عندما أسمع إحدى روائع بليغ حمدي الغنائية أتأمل طويلاً في سيرته التي يمكن اختصارها في أربع كلمات هي الحب والشغف والشجن والفوضى، وتكررت هذه المعاني كثيراً عند قراءتي عن بليغ، ولكني أضيف إليها أيضاً الشقاء. لا أستطيع أن أقول إنه كان يعيش حياة التشتت والضياع، بل كانت حياة غير منتظمة وغير تقليدية، ويغلب عليها النمط الرومانسي، فقد تورَّط في سلسلة من قصص الحب المؤثرة، ولكنها كانت تختفي بسرعة، كان يخشى مواجهة مشاكله ويهرب، لا يقلق من غده، ولم يُقِم وزناً للمال أو الوقت طيلة حياته.
علمت ماما "عايشة" أن بليغ الصغير ليس كأقرانه من الأطفال، فقد كان يسرح بخياله عندما يسمع لحناً جميلاً وينسى نفسه ومَن حوله، يُنصت باهتمام إلى عزف أخواته أثناء تلقيهن دروس البيانو، ويظل يكرر نفس الجملة "عايز أبقى مزيكاتي"، وهو يركض في أرجاء البيت حاملاً عوده الصغير الذي أتقن العزف عليه وعمره لا يتجاوز السبع سنوات، صرَّح في إحدى مقابلاته بأنه أمضى طفولته وفي داخله شعور يلح عليه للقيام بشيء لا يعلم كنهه.
بليغ ينتقل بأم كلثوم لعالم آخر
كان يقول إن الكلام يحكم الإحساس، ومن ثم يأتي اللحن، وبعد ذلك تتضح الشخصية التي من الممكن أن تغني ذلك اللحن. حدث ذلك عندما غنّى المذهب الأول من أغنية "حب إيه؟" في السهرة التي جمعته مع أم كلثوم لأول مرة، فعرفا معاً أن هذه الأغنية نصيب كوكب الشرق. اللافت للانتباه أنه كان في أواخر العشرينيات، وكانت سابقة أن تتعاون أم كلثوم مع ملحن شاب غير معروف.
والأغرب أنها استسلمت لمزاجيته وتعاملت معه بمنتهى البساطة، حتى "الساكسفون" الذي أدخله لأول مرة في لحن "فات الميعاد"، استفسرت منه عن الآلة الموسيقية الجديدة، ولكنها لم تعارض. مع العلم أن أم كلثوم كانت تتدخل في عملية خلق الأغنية دائماً، حتى إن الموسيقار رياض السنباطي لم يسْلم من ذلك، ما أدى إلى تأخر غناء "الأطلال" لعدة سنوات بسبب خلافهما على جملة موسيقية.
جاء بليغ في فترة الستينيات ليُحدث طفرة وثورة في عالم الموسيقى، وبالتحديد عالم سيدة الغناء العربي، أدركت أم كلثوم بفطنتها أنها الآن بحضرة الملحن الذي سيجدد رصيدها الفني، وينقلها إلى عالم جديد، عالم مشبع بالروح الشعبية وخفة الدم التي عُرفت عن أهل مصر.
الغرق بين الشعر واللحن
انشغل بليغ في دراسة الأغاني الشعبية المصرية، واستنتج أن الفن الذي يريد تقديمه يجب أن يكون أساسه من التراث والفلكلور، وصرح بعد ذلك بأن الاستغراق في المحلية هو الوصول للعالمية. روى الممثل عبد السلام النابلسي أنه قد زار مرة صديقه عبد الحليم حافظ، وسمع أغنية "عدوية" للمطرب "محمد رشدي" بصوت مرتفع جداً عند دخوله منزله، ومعروف أنها من ألحان بليغ حمدي، وهي الأغنية التي بسببها صار محمد رشدي مطرباً ذائع الصيت.
وجد حليم جالساً يستمع للأغنية بكامل تركيزه، فسأله عبد السلام، ألا ينزعج من ارتفاع صوت الموسيقى، فأجابه حليم: أنا على هذه الحالة منذ ثلاثة أيام، وعندما سأله عن سبب قيامه بذلك أجابه حليم: حتى أعرف لماذا أحبَّها الناس، والأهم من ذلك لماذا أحببتُها أنا. بعد ذلك قام حليم بتغيير خط غنائه الرومانسي بالكامل، وتوجه إلى الألحان الشعبية لبليغ حمدي، مثل "على حسب وداد قلبي" و"سواح" وغيرها من الأغاني الشعبية التي انتشرت كالنار في الهشيم.
