غرب إفريقيا، وتحديداً في نيجيريا وما جاورها، وهم معتادون على الانتقال والهجرة، فلذلك تجدهم في معظم البلدان جنوب الساحل والصحراء حتى تصل تجمعاتهم إلى البحر الأحمر، وأكثر الدواعي التي جعلتهم ينتقلون إلى السودان كانت رحلة الحج الطويلة التي تمتد لسنوات، ولا يكاد يعود أكثر الحجاج إلى أوطانهم؛ لأنهم يعملون على طول الطريق لتأمين احتياجاتهم، خاصة أنهم كانوا يرتحلون في جماعات مع أسرهم، وكثيراً ما ينقطع بهم الزاد والراحلة فيظلون في أماكنهم ويستوطنونها، وكان الناس ترحبون بهم لاشتهارهم بالتدين الصوفي التيجانيّ والمسالمة والخبرة الزراعية وحبهم للعمل والدأب؛ ونظراً لكثرة تجمعاتهم فقد شكل ذلك حالة استقطاب لأقاربهم وأهلهم الذين كانوا يلتحقون بهم كلما بلَغَتْهم أخبار عن وجود فرص للعمل في المشروعات الزراعية الكبرى، ولذلك ترى كثيراً منهم وفدوا للسودان، زمان ما يسمى الحكم التركي، ثم الإنجليزي؛ للعمل في مشروعات القطن العملاقة في الزيداب بنهر النيل ومشاريع القضارف ومشروع الجزيرة؛ ولكن الثابت الآن أن وجودهم يمتد لبضع مئات من السنين في السودان، وأصبحوا سودانيين منذ أجيال حتى اشتبكت جيناتهم القبلية ببعض القبائل السودانية الكبيرة نتيجة المصاهرات القديمة؛ ولأنهم مشهورون بالتعدد والتكاثر، فقد ازدادت أعدادهم وأصبحوا قوة لا يُستهان بها في صعيد الأعمال والخدمات المصاحبة والتجارات الصغيرة، إضافة إلى القوة التصويتية في أي مربع انتخاب سياسي.
ولم تكن هجرة الهوسا دفعة واحدة، بل أتت على دفعات كثيرة تَضامّ بعضهم فيها على مدى عقود طويلة، وتجمعت فروعهم وبطونهم، وشكّلوا وحدة اجتماعية ذات نسق اجتماعي مشترك متديّن عامل.
وهؤلاء الهوسا ليسوا الوحيدين القادمين من غرب إفريقيا، فهناك قبائل كبيرة وفدت من أماكنهم الأولى، ولاسيما من قبائل الفولاني، وهم في أغلبهم كانوا رصيداً إضافياً لمجتمع السودان المتدين المحافظ، ولاسيما في حقبة مملكة الفونج أو السلطنة الزرقاء وممالك دارفور، ثم في حقبة الثورة المهدية، التي رسمت ملامح السودان الجديد، حيث كانوا رديفاً قوياً للمهدية على مستوى القيادة والجندية؛ ولهذا أصبح الهوسا جزءاً من تاريخ السودان الحديث، وأحد مصادر هويته.
قراءة تحليلية لأحداث إقليم النيل الأزرق
الأحداث الأخيرة التي ضربت مناطق في ولاية النيل الأزرق، ثم تردد صداها في ولاية كسلا وفي حدود ولاية الجزيرة، وتطورت إلى مسيرات هادرة في ولاية الخرطوم، كانت واحدة من تجليات أزمات قديمة وحديثة في السودان، فالأزمة القديمة كانت أزمة الهوية الوطنية مع شدة نفوذ القبيلة وحضور ارتباطاتها في جغرافية انتشارها المتجاوزة للحدود القُطْريّة، وهذه القبليّة تَنشد ابتداء الخصوصية المجتمعية المميزة لها، والحدود الجغرافية الخاصة بها.
