كشفت وسائل إعلام عبرية، الجمعة الماضي، عن ارتكاب جيش الاحتلال مجزرة بحق 80 من الجنود المصريين في منطقة وادي اللطرون بالقرب من مدينة القدس خلال حرب حزيران/يونيو 1967.
المعطيات التي تم الكشف عنها بعد 55 عاماً على وقوع المجزرة، ومنعت الرقابة العسكرية ولسنوات طويله نشرها أفادت بقتل جيش الاحتلال 80 جندياً مصرياً بينما تم حرق 20 منهم أحياء باستخدام القنابل الحارقة في جريمة حرب بحد ذاتها.
أما الأسوأ والأبشع من المجزرة نفسها، فطريقة دفن الجنود ومواراتهم الثرى في مقبرة جماعية دون أي مراسم عسكرية أو تحديد هوياتهم أو أي علامات على مكان المقبرة، كما تنص قوانين الحرب المعمول بها والمواثيق الدولية ذات الصلة، بينما بلغ الإجرام والتنكيل حد إقامة مزرعة أشجار لوز فوق المقبرة وفيما بعد مشروع سياحي تحت اسم إسرائيل الصغرى.
المجزرة كانت معروفة طوال سنوات على نطاق واسع في إسرائيل رغم منع الكتابة عنها، وكانت القصة مسألة وقت فقط حتى تكشف أسرارها ولو بعد حين تماماً، كما حصل مع مجازر أخرى ارتكبتها الدولة العبرية في فلسطين والدول العربية المجاورة.
ملاحظات عديدة يمكن تسجيلها على المجزرة بالطبع سواء تلك المتعلقة بطبيعة إسرائيل نفسها أو حرب ونكسة أو للدقة نكبة حزيران/يونيو، وعدم إجراء تحقيقات موسعة وعميقة من قبل النظام المصري بكل تفاصيلها ومآسيها، ثم طريقة التعاطي الودية الناعمة من قبل نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي مع الدولة العبرية حتى بعد الكشف عن المجزرة وتفاصيلها البشعة والدموية، كما تبدى في الاتصال الودي الحميم بين السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، ثم بين وزير الدفاع الجنرال غابي غانتس ورئيس المخابرات العامة عباس كامل بحجة التهنئة بعيد الأضحى المبارك.
إسرائيل دولة قائمة على حد السيف ارتكبت، ولا تزال، مجازر عديدة بحق الشعب الفلسطيني. وفي هذا الصدد تمكن الإشارة فقط وعلى سبيل المثال لا الحصر إلى مجازر كفر قاسم وقبية وخان يونس والقدس والخليل وغزة والجريمة أو المجزرة الأمّ خلال النكبة الأولى في العام 1948؛ حيث قتلت إسرائيل آلاف الفلسطينيين وشرّدت مئات الآلاف منهم، كما دمرت مئات القرى والبلدات العربية الفلسطينية العامرة والمزدهرة.
ارتكبت إسرائيل كذلك جرائم ومجازر عديدة ضد الجيش المصري والمدنيين العزل، منذ جريمة أم الرشراش إيلات في العام 1949 ومدرسة بحر البقر، إلى دفن جنود أحياء وأسرى عزل في العام 1967، وهو ما كان معروفاً أيضاً على نطاق واسع، غير أن ذلك لم يمنع الرئيس السابق الجنرال حسني مبارك من إقامة علاقة صداقة ودية ودافئة مع الجنرال ديفيد بن اليعزر المسؤول المباشر عن قتل الأسرى المصريين في سيناء، بما في ذلك قصفهم بالطائرات ودفنهم في مقابر جماعية دون مراسم أو احترام لقدسية وحرمة الموت، ودون وضع أي علامات أو على المقابر، والتأكد من هوياتهم كما تنص قوانين ومواثيق الحرب الأممية أيضاً.
وأكثر من ذلك فقد كانت طريق بن اليعزر سالكة إلى القصر الجمهوري بالقاهرة طوال الوقت؛ حيث عمل بمثابة رسول أو مبعوث دائم إلى القيادة المصرية.
في السياق نفسه، لا بد من الإشارة إلى حقيقة مؤلمة أخرى مفادها أن نظام نكبة حزيران -كما الأنظمة المتعاقبة في مصر- لم يقم بأي تحقيق جدي في ويلات الحرب ومآسيها، وآلاف بل عشرات آلاف الجنود الذين تركوا لمصيرهم في صحراء سيناء وماتوا جوعاً وعطشاً أو قتلاً من قبل جيش الاحتلال وطائراته ودباباته.
النكبة التي تم تجاوزها والتغطية عليها بشكل منهجي متعمد وكأنها نكسة عابرة، علماً أن المدنيين المصريين في سيناء وحتى الفلسطينيين في غزة كانوا على علم بتفاصيل تلك المجازر وحيثياتها، وبتأكيد الباحثين المصريين والعرب خاصة مع التسريبات المتناثرة، ولكن المتواصلة بالإعلام الإسرائيلي عنها.