كان بليغ عندما يغرق في معاني الشعر لا يقوى على التفكير والتأمل لتدفق ألحان الشجن من كل صوب واستحواذها عليه، ففي أغنية "فات الميعاد"، وقبل أن تتفوه أم كلثوم بأية كلمة تسمع توليفة من أنغام الكمان والقانون والتشيلو، ثم ينساب لحن خجول على الجيتار، وفجأة تنبهك الآلات الإيقاعية بأن هناك مفاجأة على الطريق، فيسمو "سمير سرور" عازف الساكسفون في عالم من أنغام سماوية سلسة، غريبة على أم كلثوم وجمهورها، ولكن لا اعتراض ولا ارتباك، بل توق وشوق للمزيد.
حتى بعد كل هذه العظمة لا يتوقف قطار الشجن عند بليغ فتبدأ جولة أخرى من الترقب عندما تقفز أم كلثوم بخفة من على عرشها، مع أن عمرها كان يقارب السبعين آنذاك! وتتأهب للغناء، ثم يهدر صوتها بفات الميعاد، ويعيش الجمهور بحالة تمتزج فيها الرهبة مع الصدمة لما يقارب الساعة بفعل تواتر الجمل اللحنية الشجية.
حتى إن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب قال عنه في أحد الحوارات: ألحان بليغ تأتي في أيام ونحن ننتهي من أعمالنا في أشهر، بليغ ده محظوظ لأن ربنا بينعم عليه بجمل غنائية عبقرية قلما ينعم بها على فنان كل خمسين سنة.
تابع عبد الوهاب قائلاً: عندما أختلي بنفسي أجدني أدندن له "زي الهوا يا حبيبي"، فهو لحن لا يعمله إلا فنان عبقري، لكن بليغ للأسف مش حاسس بقيمة العبقرية اللي عنده وهي دي مشكلته. كان محمد عبد الوهاب بين الفينة والأخرى يقوم بتقليد أسلوب بليغ حمدي في التلحين، كما في أغنية "ظلموه" و"نبتدي منين الحكاية" وكذلك "في يوم وليلة".
ربما لم تصل "الأنا" عند بليغ إلى مرحلة الغرور، حيث كان لا يحبذ سماع ألحانه بعد الحفلة الأولى، لأنه حسب تعبيره سيدخل في دائرة الإعجاب بالنفس وتضخم الذات، وكان يعتبره أمراً خطيراً، كان يفضل التطلع إلى الأمام للتركيز على مشاريعه الجديدة.
في منزل بليغ
كان منزل بليغ شبيهاً بالمبنى الذي كان يعيش فيه الرسام الأمريكي آندي وارهول (ِAndy Warhol)، الذي تحولت جميع طوابقه إلى مشغل للرسم والإبداع، وقام بتسميته بالمصنع، لكن إحدى المتدربات أطلقت عليه عدة رصاصات ونجا من الموت بأعجوبة. كانت هذه الإصابة أحد أسباب موته قبل بلوغه الستين من عمره، عندما أجريت له بعد عقدين من الزمن عملية روتينية للمرارة، وتوفي في المستشفى نتيجة عدم انتظام ضربات القلب.
أما في حالة بليغ فكانت الضحية مغنية مغربية شابة، جاءت بصحبة أحد الضيوف للسهر في منزل بليغ، وكانت تأمل في أن تفوز بأحد ألحانه. استأذن بليغ من ضيوفه في تلك الليلة المشؤومة، وكان ذلك بعد منتصف الليل لكي يذهب إلى غرفته لينام، لأنه يشعر بالإرهاق الشديد، استيقظ عند الفجر على صوت سيارات الشرطة وهي تحيط بمنزله، بعد الإبلاغ عن العثور على جثة الفتاة في الحديقة أسفل شرفة منزله. قالوا إن ذنبه وشقاءه كانا من حسن ظنه بالناس وسذاجته، ولكني أرى أن مشكلته الحقيقية كانت طيبة قلبه.
بليغ حمدي والعندليب
أظن أن الفنان المبدع البوهيمي يتعمد خلق الأحزان لكي تكون دافعاً له للبحث عن الإلهام الضائع، حدث ذلك مع بليغ، عندما سمح بحدوث القطيعة الكبرى بينه وبين صديق عمره عبد الحليم حافظ، بسبب تفضيل العندليب لأغنية محمد عبد الوهاب "فاتت جنبنا" على أغنيته "هو اللي اختار"، ليقوم بغنائها في عيد شم النسيم في عام 1974. استمر هذا الخلاف عدة سنوات، وتوقف التعاون بينهما بعد تقديمهما أروع الأغاني العاطفية خلال الفترة التي سبقت الخصام، مثل أغنية "الهوى هوايا" و"جانا الهوى" و"حاول تفتكرني" و"أي دمعة حزن لا".