والأزمة الحديثة كانت في انحسار ظل الدولة وتعمّق الأزمة الاقتصادية والأمنية واشتعال الفقر وانتشار الغلاء… مما اضطر الجميع في السودان للبحث عن ملاذ آمن، فحضرت القبيلة كبديل جاهز لتأمين الحماية وتوفير الأمن ونشر شبكة التكافل الاجتماعي، وبما أن أكثر القبائل لديها نظامها القديم المنخرط فيما يسمى بنظام الإدارة الأهلية الذي يتمتع بمزايا مدوّنة في دواوين الحكم الاتحاديّ مع وجود نظام قضاء عرفيّ معترف به في بعض الحالات بالتوازي مع القضاء الرسميّ فقد رأت مجموعات قبلية مثل الهوسا نفسها بمعزل عن نظام الإدارة الأهلية رغم وجود رموز وممثلين لهم في كل ولاية، واشتدّت الرغبة لدى قطاع منهم في تمكين القبيلة ضمن النظام الأهليّ وإدارته العرفيّة لاسيما مع تقاصر ظل الدولة وضعف منظومتها الأمنية والشعور باستعدادها لتقديم تنازلات مقابل الحفاظ على الوضع الراهن وعدم تدهوره، فسادت الدعوة لدى قطاعات منهم لتشكيل نظام تراتبيّةٍ قبلية عندهم يشبه نظام القبائل المتوطّنة قديماً في جغرافية انتشار الهوسا، ومع أن شكل هذا النظام في مناطق النيل الأزرق يختلف عن شكله في مناطق أخرى مثل دارفور، حيث لا تملك القبائل الأرض عرفيّاً، وبالتالي فلا وجود لنزاع على الأراضي، فإن القبائل القديمة في النيل الأزرق التي استوعبت تاريخياً موجات القبائل المهاجرة، وكوّنت إطاراً جامعاً لعشرات القبائل المنخرطة في نظام مملكتها القديم "الفونج" شعرت أن تشكيل نظارة قبلية أو عموديات لمجموعات وافدة يستهدف حضورها ونفوذها وامتيازاتها الاعتبارية وحقوقها في أرضها وحواكيرها، خاصة في ظل الظروف التي تمر بها السودان بعد التغيير الكبير الذي حصل بسقوط الرئيس السابق عمر البشير – وهو ما شكّل حالة فراغ سياسي خطير-، وفي ظل التخوفات الكبيرة من أي تغيير يمسّ النظام الاجتماعيّ الهشّ في إقليم النيل الأزرق الذي ظل يعاني من حروب أهلية متصلة استنزفته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنيّاً والخشية… فقد لاقت الدعوات الهوساوية رفضاً قبلياً قاطعاً أدت إلى ردود فعل قاسية لم يعتدها مجتمع النيل الأزرق المتعايش قبلية في تجمّعات مشتركة متعاونة، وبدا أن هذا المجتمع المتعايش يتعرض للتمييز والعنصرية والتفكيك والعزل بالدعوة لطرد بعض الإثنيات وتجريدها من أرقامها الوطنية وإعادتها إلى ديارها الأولى؛ وأسهمت المشاهد الموثّقة في شبكات التواصل الاجتماعي عن تأجيج مشاعر الغضب الممزوجة بالإهانة والرغبة الشديدة في استرداد الهيبة والكرامة…؛ هذا الغضب انفجر بشدة في ولاية كسلا البعيدة وأدى إلى حرق وتدمير مسّ مقرات إدارية لحكومة الولاية وممتلكاتها، وكان أكثر نضجاً في مسيرات الخرطوم الهادرة، وتحوّل إلى مصالحات ميدانية استباقية في القضارف والجزيرة دخل فيها حكماء القبائل بالتعاون مع الولاة وقيادات القطاعات العسكرية والأمنية وبعض القوى الحزبية النافذة وقيادات الطرق الصوفية والمشايخ المحليين.
ومن الواضح أن حدة الاستقطاب السياسي في السودان والصراع الحاد الذي لجأ فيه بعض الفرقاء للشارع أو لنفوذ القوة قد ضخّ مزيداً من الزيت على وقود هذه الفتنة، ولم تكتفِ بعض الجهات برمي المسؤولية على جهات أخرى وتحميلها تبعات المسؤولية أو التخطيط لها ضمن سياسة حافة الهاوية، بل أسهمت مواقف هذه الجهات في تثوير ردود الأفعال وإدخالها في سياق الاستثمار السياسي الخاص بها، وتحويلها إلى أدوات ضغط، مما زاد الأزمة تعقيداً، خاصة في مربّع الحاجة إلى تقديم تشخيص صحيح عن طبيعة الأزمة ومقدماتها وأسبابها وعناصرها الأساسية.
ومن الواضح أن المنطقة التي خرجت قريباً من أتون الحرب الأهلية القبلية وعقدت اتفاقية سلام في جوبا ما تزال تداعيات الحرب قائمة فيها، وما تزال هناك أطراف متضررة من هذا السلام، أو غير راضية عنه بصورته الأخيرة، ولديها تحفظات على مخرجاته، وهناك أطراف تخشى من تغيير بنود الاتفاقية بما يقلل مكاسبها التي انتزعتها… وهذه الأطراف كلها تريد أن تركب موجة الأحداث لتأكيد مواقفها، وربما شاركت بعض مكوناتها في صناعة هذه الأحداث ابتداءً.
الخلاصة
إن هذه الأزمة في السودان ليست طارئة أو مستجدة، بل هي أزمة قديمة تختلف مسبباتها وظروف ولادتها مجدداً، ولكن عوارضها كانت تختفي في ظروف الاستقرار والأمن، وما تلبث أن تتمدد في أقبح صورها في ظروف الاختلال الأمنيّ والأزمة السياسية، وانسداد أفق الحوار المجتمعي والتوافق السياسي، وهذه الأزمات مرشحة لمزيد من الانتشار والعنف إذا لم يصل السودانيون إلى مسار توافق سياسي يمثّل الحد الأدنى من المطالب المشتركة، وحتى هذه اللحظة، فإن ردود الفعل المتوقعة الخطيرة، غير استثمار هذا الحدث وتداعياته سياسياً ستتركز على التهدئة وإطفاء الحريق ومحاولة فرض هيبة السلطة بالقوة والانتشار العسكري دون القدرة على تقديم حلول نهائية بسبب عمق هذه الأزمة وانشغال السياسة بحروبها المستعرة وصراعاتها في المركز والأطراف المشدودة إليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.