وبالعودة إلى مجزرة وادي اللطرون التي تكاد تختصر المعطيات والحقائق السابقة كلها، حيث تم نشر قوات كوماندوز مصرية في المنطقة قرب القدس تنفيذاً لاتفاقية الدفاع المشترك مع الأردن قبل الحرب مباشرة دون أي معرفة أو خبرة بطبيعة المنطقة أو إجراء تدريبات ومناورات ضرورية، ومع ذلك فقد قاتلوا بشجاعة واستبسال في غياب التغطية الجوية والمدفعية والإحاطة شاملة بالمعركة وجغرافيتها، وأي تخطيط جدي ومحترف للقتال تماماً كما رأينا في قرار قائد الصدفة منعدم القدرات عبد الحكيم عامر بالانسحاب من سيناء وغزة في ساعات الحرب الأولى دون خطة ممنهجة ودون قتال، علماً أن الصمود كان بالمتناول أصلاً وأكثر جدوى عسكرياً ومعنوياً في ظل استعداد الجنود العالي للتضحية والفداء.
في كل الأحوال قاتل جنود الصاعقة بجسارة في بيئة مجهولة ومعارك غير متكافئة لدرجة أن إسرائيل استخدمت قنابل الفوسفور الحارقة ضد عشرين منهم على الأقل لحسم المعركة بذهنية إجرامية، ثم قامت بدفنهم في مقبرة جماعية دون وضع علامات أو ما يدل على المقابر وحرمتها، كما تنص الديانات والشرائع السماوية كلها وحتى قوانين الحرب الوضعية.
إمعاناً في الإجرام والبشاعة أقامت إسرائيل مزرعة لوز على المقبرة الجماعية، ثم مشروعاً سياحياً لإخفاء وطمس الجريمة بشكل تام بينما كان من الصعب إخفاؤها إلى الأبد وكان كشفها مسألة وقت فقط.
إلى ذلك جاء ردّ فعل نظام الجنرال السيسي خجولاً جداً وحتى مشيناً؛ حيث لا نقاش سياسي وإعلامي أو ردّ وردح كعادة أبواق النظام مع حرص مبالغ فيه على إبعادها عن الإعلام المسيّر من الضابط القابع في الغرفة السوداء التي تدير البلد بشكل عام، والذي وجد وقتاً للردّ وشن حملة مسعورة عبر أبواقه ضد الناقد والإعلامي النزيه والصادق والمصداق علاء صادق فقط لفضحه ممارسات الضابط وهيمنته التامة على وسائل الإعلام الخاضعة له فيما يشبه التأميم.
وعليه جرى الاتصال بين لابيد والسيسي "وغانتس وكامل" وكأن شيئاً لم يكن، وجاء ودّياً حميماً تم فيه الحديث عن التنسيق السياسي والأمني والتعاون الاقتصادي الثنائي والإقليمي وتكريس التهدئة في غزة والضفة لعدم الإزعاج أو التشويش على أعتاب زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة وفقط في نهاية الحديث الودي والدافئ طلب السيسي من لابيد تحقيق إسرائيل في الجريمة تماماً على طريقة "قالوا للحرامي احلف".
ومن هنا تبدو واضحة جداً الرغبة المصرية الرسمية في تجاوز الملف وإغلاقه والبحث عن ذريعة لذلك، والنظام لم يصعد حتى إلى شجرة عالية كي يضع على إسرائيل عبء توفير سلم النزول له، وفي الجوهر ستحقق هي مع نفسها، علماً أن المهمة يفترض أن تقع على عاتق القاهرة، بما في ذلك جمع معلومات وتكوين صورة شاملة عما جرى، خاصة أن السلطة الفلسطينية كانت قد أقامت نصباً للشهداء المصريين في منطقة وادي اللطرون قبل عشر سنوات تقريباً.
مع انجاز التحقيق الصوري قد تعتذر إسرائيل وقد تبدي حتى الأسف فقط دون الاعتذار أو تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن المجزرة الموصوفة، وسيتم طي الموضوع تماماً، كما جرى من قبل عند الكشف عن تورط صديق مبارك الجنرال ديفيد بن اليعزر شخصياً في مجازر مماثلة بحق جنود مصريين في سيناء.
في الأخير وبناء على المعطيات السابقة لا بد من الإشارة إلى مفاهيم منهجية وأساسية مفادها أن نظام السيسي يمثل امتداداً موصوفاً لنظام نكبة حزيران الانقلابي أيضاً، وسيأخذ البلاد للأسف إلى نكبة بل نكبات جديدة، وهو بالتأكيد غير جدير بالتأكيد بقيادتها أو الدفاع عن أبنائها ومصالحها، كما تجب الإشارة في السياق أيضاً إلى صدمة أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تجاه قتل إسرائيل 78 طفلاً فلسطينياً العام الماضي فقط، واستمرار ما وصفه بانعدام المساءلة عن هذه الانتهاكات، الأمر الذي يجب أن ينتهي بجهود رسمية وشعبية فلسطينية ومصرية وعربية عبر رفع دعاوى أمام محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية لمحاسبتها على تلك الجرائم.
وقبل ذلك وبعده، لا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل نفسها دولة غير شرعية، أياديها ملطخة بالدماء، ولا يمكن إدماجها في المحيط العربي الإسلامي، وما تفعله بعض الأنظمة العربية الاستبدادية الفاقدة للشرعية قد يحقق نجاحاً محدوداً على المدى القصير، ولكنه سيفشل حتماً على المدى الطويل، ببساطة كون الدولة العبرية نفسها إلى زوال، حسب كل المعطيات والشواهد والوقائع التاريخية والسياسية والجيوسياسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.