حتى تفاجأ بليغ حمدي بخبر وفاة حليم في لندن خلال زيارته العلاجية السنوية، في نهاية شهر مارس/آذار من عام 1977، فتعطلت تلقائية الشجن عنده، وتوقف تماماً عن العمل لفترة طويلة، وتوالت بعدها الكوارث عليه، فانهار زواجه من وردة، وتم الطلاق في عام 1979، وتورط بحادثة موت -أو انتحار- الفتاة المغربية في منزله، ولم يستطع مواجهة الاتهامات التي أثيرت ضده، وسافر إلى أوروبا وعاش في المنفى خمس سنوات كئيبة خالية من الألحان الجميلة.
لحن بليغ للكثير بعد تبرئته في عام 1989 ورجوعه إلى وطنه مصر، ولكن المحَن التي مر بها جعلته في حالة من عدم الاستقرار والقلق، وبالتالي فقد بريق العبقرية والتلقائية المعهودة. بالرغم من ذلك فقد لحن أغنيتين خالدتين في السنوات الأخيرة من عمره، الأولى "مستنياك" لعزيزة جلال، والثانية "أنا بعشقك"، التي كتبها وقام بتلحينها لميادة.
مشاريع لم تكتمل
وتمنّى لو أطال الله العمر بأسمهان لتسنح له فرصة التلحين لها، وحاول بكل جهده التلحين لفيروز، ولكن الرحابنة قاموا بصده ومنعوه من الالتقاء بها، ربما نتيجة الغيرة وحب الاستحواذ. وعلمت مؤخراً أنه قبل وفاته التقى بالمطربة التونسية صوفيا صادق.
وينقل موقع "تورس" تفاصيل العلاقة: "روت صوفيا صادق تفاصيل لقائها الأول بالموسيقار بليغ حمدي بأنّها كانت في منزلها بتونس، صحبة الشاعر حسونة قسومة، والملحن محمد صالح الحركاتي، رفيقيها في مسيرتها، وفجأة دق جرس المنزل، وفتحت الباب لتجد نفسها أمامها بليغ حمدي قائلة "عملاق من عمالقة الزمن في بيتي في تونس.. هو جاني ما صدقتش فرحت بيه"، مضيفة أنّه قال لها حرفيّاً: اللي جابني لحد عندك هو صوتك موش شخصك، موضّحة أنّ أداءها لبعض أغاني القصبجي كان وراء زيارة بليغ لها، وأنّ زيارة هذا الأخير كانت نقطة تحوّل في حياتها الفنية، مشيرة إلى أنّها كسبت صداقة بليغ حمدي منذ ذلك الحين، لتكون رفيقته إلى آخر يوم في حياته قائلة: كنت معاه في باريس لحظة وفاته عشتها بالتدقيق.
وأكّدت صوفيا صادق أنّها تملك أسطوانة كاملة من أشعار وألحان بليغ حمدي لم تسجلها بعد قائلة: "عندي ذخيرة من بليغ حمدي لم تخرج بعد"، مشيرة إلى أنّه لم يأتِ الوقت لإنجازها على أحسن وجه، كما ذكرت تفاصيل حفظها لتلك الأغاني بمنزله، وكيف كان يرفض تسميته بالموسيقار قائلة: "في رمضان رحت نحفظ عنده في الأغاني قبل وفاته بسنة، صارت أمامي حكاية مشيت لبيته، وكانت أخته المرحومة صفية قاللها جيبلي أوراق النوتة، جابتلو أوراق مكتوبة عليها الموسيقار بليغ حمدي، خذا الورقة وقلها شكون قلك أكتب موسيقار كان أنا موسيقار يبقى عبد الوهاب إيه… قطع الورقة وكتب على ورقة عادية. وقدمت لأوّل مرّة مقطع أغنية من تلك الأغاني وهي أغنية "بلا سبب". انتهى.
ويؤلمني أن أرى التجاهل التام لإرث عبقري التلحين بليغ حمدي حتى في يومنا هذا. قرأت عن مصير مكتبه بعد وفاته، والذي كان يقع بشارع "بهجت علي" بالزمالك، خلف منزل أم كلثوم، واختياره للموقع لم يكن عشوائياً، بل قصد أن يكون قريباً من كوكب الشرق خلال تلحين أغانيها، والتي أحدثت ثورة لتجديد عالم سيدة الغناء العربي.
لكن بعد وفاته بشكوك حول خطأ طبي قام صاحب العقار بتفريغ مكتب بليغ من جميع محتوياته وإلقائها في الشارع، نوتات موسيقية مكتوبة بخط يده، وتسجيلات لروائعه القديمة، ولأغانٍ جديدة كانت موعودة بالعظمة والخلود تنتظر أصواتاً بديلة لعمالقة الطرب العربي، ودفاتر مذكراته وأفكاره وخواطره، ومجموعة كبيرة من صوره وآلاته الموسيقية وأثاثه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.